رسالة شوق
رسالتي إلى ذاك القابع على ربى روحي، إلى ذاك المغلف بؤبؤة عيني أرى من تجلياته دنياي. رسالتي إليك وحدك يا من اشتقت لنظرات عينيه وهي ترقب حركاتي و خطوات عمري، يا من اخترتني حبيبتك المفضلة. يا من كنت واسطة عقده ونجمة أضاءت سماء حياته. اشتقت إلى حديثك، إلى ابتسامتك التي كانت تغمرني فرحا. اشتقت إلى قبلتك بين عيني، إلى ضمة بين جناحي صدرك ملؤها الحب و الحنان. يا من فرشت لي الأرض ورودا و نسجت سماء حياتي بخيوط الرضى.
حبيبي، مذ تركتني و روحي تعيش فراغا و قلبي كسير لم يدق طعم السعادة الحقيقية؛ تلك السعادة التي كنت تهدينها كل لحظة عشتها معك، مذ أن وعيت بك، سعادة تهتز الأرض القاحلة لسقياها؛ كنت أشربها و ترويني حتى الثمالة فيفيض كأسي بها ليرتشف من حولي بفيضها.
حبيبي، أينما رحلت أجد ظلك يلازمني وحبك يغمرني، وحين أنظر إلى المرآة أجد عيني تنظر إليك و عينيك تنظر إلي؛ فأنا أنت وأنت أنا و روحي إلى روحك تشتاق.
لن أخط حروفي التي ترسم ذكراك بمداد قلمي؛ وإنما أخطها بدم قلبي الكليم بفراغ منك لأقول لك يا غالي، يا حبيبي، رفيقي وصديق عمري، مذ تركتني و أنا أنقب عن صديق يعوض جزءا من مكانتك فما وجدته.
حبيبي يوم تواريت في متواك الأخير غابت شمسي عن دنياي فاستحالت حالكة السواد، و لم يتنفس بعـدك صبحي و كشر حظي. دنياي بكل ما فيها تغيرت و اصفرت الرياض.
يا آخر أنفاسي و يا حبي الدائم من يسعدني بعدك من يسقيني نبيد الفرح، هو؟ هي؟ لا و لن أُستسقى حتى الثمالة؛ حتى تتمايل أغصان روحي بريح جنتك ورَوْح روحك.
يا غالي مع رحيلك سحبت بساط مهجتي و اقتلعت أوتاد خيمتي ظلا ظليلا كان يحميني من حر يحرقني، من لهيب تلسعني شرارته. انكشف الغطاء عني يوم أسلمت روحك خاضعة لبارئها مودعة إلى برزخها. يومها كان الكل يحسب لإخباري ألف حساب، أُعلم الكبير و الصغير، القريب و البعيد إلا أنا؛ و لأني أنا أنت و أنت أنا فكيف يُخبر من هو ميت حي؟
قدمت البيت و تراءت لي جموع الناس و لم أسأل؛ بكى قلبي على وحيد أخي العليل زهرة قلبي الذي أسميته بنفسي. و حين اقتربت عانقني زهير حبيبي الصغير طويل القامة فصاح و الدمع ينهال على خده "عَمِتو" (عمتي) فحمدت الله على سلامته و نجاته، شرد عقلي... و العيون ترقبني، عانقتني أمي و هي تبكي و تقول ليلى أبوك أبوك .. في البداية لم استوعب قولها أو لم أتقبله.. وسرعان ما تشكلت حولي دائرة بشرية، البعض يعانقني والبعض يرقب مدى انفعالي مع الفاجعة. ولأني أنا هو لم أنفعل، همست لهم امسحوا دموعكم لا تبكوه لا تزعجوا حبيبي لا توقظوه من سباته. أجلست من كان واقفا حولي؛ فسحت الطريق إلى الغرفة حيث يستلقي مستقبلا القبلة، انتزعت مني روحي لتعانق روحه وعيني شاخصة تنظر إلى وجهه المبتسم الذي لم يظهر عليه لون الموت و قد غلفوه بلباس حليبي، ارتمى جسدي على جسده و عانقته عناق الوداع الأبدي، رسمت على جبهته قبلة ما تزال حرارتها تستوطن شفتي. وأنا أقبل وجنتيه سالت دمعة من عينه اليمنى، استغربت أمي وإخوتي الذين دخلوا معي الغرفـة لا لتوديعــه فقـد سبقونـي لذلك؛ وإنما حضـروا ليسجـلوا مشهد نهاية علاقتـي به و هم الأدرى بحبه لي و تناسوا أن لا نهاية بيني و بين الروح التي تسكنني؛ و الدمعة المتسللة من جفن غطى في سباته الأبدي خير دليل على الرابط الذي مازال يربطني برفيق عمري، أنا وحدي يتقن قراءة الدمعة تلك، أنا وحدي من يستطيع تشفير الرسالة التي تحملها. بكى أبــي و جفى دمعي فتجمد الدم في عروقي اصطبغ وجهي بلون كبريتـي؛ فأنا التي مت و ليس هو، هو ما يزال حيا في خلدي، حيا ما دمت كذالك. استغرب الكل لجلدي و صلابتي و جفاء دمعي، و سرت في قوة استمدتها من قوته، عانقت أمي و إخوتي و رجوت الكل ألا يبكي حبيبي، لبست رداء الصبـر و تلحفت بغطاء الجلد حتى تمت مراسيم الدفن التي لا يحضرها إلا الرجال، ولأنـه حبيبـي أنا وحبـي له أحمـق لبست جلبابه و تخفيت تحت طربوشـه و تلحفت سلهامه؛ ارتديت لباسه المفضل الذي يرتديه يوم الجمعة دون أن يشعر بي أحد؛ لأن النساء كانت تطلن من النوافذ أو تصطفن جانبي المنزل يرقبـن خـروج الجنـازة إلا أنا تسللت بين الكتلـة البشريـة ركبـت سيارتـي و تبعت الجنازة في آخر الصف، و روحي تتقدمه وتطوف حول حبيبي كما يطوف الحجيج بالكعبة المشرفة. و روحه تقودني إلى مثواه الأخير.
و عند الدفن كنت واقفة كنخلة شامخة ترقب حفرة؛ سكنه البديل، و أنا أقرا ما تيسر من الذكر الحكيم و أنثر عليه من طيب الدعاء إلى أن توارى عن الأعين إلا عيني أنا.
وفي اليـوم الثالث؛ يوم الزيارة أحطنا بقبر أبي كلنا يدعو له و تراءى لي أبي مرفوع فوق القبر جحظت عيناي و رمقت من الجانب الآخر للقبر أختي رشيدة المقربة إلى قلبي و عينيها تتوسعان و هي تنظر إلي و حين أتممنا الدعاء حدثتها وحدها بما تراءى لي فقالت لي أنها لاحظت تغييرا على وجهي الذي ارتدى كل الألوان في لحظة ما. استغربت أهو أبي ارتقى فوق الأرض ليخبرني أنه برفقتي أم أنها هلوسة الشجن والإشتياقوالنفس شتى شجونها.
ذاك حبيبي أنا الذي ملأ حياتي بذكريات جميلة، رسمها على صفحات عمري، حين أقلبها أحس أنها سكين و ما زلت أعيشها و لأني أنا هو و هو أنا فأبي ما زال حيا في خلدي.