عرض مشاركة واحدة
قديم 09 / 05 / 2015, 06 : 11 PM   رقم المشاركة : [2]
هدى نورالدين الخطيب
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان


 الصورة الرمزية هدى نورالدين الخطيب
 





هدى نورالدين الخطيب has a reputation beyond reputeهدى نورالدين الخطيب has a reputation beyond reputeهدى نورالدين الخطيب has a reputation beyond reputeهدى نورالدين الخطيب has a reputation beyond reputeهدى نورالدين الخطيب has a reputation beyond reputeهدى نورالدين الخطيب has a reputation beyond reputeهدى نورالدين الخطيب has a reputation beyond reputeهدى نورالدين الخطيب has a reputation beyond reputeهدى نورالدين الخطيب has a reputation beyond reputeهدى نورالدين الخطيب has a reputation beyond reputeهدى نورالدين الخطيب has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين ( فلسطينية الأب لبنانية الأم) ولدت ونشأت في لبنان

رد: ليل مزنر بالنجوم - رواية قصيرة للأديب د. منذر أبو شعر - في الميزان على بساط النقد

التتمة

[align=justify]
[/align]
[align=justify]
4
السيارة الـ الفيراري السبور تناسب جنونك، وبين منزلك ويعفور عشرين دقيقة وربما أقل.. يا ربي سامحني، أنا أحبك وأتوق إليك وأرجوك في كل أموري، أنت ناظر إليَّ، وعارف بخفايا ذاتي، لكن هذا كثير كثير، وما عدتُ أحتمل.

ورغم كثافة سواد همِّك ردَّدتَ بقلب يحترق كدتَ تشم نزيز احتراقه، بل أنت تشمه

حقاًّ:

على أي أرض أحط الرحال

فإنني مللت السفر
وكل العواصم ملَّت أنيني
وحزني وطول السفر
أجوب.. على كاهلي وِزرُ كلِّ القرون
تعبتُ.. وعمر الأسى مستمر


سآتي إليك يا ربي، واعذرني، فأنت تعرف أن ما أفعله ليس احتجاجاً على إرادتك، إنما ما عدتُ أستطيع احتمال المزيد ! ما عدتُ أحتمل !

وأزَّت السيارة على أوتوستراد المزة بجنون، وكاميرات إشارات المرور تلاحقك بغرابة. وتمنيت لو صادفتك دورية سير لتعتقل حماقتك وتقودك إلى مشفى ابن سينا !

يا ربي، هذا ليس انتحاراً.. هذه حادثة سير كارثية أدت إلى وفاتي !

لكن السيارة لم تتمايل على الإطلاق، وتجاوبت بسلاسة مع ضغطك المستمر على البنزين كأنها تشمت بك، بل أخرجت لسانها بسخرية استهزاء بك.

ووصلتَ إلى الفيلا بصحبة بكاء متواصل وأنت غاية في الانهاك، تشعر أن الطريق القصير كان طويلاً طويلاً بلا انتهاء. وأخرجتَ المفتاحَ الآلي من جيبك لتفتح البوابة، ففوجئتَ بالناطور (عز) وزوجته (مزكية) باستقبالك على الباب، وبادرك قائلاً: ـ اتصلتْ بنا المدام.. كل شيء كما تحبه وتريده.

لم تقل شيئاً، وبحزم قلت له: ـ اسمع يا (عز)، لا أريد أن يأتي لعندي أحد، ولا أحب

أن تكلمني أيضاً. (وخطوتَ باتجاه خُن الدجاج): لا أريد أدنى كلام.. لا أريد أدنى

كلام. دعني وحدي.

قعدتَ على الأرض الرطبة، ورائحة الدجاج تزكم أنفك.

