02 / 09 / 2011, 33 : 01 AM
|
رقم المشاركة : [4]
|
أديب روائي
|
رد: البوهالي 4/ صور من الذاكرة
إنها صور تنبض بالحياة بين أطلال القرية الصامدة وهذه المنازل المهجورة، حقيقة تحتضن مكامن الحزن والفرح؛ تستعيد بين جوانب بيوتها وتحت أسقفها الخشبية حكايات وأسرار لا تتغير حوادثها رغم تغير الرياح في باحاتها وحجراتها المستطيلة، وبين فجوات أبوابها الخشبية الفارعة المفتوحة، لا تخفي ما تكنزه؛ إلا منزل عياش تأبى الرياح العاصفة أن تهب بقربه، ذلك الرجل الذي نضحت عروقه دما في ساحة القرية؛ ندما على ما أقدم عليه، رغم ما عرف عنه من جود وورع يعمل في بستانه بجد وعناء ليقري الضيف ويطعم أبناءه من عرق جبينه، أطفال القرية يعشقون بستانه لما يحويه من أشجار مثمرة وأزهار متنوعة، تتألق جمالا إبان موسم الزهور، وزاده رونقا وبهاء عين جارية تنبجس مياهها وسط البستان؛ تسقي الحرث وتروي زرعه وحقول جيرانه.
الطفلة زهرة ابنة أخيه تهوى ملاحقة العصافير والفراشات في حقله الوارف، لكنها لم ترجع من البستان إلى منزل أبويها كما اعتادت كل مساء، ولم تأت بصحبة عمها كما في أغلب الأحيان، فانتشر خبر اختفائها ونفر الرجال كبارا وصغارا على جيادهم يثيرون نقع المسافات، حاملين المشاعل والقناديل يجوبون الغابات وفجوات الجبال، سالكين طرقا وعرة وسبلا متشعبة، لكن زهرة ليس لها أثر حتى في قعر الآبار المجاورة اعتقادا منهم أنها سقطت في إحداها، فساد الظن أن الوحوش الضارية انفردت بها وسط الغابة المجاورة والتهمتها، فقال قائل: جرفتها مياه اليم بعيدا فغاصت في أعماقه. فكثرت الأقاويل والإشاعات عن اختفائها، لكن لا أحد يجزم القول أو يأتي بالخبر اليقين، فانقطع الرجاء في عودتها ولم تجد أمها الثكلى سلوانا في ما أصابها سوى الجلوس قرب فراشها وتفقد ملابسها، أما أباها "عياد الصوفي" لم يستطع إخفاء حزنه بين الناس لما يكنه لها ولأختيها حبيبة وزينب من محبة جمة، لكن قلبه المنفطر يخفق أملا لرؤيتها من جديد؛ ترتمي على صدره وتنام في حضن أمها، فكلما ألقى نظرة على اللوح والسمخ والصلصال وريشة القصب المبراة ما خطت به أناملها عليه، اغرورقت عيناه بالدموع واحتر فؤاده حزنا وغما وكمدا، تجادله حرقة فؤاده مما يفهم من حديث النفس، لتتزاحم الأسئلة لغة صائتة بين شفتيه، كنسخ مرسوم على لوح فقيدته بحثا عن دلالات مقنعة تشفي غليله ويطمئن لها قلبه، بعد أن جاب الغابات والقفار وهو العليم بما في غياهبها من أسرار، وجال كل القبائل والقرى ولم يأل رجالها له سندا وهو العزيز بين قومه والفارس المغوار، فسأل عنها كل ركب لكن لا أحد لديه العلم اليقين، فإن كانت الطفلة زهرة قضت نحبها فأين جثتها؟ حتى وحوش الغابة لا يضيرها إخفاء معالم جريمتها، فهي براء من دمها، فإن كان اليم ابتلعها فإن جريانه الكاسح لا يعيبه طفو جثمانها في إحدى سواحل القرى البعيدة أو المجاورة، فالنهر براء من إغراقها.. فكيف اختفت؟ وأين؟ ولماذا؟ وهل لأحد مصلحة في اختفائها؟ ومن يكون؟... كلها أسئلة تزاحمت في مخيلته تنبع من عاطفة أب فقد صغيرته، فلن يهدأ له بال إلى أن يجد جوابا لكل سؤال يجول في ذهنه، فمهما بلغ عياد الصوفي وزوجته رقية في حزنهما على ابنتهما، فان عمها عياش سقط أرضا مغشيا عليه حينما علم بالأمر بعد عودته من سفره، فصار شديد التوتر منقطعا عن عمله، قابعا في منزله يثير الشجار مع زوجته لأتفه الأسباب.
