30 / 06 / 2012, 02 : 12 AM
|
رقم المشاركة : [192]
|
شاعرة و رسامة و كاتبة
|
رد: أجزاء من رواية ( تصاميم أنثى )
*** الجزء الثاني و الأربعون ***
... انتفض هو بعد زوبعة نسائية .. فقط ليكمل سلسلة انتفاضاته .. وجها لوجه .. ليكسر ما التصق بخفّه من أشواك .. و يحرق قمصانه الّتي تشبّث بها عطر خبيث .. ذاك الّذي أهدته إياه لأكثر من عيد ميلاد في سنة واحدة، هي عمر الانكسارات المتتالية .. و التّواريخ الّتي ترمز لذكرى مزدوجة .. الذّكرى القاتلة الّتي وقف الاستشهاد عليها عند البزوغ الأول و إطلالة المبكّرة لشمس جريئة، لا تنتمي للشّرق ..كانت تترصّد دموعه ( لموعد مؤجل ) كانت تعلمه جيدا بل و تدوّن تفاصيله على خيوطها الذهبية المنتحرة من فوق جبال محايدة، تلك الّتي تقع زمنيا بين عهدتين، كلّ واحدة مشفّرة بأنثى حين تُسدلُ شعرها الأشقر الطويل، المموّج، فوق ركبتيْ اللّيل و في سكون تام لتخنق بها، رجلا أخطأ توقيت الخروج فمات بين عقارب ساعة آلية .. لا أحد يملك حقّ إيقافها، غير الزّمن المترامي الحدود بين شرق و غرب .. تلك الإطلالة الّتي أبدا ما كانت تصلح لأن توثّق شيئا مقدّسا .. لذلك أخفق في امتلاكها كأنثى .. !!
عزيز قبل عودتي للعاصمة تغيّر من أفضل لأفضل حيث وطّد علاقته بالله و أصبح أكثر ميلًا للعبادة و الانطواء للتأمل الدّيني المحض و شيئا من ممارسة انطباعاته الفكرية على دفاتر كان يجيد حفظها كرسائل شفوية تُدْلَى بين أشجار الزّيتون، في كلّ مساء صيفي حيث يُنصتُ له العالم جبرا و يصفّق أيضا جبرا و الصّمت الآسر حول القرى يوحي بحالة من التآمر الحرفي لوثيقة قد يوقّع عهدها قريبا، توصي بقدسية الجبل كراصد لأهواء النّفس و الحكمة و الحنكة و المروءة ...
في مدة الساعات الطويلة التالية التي غبتها عن القرية فيما بعد انتحر و كأنّ تفاصيل انتحاره حلقة مفقودة في علاقاته الفكرية الكثيرة .. لغز ما يلفّ قضية انتحاره الغريبة .. و كان علي أن ألملم حلقات العقد المتناثرة ثم بعدها أبحث عن ما فقد منها حين قطع الحبل بقوة انجذاب عظيمة .. شيء له علاقة بالغروب المفتعل في تلك الأمسية ..
لا زالت رسالته في ماجستير الحياة مخبّأة بعناية إلهية في أدراج ذاكرتي .. حتى عرضه المكتوم لها لا زال يكابد لوحاتي موقعها على جدار آلامي .. و درجة الامتياز التي تحصّل عليها في آخر لقطة للعرض و التي شنقته على إثرها أنثى بحضور مزدوج للرّغبة الثورية و هي .. و صحفه المقدّسة " الأنثى " الأخرى الّتي تهاوت فوق أوراقها صور الخيانة العظمى .. لا زالت بصماته محفورة بحبري السرّي الّذي لا يجوز لي أن أُفْرِدَهُ على أوراقي إلّا حين تغتالني أنثى و ها قد اغتالني عزيز بصوت الرّجولة ..
لا زال ختمه ينزف على أوراق شجني بخط أحمر ممتقع مشنوق .. تشبهه لحظة موته .. و تشبهني بعده ببضع سنين حين تعرّفت على أنثى الشال يوما خلّفت حقدا و شوقا شنقاني عن كلّ الماضي بشقيه الثوري العربي و الأنثى .. و كنت بحاجة لشيء من الذّكاء حتّى أرمز لهما كصفعة قد تكون قاتلة لحالة الإرباك و الصّمت و السكون المحيطة بذاكرتي و أوراقي و صحيفتي تلك الّتي تعلّمت أن أخطّ فيها عن كلّ يوم و فوق دقاتها العنيفة شيئا من ألمي و حرقتي لتنفجر ..
و لم تنفجر .. و بقيت أنا مربكا بها و بأوصافها للخيانة ..