وعاودك السؤال الغافي: ماذا تريد ؟ وإلى أين المسير ؟

كان إبراهيم بن أدهم من الأشراف، وكان أبوه من الملوك المياسير، كثير المال

والخدم، والمراكب والجنائب والبزاة، فبينا هو في الصيد على فرسه يركضه، إذ

بصوت من فوقه: يا إبراهيم، ما هذا العبث ؟ ألهذا خلقت ؟ أم بهذا أمرت ؟

(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً) ؟! اتق الله، عليك بالزاد ليوم الفاقة.

هل يأتيك الصوت في هذا الخُن ؟ وأغمضتَ منهك عينيك..

تقول الأسطورة: جلس إبراهيم مرة على شاطئ جبلة يرتق ثيابه، فسقطت الإبرة من يده، فخرجت بعد قليل سمكة وفي فمها الإبرة التي سقطت منه وقد فقئت إحدى عينيها، فسألها عن سبب ذلك، فقالت له: عندما سقطت الإبرة من يدك، تصارعتْ مخلوقات البحر للظفر بها وأعادتها إليك، ولمَّا استطعتُ أخذها لأعيدها لك، لطمني أحدُ الحيتان فقلع عيني. فمسح إبراهيم بيده عينَ السمكة فعادت سليمة، وقال لها: اذهبي، فلحمك حرام عليَّ. وقال لك صياد عجوز خرجت برفقته ذات صباح بعيد: إن إبراهيم تضور جوعاً ذات يوم، فجلس أمام شاطئ جبلة، ففوجيء مع غروب الشمس، بسمكة تقفز من البحر وترتمي أمامه، فمسكها ليأخذها كصيد جاء لوحده، فأدركه الورع، فتركها وقال لها: عودي إلى البحر، فأنت حرة طليقة وحرام عليَّ تناولك.

أحلام ذاكرة رعاع. وتضيف السُّوقة وتتمم ولا تنسى التهاويلَ وكبارَ الدرر لمزيد تشويق وإثارة.

هل التاريخ قصة تكبر وتكبر حتى يكاد يُنسى الأصل والبدء ؟!

: ـ عفواً معلمي.. فقط ضع هذه البطانية تحتك.. الأرض في هذا الوقت رطبة.

: ـ قلت لك لا أريدك ولا أريد أحداً.. ألا تفهم ؟! إياك أن تأتي إلى هنا مرة أخرى.

هل فهمت ؟ لا أريد أحداً !
ووضع البطانية وهو مكسور الجناح، صقراً فقد قوة قوادمه، بل غزالاً شارداً أضاع
رئمه.. هذا الشهم القادم من أقاصي الشمال: ـ كما تريد.. كما تريد. لن نفعل سوى

ما ترغبه وتحبه.

كانت زوجته تقف مذعورة غير بعيد، وتوارت بجسمها المصوص عن عينيك في لحظات مع (عز).

أهذا هو الهدوء الذي ترغبه ؟

أنت الحُوذي أيونا ودجاجات الخُن حصان غوغول !

ومرة ثانية وثالثة وعاشرة محورُك ذاتك ثم ذاتك وذاتك ! من أنت لترى النور وتعانقه ؟! وماذا فعلت حتى يأتيك النور ؟! حاولتَ الانتحار، وذهبتَ إلى خرافة (براق) فتوهمتَ فنقمت ؟!

وأصابكَ داء الشيخوخة فهربتَ !

هذا ليس البدء الذي يحبه الله ويرضاه. هو هروبٌ آخر تمارسه بكامل اتقان، بهدف مزيد إثارة ومزيد تسليط ضوء ! كأسطورة إبراهيم بن أدهم ! اعترف أنك لاتزال تجيد اتقان فن التمثيل !

وهربتَ من دائرة التفاهة إلى دائرة الإثارة !

فعبثٌ كل ما تريده.. معرفة الله والوصول إليه ليست في رخص هذه الطريقة ! وهي ليست في طريقة هَبَل شيخ براق !