اجتمع القوم في مجلس القبيلة إلا عياش لم يكن من بين الحاضرين، لأنه كان مشغولا في تجهيز محراثه الجديد الذي اشتراه من المدينة؛ مقترضا ثمنه بشق الأنفس كما قال لأخيه عياد فقال عنه الفقيه صالح:
- مسكين عياش حبه لزهرة أفقده صوابه، كلما دخل جنانو وتذكرها يجلس يبكي.
فقال الحاج لوليفي:
- زهرة بنتنا كلنا والله يصبرنا على المصاب..
قال قادر:
- إنا لله وإنا إليه راجعون "
ثم أضاف موجها كلامه إلى عياد"
- يا بن عمي يكفيك ما تجري فالغياب، راه لحصان عيا والمكتوب ما عليه هروب، إلى كانت البنت حية القبايل اجيبوها لعندك، والا قدر الله توفات" كل نفس ذائقة الموت" والمومن الصابر يكتبو الله عندو مع الأولياء والصالحين فجنة الخلد، والتفت إلى لفقيه صالح ليعزز كلامه مضيفا:
-" ولا شنو رايك أ لفقيه صالح ؟
كأن لفقيه صالح كان مستعدا للجواب، رافعا يديه إلى السماء خاشعا متضرعا متمتما، لم يسمع أحد ما قاله سوى ما اختتم به دعاءه:
-"... وكفى بنا حاسبين"
فقال بنبرة أقرب إلى الخطابة المفعمة بالوعد والوعيد، موجها نظره إلى شيخ العشيرة ملوحا بسبابته إلى الجمع:
- سمعوا يا هاذ الناس كلام الحق وديرو بالكم، كلشي مكتوب عند الله فالسما السابعة؛ واللي ما تجازى فالدنيا يشوف عذابو فالآخرة...
فقاطعه يحيا قائ
- واه واه واه!! أش كاتعني أصالح!؟ علاه أشنو درنا من معصية باش يعذبنا الله فالدنيا ويزيدنا فالآخرة..خف علينا شويا.. وبزاف ألفقيه!! عيق شويا "
وتابع بصوت منخفض سمعه من هو قريب منه "
- كفانا عذاب معاك فالدوار، شوف لك حد غيرنا فالآخرة حتشم من لي عدالك ترانا مو بجهال عندك.
رغم حساسية الموقف لم يستطع بعض الحاضرين كبت الضحك، وتبادل إشارات موحية بالهمز واللمز، ونظرات الاستهجان حول لفقيه صالح.. تنحنح حينها من مكانه واعتدل في جلسته، بعدما كان متكأ على زنده صوب شيخ القرية مصعرا خذه للحاج لوليفي يحرك فكيه ويتلو كلاما في جوفه غير مفهوم كمن يجتر ما في بطنه المنتفخة ما التهمه، لم يتوقع أن يقدم يحيا على معارضته؛ فارتعدت فرائصه خوفا أن يفهم عياد كلام يحيا بشكل آخر غير مقصود، لأنه يعلم جيدا بالرغم من أخلاق عياد العالية وتجنبه لمواطن الهزل وإعراضه عن اللغو، فانه جاد في معاملة الجميع صغيرا كان أم كبيرا، إلا أن غضبه كالبحر إذا كان مزبدا، كل القبائل القريبة والبعيدة تعرف بطشه إذا صال، ولا يخشى في قول الحق ملامة لائم، وان كان في حق أقرب الناس إليه، حتى الضباع والذئاب الشرسة التي لها رخصا ما اختلست عرضا والذي ضاعا؛ لا تجرؤ على الاقتراب من ماشيته، فكم مرة هاجمها في أوكارها وشردها من موطنها، وحين تعود يعفو عنها ويخفض لها جناح الرحمة فتعي ما أرادها أن تعيه، لكن لفقيه صالح لم يترك الفرصة لعياد أن يعيد النظر في ما قاله، بل رد على مقالة يحيا بعجالة، موجها نظره إلى عياد مقطبا حاجبيه مرة إلى الأعلى ومرة إلى الأسفل كالمتودد بهما إليه، مسلطا لسانه إلى يحيا تقريعا وتجريحا قائلا له:
- اسمع يا قليل لحيا؛ من نهار اللي دخلتي علينا صندوق إبليس والمصايب نازلة علينا بالأطنان، والى المرة الأولى سمحنا لك وخرجتي تتشمس ربعين يوم وتتوضا والتوب، المرة هذي مشية بلا رجعة يا راس الردة..
فرد عليه يحيا كأنه برئ مما تفوه به:
- علاه ياك لباس... أشنو قلت ألفقيه؟
- حسن لك تمشي تلعب مع قرانك يا الكافر قبل ما توقع عليك عقوبتها، ويشوف لك الشيخ شوفة ما تعجبك، والأولى سماح والثانية سماح والثالثة قطيع الراس..
