رد: وتر الجبال- قصيدة رثائية لروح الشاعر طلعت سقيرق- للشاعر عادل سلطاني - في ميزان ال
النص الشعري الذي بين أيدينا " وتر الجبال " لا يدعونا إلى الوقوف عند عتبة العنوان أو عند الملاحظة أو التقاط خصوصياته الموضوعية من الخارج ، ولكنه يوجه لنا الدعوة للتوغل أكثر ، عن طريق القراءة المتأنية الواعية ، والإحساس بالمعاناة والألم التي كانت خلف صياغة خصوصية هذا النص الإبداعي ، فبقدر مانوغل في موضوع النص المتناول ، بقدو مايوغل فينا هذا الحزن وهذا الفراق ... وهذا الرثاء .
وَتَرُ الْجِبَالِ يَبُثُّنِي حَيْثُ الْمَدَى
........................ وَجَنَازَةُ الْأَنْغَامِ .. فِي كَلِمَاتِي
وبقدر مانوغل النظر في القصيدة بقدر ما نلاحظ تعلق الأبيات بعضها ببعض مما جوَّد الشعر ، وجعل القصيدة لحمة مترابطة دون حشو زائد أو غريب من الألفاظ والمعاني وأكسبها ترابطا وانتظاما يتسق به أوله مع آخره فجعل القصيدة " كالأجزاء من الصيغ تتلاحق وينضم بعضها إلى بعض ، حتى تكثر في العين ، فأنت لذلك لا تكبر شأن صاحبه ، ولا تقضي له بالحذق ، وسَعة الذّرع ، حتى تستوفي القطعة " -1-
فجاءت القصيدة قطعة بلورية يشع نورها ووهجها بقيم دلالية أسطورية رمزية تاريخية جغرافية ( القدس .. غزة ..طارق ... الزيتون .. جبال أوراس ....البرتقال .....) ليمنحها صفة الوجود واستنباط أغوار الذاكرة من أعماق التاريخ و الوجود الجغرافي فتضفي ظلال المحبة على وتر الكلمات لتكتمل المعزوفة الحزينة الرثائية باستكمال عملية البث والسريان في عروق الكلمة والدلالة والمجاري .. الحزينة المتشعبة.
وَتَرُ الْجِبَالِ يَبُثُّنِي حَيْثُ الْمَدَى
........................ وَجَنَازَةُ الْأَنْغَامِ .. فِي كَلِمَاتِي
ـ ذَابَ الْجَلِيدُ عَلَى ضَفَائِرِ غَزَّةٍ
...................... وَالْحُزْنُ .. يَصْلُبُنِي عَلَى آهَاتِي
ـ إِنِّي احْتَرَقْتُ عَلى مَدَى أَهْدَابِهَا
........................ وَعَلَى الرَّمَادِ .. تَمَرَّدَتْ أَنَّاتِي
ـ وَتَخَلَّلَتْ سُدَفَ الرَّمَادِ وَأَشْرَقَتْ
........................ حَجَرِيَّتِي الشَّقْرَاءُ مِنْ ظُلُمَاتِي
وَتَنَزَّلَتْ حَتَّى الْوَتِينِ .. تَبُثُّنِي
..................... طَقْسَ الْأَسَى وَاسَّاقَطَتْ مِنْ ذَاتِي
فصورة الاحتراق توشي بالتمرد ليكون النور المقاوم لعتمة الموت التي امتدت مسالكهافتنزلت
حتى الوتين فتحولت إلى أجنحةالأسى التي تلتف بذات الشاعر .