والتاريخ حكاية صحيحة إن عرفنا ميزان الخبر، فرُزناه بميزانه، وميزانه جمع مصادره ودراسة رجالته.

تسمع ضجيج سيارات في المدخل ووقع أقدام..

اللعنة، لن يتركوك تهنأ بنعمة عزلتك. أسوار صين ذاتك ليست كشموخ سور الصين ومنعته. دخلتْ سيارة الفيراري كحلية اللون أولاً، وتبعتها المرسيدس السوداء، فالبيجو الحمراء. ونزلت ميريام، فابنك معتز مع الدكتور رشدي، فنجوى مع ابنها الأكبر (راقي)، والحمد لله لم يُحضروا معهم أزواجهم. وسمعتَ زوجتك تأمر:

ـ (عز) اذهب و(مزكية) مع السائقين خارج الفيلا إذا سمحتْ، وسأطلبك عندما

أنتهي.

وخطتْ باتجاه الفيلا، فناداها (عز): ـ مدام أم معتز.. الباشا مع الدجاج !

وهي تكتم استغرابها وتتأكد أنك فقدتَ عقلك: ـ خير خير.. اذهب كما قلتُ لك، وسأنادي عليك. لا تنسى موبايلك !

وهمستْ في أذن الدكتور: ـ هل سمعتَ ؟!

كانت ترتدي طقم جينز من سيلسا جينز، وحذاء رياضياً ملوَّناً من ريبوك، وعقصتْ شعرها إلى الوراء، فبدت أصغر من عمرها بكثير، فرثيت لها. وتبعتها نجوى فخفق قلبك فزجرته.. كأنها صورة أمها قبل عشرة أعوام، بفستان سماوي محتشم برقبة بيضاء، يرافقها معتز، الصورة القديمة لك، بجسمه المفتول، وعينيه الحادتين، وجبهته العريضة، وخطوط شيب أتقن إخفاءها غزتْ رأسه بغتة قبل الأوان. يمشي وراءهم حفيدك (راقي) بحيوية الستة عشر عاماً، وهشاشة آفاقها، بشعره الحليق، وذقنه غير المشذبة، وهمشرية مظهره، يرتدي جيليت جينز بلا أكمام، وتي شيرت عليه رسوم عشوائية، بقدمه بوط رياضي مفكوك الرباط، وهو يقفز بنشاط وعافية كنقزان عصفور أفلت من عشه. ووراءهم متمهلاً الدكتور رشدي برأسه الحليق، وكرشه ووجهه المربع، وعينيه اللوزيتين تحت حاجبين عريضين، ومحفظته الطبية التي لا تفارقه كاسمه.

واقتربتْ نحوك ميريام أولاً، ولمَّا صافحتْ عيناها عينيك أخفتْ وجهها وهي تبكي بصوت مرتفع وجسمها كله يرتجف. فتقدم اتجاهك الدكتور رشدي: ـ ما هذا يا مراد ؟! (وحاول فتح الخُن فوجده مقفلاً) افتح الباب وإلاَّ كسَّرتُ المزرعة فوق رأسك ! (كان بحكم الألفة جريئاً عليك، ولمَّا وجد منك تتابع الصمت) قلتُ لكَ افتح حالاً. أنا لا أمزح.

وأصررتَ على السكوت، وأصرَّ هو على الدخول.. ولمَّا يئس منك، أخذ يهزُّ الباب

هزاًّ عنيفاً كاد يكسره، فصحتَ بملء فمك: ـ لا أريد أحداً.. دعوني وحدي.

وبكيتَ، وارتجَّت المزرعة لبكائك، وقوقت الدجاج وباضت، وشاهدتَ ميريام تبكي ثانية فيبكي معها الجميع.