نهض يحيا من مكانه وابتسامة ساخرة تعلو محياه قائلا وهو يغادر المقام:
- إيه ألفقيه.. كلمة الحق عندك ردة وكفر وقطيع الرأس؟!! الله يرحم اللي قال:" العور بين العميان حاكم"
لم يستطع الفقيه صالح النظر في أعين القوم، لعلمه ما توحي به النظرات حين يراها تذكره بما فيه، دون أن تنطق الكلمات به، كأنما يقاس المرء في هذه المجالس بملء فيه، أحس بها كسهم اكتن برفق في كبده، سرت لها نار الغيظ في جسده، فاحمر وجهه كظما وقال في نفسه "إن لم أجد قولا سديدا أحتج به، فان الفقيه لا محالة فه.. فقال بصوت متحشرج لا يقوى على الجهر به، لعلمه بأن من كانوا تبعا يردوا عليه في خطبه، مضوا وانفضوا جميعا من مجلسه ولم يبقى منهم في القوم سوى من سفه فقال:
- سمعتوا الكافر بالله.. سمعتوا أش قال! صرت أنا فقيه الدوار العارف بشرع الله عور..! وأنتو الجماعة عميان..! مزيان تبارك الله.. حاش واش يكون هاذ بنادم عاقل.... صدق اللي قال:" تخنقوا يحزنك تخليه يقهرك،"أيوا هي هاذي وصدق اللي قال " تصحر مع الدراري تصبح فاطر"..
تدخل حينها الشاوش علي ليجبر خاطر لفقيه صالح ويغير مجرى الموضوع قائ
- لعنوا الشيطان والخير في ما اختاره الله، وقالوا سيادنا الوالى ألفقيه:"نهيه نهيه والى عمى سير وخليه".. لبنية مرت عليها ست شهور مالها أثر، ورجانا فالله كبير.. أنا جيتكم قاصد من عند خويا العربي اللي فلمدينة وكلكم كاتعرفوه، جيت طالب وراغب فيد زينب بنت السي عياد الصوفي لولدو مصطفى، واللي يشرط علينا من العين هذي العين هذي.
"ثم نظر بإمعان إلى عياد ليقرأ ردة فعله على ملامح وجهه ثم أضاف:
- آش قال بن عمي عياد؟
فوجئ عياد بالخبر ولم يستطع الجواب، كأن في حلقه غصة تمنعه عن الكلام فقال بعد تفكير وتمعن في ما قاله ابن عمه الشاوش علي والحزن جلي في عينيه ...حرقة ابنته المختفية زهرة واضحة على ملامح وجهه:
- يا بن عمي.. أنت عارف أني ما أرد لكم طلب، وما غادي نلقى حسن منكم، ولكن زهرة بنية صغيرة والبنت عار ناقصة عقل ودين، وقالوا سيادنا الوالى:" المرا لها ثلاث حجات فالدنيا دار باها.. واللا دار راجلها.. واللا لقبر" وصدق من قال:"حفظوهن سورة النور وألزموهن البيوت"، كيف تبغيني نفرح بزينب وزهرة ما دفنتها ش بيدي، وارتاح من هاذ العذاب ..
لم يستطع أحد التدخل في الموضوع والرجل كالأسد الجريح تئن نبرات صوته زئيرا مما ألم به، فتدخل شيخ القرية رغم علمه جيدا أن شخصية عياد بين القوم أقوى من الألقاب أو المشيخة التي عزف عن استلامها منذ أمد بعيد، ولم ينقلها لأخيه عياش أو أبناء عمومته، بل تنازل عنها له عن طيب خاطر آملا أن يكون كفؤا لها في تحمل أمانتها ولا ظلوما حين تحتد شوكته، لكن الجميع يلجئون إلى عياد حين تقوى عليهم الشدائد وتحل الأزمات، ولا يدخر جهدا لدفع البلاء عنهم ومد العون، فهو دائما سندا لهم أيام المحن والنكبات، لكن الشيخ استغل هذا الظرف محاولة منه انتزاع ولو قدر يسير من مكانة عياد المعنوية قدر ما يستطيع، فإن كان من قبل لا يتجرأ على التدخل في أمر يخص عياد في غيابه فضلا عن إصدار النصائح له، وليس كل ناصح بلبيب، لكن الشأن الآن مناسب له كونه كبير القوم وله الرأي في الحل والشد والموضوع محل نقاش في مجلسه، فانتقى الكلمات المناسبة بعناية بعد أن لاكها في نفسه عدة مرات، كقصد خفي عليه حجاب المكر والدهاء قائ
- المصاب كبير وأنت سيد الناس، ولكن يا عياد البنت زينب فسن الزواج وحرام ترد نصيبها، توكل على الله ودير يديك فيد بن عمك علي وخلنا نقراوا معكم الفاتحة، "والله لا يضيع أجر من أحسن عملا"، راه عيونا غطات لبلاد من دوار الشايب حتى لمدينة الأسوار العالية ومن دابا سبع أيام خبار زهرة غادي تكون عندك وإنشاء الله خبار الخير.