وحتما فهذا الحزن ( الظلمة) تتخلله أشعة نور تجاهد في بعث الحياة رغم هذا الألم الذي التحف ذات الشاعر ، فينشأ ذاك الخيط الفاصل بين الرماد والإشراق وبين الحزن والنورمن عتمة الحزن لنلمس أبعاد خيوطهما في البيت التالي "
وَلْتُورِقِي مِلْءَ الضُّلُوعِ .. وَتَسْكُبِي
...................... نُورَ الْحَيَاةِ .. وَتُوقِظِي مِشْكَاتِي
فالنور ماء الحياة ، يقهر الموت والعتمة ، وهو يزيح " ألم الاحتراق ، مما يمنح الشاعر قوة الكلمة
والإحساس ليستعيد ذاته ويعانق كينونته انطلاقا من كلماته .... الحزينة الصادقة
ـ وَتَخَلَّلَتْ سُدَفَ الرَّمَادِ وَأَشْرَقَتْ
........................ حَجَرِيَّتِي الشَّقْرَاءُ مِنْ ظُلُمَاتِي
لكن صدى الحزن ودوامة الألم والعتمة تلاحق الشاعر لتتجاوز ذاته الداخلية لتنتقل إلى المدى القريب البعيد ، وهو ما يؤكد واقع الوفاء الذي يغلف حركية القصيدة، وهو وفاء تنقله حرقة الكلمات و احتراق يتضاعف بقدر التمرد وبقدر الصبر..
هُزِّي بِجِذْعِ الصَّبْرِ .. يَا قِدِّيسَتِي
........................ وَتَبَتَّلِي .. فِي غُرْبَةِ الصَّلَوَاتِ
ـ وَلْتُورِقِي مِلْءَ الضُّلُوعِ .. وَتَسْكُبِي
...................... نُورَ الْحَيَاةِ .. وَتُوقِظِي مِشْكَاتِي
ـ وَلْتُسْهِرِي لَيْلِي الْحَزِينَ .. وَهَدْهِدِي
....................... مَهْدَ الْفَرَاغِ .. وَلَمْلِمِي دَمْعَاتِي
ـ طُوفِي بِقُطْبِ الْحُزْنِ .. يَا حَجَرِيَّتِي
.................... حَتَّى الْجَلِيدِ .. لِسِرِّ مَنْ لَمْ يَاتِ
ـ مُدِّي الْجَدَائِلَ لِلْخِيَامِ .. وَمَهِّدِي
.................... طَقْسَ الْعَزَاءِ .. عَلَى مَدَى مَأْسَاتِي
فالشاعر طلعت الفارس و والفارس - طارق -الفاتح يلتقيان ليجسدارمزا للبقاء الخالد في القلوب قبل صفحات التاريخ ... " والرمز يمكن الإنسان من التخلص من الظرفية والمباشرة ، كما يمكنه من التخلص من الكون المغلق للتناظرات ، فمن خلال الرمز تتسرب ذاكرة الإنسان إلى اللغة " 2- .
فالمتأمل في النص الشعري يلاحظ أن لغته تتسم بالخلق والابتداء والإشارة وبعدية المعنى ، وتحرير الأشياء ، وتجاوز الذات وتحقيق الخلود " اللغة الشعرية هي دائماً ابتداء ، فهي لا تتكلم إلا حين تنفصل عما تكملته : تتخلص من تعبها ، تقتلع نفسها من نفسها حتى لا تتلعثم " -3- .
هكذا يرثي الشاعر المبدع عادل سلطاني شاعرنا الكبير طلعت الإنسان-رحمه الله - ليرسخ تمثلات وقيما لها أصولها الحضارية والثقافية والتاريخية ... الإنسانية إنها قيم الحب و الوفاء التي تحمل إرهاصات لمعان أخرى معادلة لها ، فيصبح الصبر والتجلد والتمرد ... كلمات رموز ناطقة تحيل إلى الرفض والمعاناة .. والغضب والثورة .. والألم الشديد .. ..
تحيتي لكم جميعا ... والرحمة على الشاعر القدير - طلعت سقيرق
-1- عبد القاهر الجرجاني دلائل الإعجاز ط3- 1962- ص 178
2- -141 C . S . Peirce : ecrits sur le signe p
3- أدونيس : زمن الشعر ط٢- 1982- ص 78
|