لكن الدكتور رشدي لم يرحمك، وصاح بك بغضب، وقد تجاوز كل حدود اللياقة: ـ كفى ولدنة. قلت لك افتح.. مهما فعلتَ لن أتحرك، ولن آبه لحركاتك. قم وافتح. ألا تسمع ؟

ملحاح كقراد، ولم يأبه لتذمرك، ولكسره حدود الأدب معك. وقمتَ كالمنوَّم، وفتحتَ

الباب، فأشار بيده إلى أهلك بالانتظار قليلاً : ـ ما معنى هذا ؟! تتصرف كالصبيان ! (وفتح محفظته) مُدَّ يدك. وقاس الضغط، وجهَّز حقنة سريعاً وأعطاها لك دون أن تعترض، فهدأتْ نفسك قليلاً

: ـ قم.. قم معي.

قمتَ مسلوب الإرادة، ثقيل اللسان. ولمَّا وصلتَ إلى الفيلا شعرتَ بارتخاء مفاصلك، وأنك توشك أن تنام.

: ـ سينام أربع ساعات قليلاً.. توتر وإرهاق. اقترح أن نتركه. لا أحد يتصل به. دعوه على الأقل يومين. وسآتي لعنده. لا تخافوا.

فقال حفيدك (راقي): ـ وأنا سآتي معك لأطمئن على جدي.

وقال الجميع: ـ كلنا سنأتي.

وغمز الدكتور رشدي بعينه ميريام، فقالت بعينها للجميع: ـ اتركونا لدقائق.

: ـ مراد يعيش حالة توتر شديد.. وهو بحاجة إلى الهدوء التام.. ولا ضرورة في الإلحاح عليه بالعودة إلى المنزل. دعيه يوماً أو يومين، أو حتى أسبوعاً.. أنا لن أتركه أبداً وسأطمئنك عليه كل يوم.

كانت عينيها تدمع باستمرار، وشهقت مرات، وكانت (نجوى) تشاركها البكاء من بعيد. وتابع: ـ تفضلوا إلى منازلكم.
** ** **

5
يا رب، كم أنا بحاجة إليك.

دققتُ بابك، فتكسرت يدي، وما زلتُ أدق.

وناديتُ، فبح صوتي، وما زلتُ أنادي، وسأظل أنادي.

وخاطبتك دموعي، وأحزانُ روحي، وأشجانُ قلبي، ولن أملَّ.

أنا واقف على أعتابك، أشكو ضعف حالي، وران قلبي، وانكسارَ آمالي. ليس لي غيرك، ليس لي إلاَّك. يا ربي، أعرف أنك معي وناظرٌ إليَّ، تحميني وترعاني، لكنني ما زلتُ أطمع بعفوك، وصفحك، وواسعِ مغفرتك. فارحمني يا كريم.

وأعرف أنه ما يُغني الأعمى سَعة نور الشمس وهو لا يُبصرها، وما يُغني العالِم كثرةُ العلم وهو لا يعمل به. وأنا عرفتُ واهتديتُ وصاممتُ أذن روحي وابتعدتُ ! جعلتُ كنوزي في الأرض فأفسدها السُّوس والدود، وحيث يَنقَب السُّرَّاق، وتناسيتُ أن حيث يكون الكنز يكون القلب، وأنَّ العين هي سراج الجسد، فإذا كانت العين صحيحة فإنَّ الجسد كله يضيء.

وجلالَك، ما أردتُ بغفلتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بعقابك جاهل. لكن سوَّلت لي نفسي بجهل. فالآن مِنْ عذابك مَنْ يستنقذني، وبحبل مَنْ أعتصم إنْ قطعتَ حبلك عني ؟

وا سَوْأتي من الوقوف بين يديك.. ويلي.. كلما كبرتْ سِني زادت غفلتي ! ما أوْحشَ الطريق على مَنْ لم تكن أنيسه، وما أضيقَ الطريق على مَنْ تكن دليله. وا سَوْأتي من الوقوف بين يديك، وا سَوْأتي من الوقوف بين يديك.