لم يعر عياد اهتماما إلى ما قاله الشيخ، بل رفع عينيه إلى الأعلى ثم جال بنظره في وجوه القوم، فعلم مدى الحزن والأسى الذي يعانونه من أجله، كأن كل واحد منهم يود أن يهب عمره وما يملك فدية في سبيل عودة زهرة إليه، ملامح وجوههم تحثه على قبول عرض ابن عمه الشاوش علي، فتروى برهة ثم مد يده إليه فقرأ الجميع الفاتحة مستبشرين خيرا بهذا القران، فعلم شيخ القرية في قرارة نفسه وهو يتمتم الفاتحة في جوفه، بأن كلامه لم يكن له وقع في نفس عياد، ولا أثار اهتمام القوم إلا لفقيه صالح، الذي كان متأثرا معجبا بما أسلفه صاحبه؛ حين كان يهز رأسه بالموافقة في كل كلمة نطق بها سيده.
لم يكن الزفاف في ساحة القرية احتفالا كما كان في الماضي، رغم المحاولات المتكررة من النساء لإضفاء البهجة والسرور على الحفل، فعياد الذي لم يستطع صبرا على فراق ابنته الثانية بعد اختفاء الأولى، امتطى جواده الأبلق وتوغل يسير به بين الأشجار في الغابة الكثيفة، أما رقية رغم تظاهرها ببعض الابتسامات الخجولة؛ فان شعورها وهم يزفون ابنتها لبيت زوجها كأنهم يدقون آخر مسمار على نعشها ليوارونه التراب، فارتمت بين ذراعي اللافطوم وانضمت اليهما عويشة وابنتها البكر حبيبة فتعانقن يذرفن الدمع الغزير، بينما زوجة يحيا تنشد موالا بصوتها الجميل الحزين فترد عليها باقي النسوة حين تقول ما معناه:
لله يا السامعين كلامي
لله يا الشايفين القمر شحال هو عالي
شعاعوا ضوا القلوب وشاف من حالي
دموعه خيوط ساطعة من النور الصافي
دموع الفرحة والأمل والحب الوافي
لله يا السامعين صوتي ردوا على سؤالي
علاش الغالي ما يرخص يبقى دايما غالي
والرخيص.. لو كان تاج علرأس متعالي؟
مرحبا بكم مرحبا عد النجوم وعد اليالي
بدونكم الفرحة ما تم.. والغناء ما يحلى لي
لله يا السامعين صوتي.. ردوا على موالي
قولوا معايا بصوت عالي راه القمر عالي
راه القمر عالي دايما يبقى نوره عالي
قول معايا بصوت عالي
راه القمر عالي ... راه القمر عالي... في حين أسرة"الشاوش مصطفى بالعربي" سعيدة بهذا الزفاف، تتطلع لغد مشرق وسعادة دائمة للعريسين قبل أن تشد الرحال إلى المدينة.
كان من بين الحاضرين في الحفل أسرة قادمة من إحدى القرى الصغيرة النائية، التي يصعب تحديد موقعها بين الجبال الممتدة حول القرية، فقبل أن ينتهي حفل الزفاف امتطوا دوابهم سارين إلى مضاربهم فصادفهم عياد، وألح عليهم المكوث عنده إلى الصباح فقبلوا دعوته، وحمدوا له ضيافته.. فأنس عياد بطرافة ضيفه وحديثه، فهو من لباقته ظهير له على نسيان كروبه، فأمسيا يتسامران إلى وقت متأخر من الليل، لكن الرجل في كل لحظة يمعن فيه النظر ويهم بقول شيء فيصمت، ثم يقول بصوت خافت مغمغما:
- خلق الله من كل شبه أربعين..
فتنبه عياد لكثرة تردده في الكلام وغمغمته فقال له:
- أنت ضيف والضيف على الراس والعين، قل اللي فخاطرك وعليك الأمان
فقال الرجل:
- أنت كريم وسيد الناس وحاش فيك شي ينعاب، اللي كاين هو: واش انت اللي جيت عندنا الدوار من شحال هذي ونسيتني؟... سبحان الله الإنسان كينسى؛ وهادا سر الله فخلقوا؛ وبالإمارة كانت معاك بنية صغيرة.. كتبكي مسكينة بزاف، وكاتقوليك:" ديني عند أمي أعمي..." ......
|
|
|
|