لذلك هزمني عزيز بذكائه حين رمز بجسده و راياته الوطنية و الزّيتون و كلماته حين قال عنهما :
- أعنف الحب ذلك الذي يتركك بعاهة مزدوجة كمرآة لا يصح أن ترى من خلالها غير وجهك بينما الحقيقة هي تلك المختفية في ذاتك لن تشعر بها حتّى تكسر عنك وهم المرايا و تعتنق الكتمان كحالة تحضير لعاصفة خرساء .. كونها مدمّرة .. ذلك هو الحبّ الممزوج بين ميل مجنون لأنثى أجادت إثقال كاهلك بقضية وطنية فتحقّق الرّهان بأن استعبدتك روحيا لقضيتها و لها و بين حالة الاستعداد لتقبّل الوضع الثوري .. كرهان جديد لامتلاك أنثى أفاقت كي تفكّ عنك حجة الظلام بأن تُشرق لك شمسا تخصّك لوحدك .. كعربي يدرك قيمة النور و انجلاء الظلام .. يؤمن بقضيته حدّ التنكّر لشيء من النّور المدنّس المشكوك في شروقه الغربي ..
ذلك الحبّ لا يصلح لا للاستعباد الجسدي و لا النّفسي بالقدر الّذي يوثّقك أكثر كمشهد عظيم للاستشهاد الرّوحي في سبيل أنثى تقلّدت كلّ الرّموز الوطنية فأصبحت تمثّل كلّ التاريخ حتّى بتفاصيله الصغيرة .. لها مقاسات كلّ الخرائط العربية، و الواجهات الخاصة بكلّ حضور عربي ..
***
تلك الكلمات الّتي قالها عن " طيب خاطر " و إرهاق تمادى في صياغاته النّفسية فوق جسده المنهك فزاده تحرّرا من المفاهيم العقيمة .. محتكرا ما تبقّى من ملاجئ للدمار ليفكّ عنه لعنة السّكون .. أحدثت الفرق بين اللّغة الموقّع عليها في سند رسمي و بين لغته المتروكة كعهد بين الأشجار للتّوقيع الجماعي، بين الوثيقة الساكنة و صفحات السماء الّتي لا تقبل الطّي أو الصمت لبرهة من الزّمن .. بل تقبل التناوب الفصلي و انهيارات الفصول عند كلّ نهاية موسمية و ذلك الرّعد الصارخ من عمق القهر و الغضب ..
لذلك حين وصلتها " أنثاه " إنذاراته الصوتية فقدت أنوثتها العربية و انتماءها .. تلك المرأة الّتي خانته باسم الهجرة أصبحت خرساء تماما إلّا من لغة البلد الّذي اعتنقته كبديل عن شرقيتها و صورتها القديمة، قبل أكثر من عشرين سنة و هي تلاعب حبّات الزّيتون المتساقطة و تبتسم .. تلك الصورة لها وشاح ماضٍ سقيم و خيوط عنكبوت تلفّها كالخيانة تماما ..
عزيز علّمني قبل أن تتنحّى عن نفسي حفاوة الطفولة، و في قمة ذهولي كيف أشدُّ ربطة عنقي بقوة كلّما شعرت بغصّة مفاجئة و كأنّ الغصّة أيضا تخاف الموت شنقا ... فتتوارى و تندثر و تنطفئ كرغبة قديمة .. حين أشعل النجوم حولي بدافع مما اتقدّ بداخله منها و أمرني أن أخرس عنها النّور لثانية أعقد فيها العزم على أن أسيطر على كلّ شيء أراه دخيلا على أفكاري حتّى و إن كانت طاقاته فوق احتمالي .. علّمني كيف أشعل أعواد الكبريت انطلاقا من شفتيّ محاولة لإسقاط لغة النّار فوق الدفاتر الّتي تحتقر اللّغة الّتي نامت قهرا فوق سطورها .. و هي الآمة الّتي تجاوزتها قوانين العبودية فقرّرت أن تحني ذاتها استنطاقا للحرية المرسومة فوق جسدها الأبيض و تنزع عن شفتيها هفوات الذاكرة الحرفية الصامتة .. لتنطق ..
و الأوراق " كأنثى " قد تقبل الذّل على نفسها انطلاقا من سطورها الموهومة بالرّياء .. و قد تحمل من إرهاصات ذاكرتها الحرفية ما يجعل العالم يفتتح ذاته من جديد، انطلاقا من قوة الحرف القاتل ..
عزيز كان يحاور الغروب الّذي يحيد بانتمائه للجهة الأخرى .. رافضا أن يتمثّل بألوانه الحارقة على جسده .. يحاوره كأنّه يتحدث إليها و هو المتّهم بإيصال جرحه إلى الدّفة الأخرى من العالم .. إليها .. و كنت في سرّي أستنطق جرح أبوّتي خلف كلماته ..
- عد أيّها الغروب .. إلى موطنك فإن جسدي وطنا مهجورا لا حدود له .. لا تقاليد تحكمه .. لا عواطف تطوّقه .. " لا مكان فيه يضمّك إليه " .. " لا سماء بذاتي قد تتلوّن بألوانك .. لا ليل و لا شيء من أثري قد يهيم بألوان الشّفق .. و أنا المنطلق بكفّي لأصفع المدن النّائمة خلفك .. فوق جرحي ..
- عد إلى شجرة زيتون حملت رسمك على جذعها الصلب .. فإنه سيقهرك حتما بيوم جديد ..
|
|
|
|