كان الوقت ظهراً، وأنت تبكي، لكنك فاقد الحماس في كل شيء. وها قد مضى أسبوع على مغادرتك منزلك، وما زلتَ في مكانك لا تريم.. يتصل بك الدكتور رشدي كلَّ يوم، وتتصل ميريام بـ (عز) وتطمئن عليك. لكنك استطعتَ ـ رغم كلِّ أساك ـ أن تقرأ كتباً هامة في تاريخ حركة الفكر الإنساني، ربما أنستك همَّك للحظات.

كنتَ متمدداً على الأريكة بارتياح، ففُتح الباب بغتة، فامتعضتَ لدخول شاب غريب دون استئذان. فبادرك بلهوجة: ـ السلام عليكم، أنا طاهر عبد السلام .

ببرود: ـ أهلاً !

: ـ كان باب الفيلا موارباً، فلمحتُ سيارتك فأيقنتُ بوجودك، فدخلتُ خلسة دون معرفة (عز) و (مزكية). فعذراً منك.

عجبتَ من معرفته بـ (عز) و (مزكية): ـ بصراحة أنا لا أستقبل أحداً هنا.. وأنا

أيضاً متعب، وإذا أردتَ مني شيئاً فراجع مكتبي في شارع الحمراء واطلب الأستاذ

فايز، وإن شاء يتيسر أمرك.

لصق كثقل جبل ثهلان: ـ يبدو أنك لم تعرفني ! اتصلتُ بك مراراً دون فائدة، وطلبتك في المكتب فقالوا لي إنك مسافر !

: ـ الرقم الذي لا أعرفه لا أرد عليه أبداً !

: ـ أنتَ أعطيتني رقمك، وسجلتَ رقمي !

: ـ عذراً.. يبدو أنني محوته لأني نسيت اسمك !

: ـ توقعتُ ذلك ! ما زال يُلح كخنفساء، وأثقل الناس من أشغل مشغولاً. وهاتفتَ (مزكية) من الإنترفون بجانبك: ـ احضري لي كوب برتقال إذا سمحتِ.

جاءتْ على عجل، وهي فرحة مشرقة الوجه، فقد ظنتْ أن العصير لك، ففوجئتْ بطاهر، فخاطبته بحدة بخطاب الأنثى: ـ أنتِ كيف دخلتِ إلى هنا ؟!

: ـ كان الباب موارباً.. أنا أعرف الفيلا، فدخلت.

: ـ هذا لا يجوز.. كيف تجرأتِ على ذلك.

: ـ دعيه يا (مزكية)، وانتبهي في المرات القادمة. لا أحب أن يتكرر مثل هذا.

كانتْ كتلة من الاستياء. ووضعتِ العصيرَ على الترابيزة بعيداً عن (طاهر) وغادرتْ وهي تدمدم بلهجتها.

وتبعها (عز) بعد دقائق، فطرق الباب، وكانت (مزكية) خلفه: ـ يا باشا أنا أعتذر. (وهو يتفحص طاهر) أنا جاهز.

: ـ لا داعي.

: ـ لو سمحتْ، أنا في الخارج مع (مزكية).

: ـ قلتُ لا داعي. انتبه في المرة القادمة. لا أريد أن يأتي إليَّ أي مخلوق.

: ـ أنا أعتذر.

وأطلَّتْ (مزكية) برأسها: ـ والله نحن آسفون. لو شاهدتُها لأكلتها بأسناني.

: ـ الله يعطيك العافية.

كان طاهر مرتبكاً، ناكس الرأس، يفرك أصابعه صامتاً، وقلتَ له: ـ تفضل اشرب

العصير.

أمسكَ كوب العصير بأصابع ترتجف. وكنتَ خالياً من المشاعر تجاهه. وتفرستَ به:

هو سمح الوجه، في الأربعين من العمر، يرتدي جلباباً نظيفاً، وبقدميه حذاء لامعاً، وتزين وجهه لحية كثة زادته سماحة وطيبة. وجاءك صوته وهو يرتعش: ـ أنا ابن مؤذن الجامع هنا.. بفضلك درستُ في المعهد الشرعي ودخلتُ كلية الشريعة في جامعة دمشق وتخرجتُ منذ سنتين.

: ـ ابن عبد الهادي ؟! ما شاء الله، ما شاء الله.. يا الله، كنتَ صغيراً. وكيف أبوك ؟! شغلتني الدنيا عنه !

: ـ رحمه الله.. أوصاني أن لا أنسى أصحاب الفضل !

: ـ هذه المرة أنا الذي سأعتذر منك ! همومي كثيرة يا بني، وكبيرة دون حدود. لكنني أوصيتُ الأستاذ فايز رئيس المحاسبة عندي بمتابعة أموركم.

: ـ الأستاذ فايز لم يقصِّر أبداً، واللهُ على الدوام في عون العبد.. كان الله في عونك.

: ـ هل تحتاج شيئاً ؟!

: ـ أبداً أبداً.. أموري رائعة والحمد لله. أنا إمام جامع قرية الروضة قريباً من هنا، وأملك بيتاًُ في نفس البلد.. ابني (عبد الهادي) في الصف الثامن، وابنتي (إسعاد) على اسم أمي في الصف السادس، وزوجتي (فريال) ماهرة في فن التفصيل ومعها شهادة بكالوريا.

: ـ جيد.. جيد. أنا جاهز يا بني.

: ـ جزاك الله كل خير.. لا أريد منك شيئاً.. وكما قلتُ لك: جئتُ لأنفذ وصية والدي رحمه الله ! لكَ علينا فضلاً كبيراً.. ومن الفضل شكرُ أهلِ الفضل.

: ـ أستغفر الله.. أستغفر الله.

سعدتَ بسلاسة حديثه.. وأحببتَ أن تعرف عنه أكثر، وتزيل ارتباكه، وأدركت

ببساطة أن الجسد ما هو إلاَّ رداء خارجي للروح، وأنت طلبت الرداء: ـ أخبرني

عن نفسك أكثر.

: ـ تخرجتُ من كلية الشريعة بفضلك.. والجامعة كما تعرف تعطي نقاط معرفة،

وهادي طريق، ولا تعطي كامل المعرفة ومسارب كلِّ الطريق.. لذلك تابعتُ تتمة

العلم بمفردي، والحمد لله، عرفتُ جلَّ مشايخ دمشق وقرأتُ عليهم.

: ـ هل تقوم بالتدريس أيضاً ؟

: ـ أنا خطيب المسجد والإمام، وعندي جلسة علم كل إثنين.. أقرأ حديثاً من صحيح البخاري، وأختار شخصية من التاريخ ألقي الضوء عليها، ويسألني أهل البلد عن بعض الفتاوى.

: ـ هذا يعني أنك تملك مكتبة واسعة.

: ـ ليست مكتبة بالمعنى الحرفي.. لكن ولله الحمد، جميع المصادر والأصول عندي، وإذا احتجتُ إلى كتاب فـ (النت) قريبٌ سهل الاستخدام.

: ـ النت ؟!

بفخر محبب: ـ حتى زوجتي تستخدم (النت).. تفتح على دور الأزياء وتنقل تصاميم الملابس وتعدَِّل عليها بما يتناسب مع عاداتنا ! تجار المالكي والشعلان والصالحية والحمراء يتقاتلون على إنتاجها.

أثار فضولك، وارتسمت بذهنك رحلة ابنتك نجوى لروما: ـ سأذهب معك وأشرب عندك فنجان قهوة.

أشرق وجهه الأسمر، واهتز نشوة وطرباً: ـ صحيح ؟ هذا يوم المنى !

: ـ الآن.. ما رأيك ؟ لن نؤجل الزيارة.

: ـ أهلاً وسهلاً في أيِّ وقت.

وأنتما في الممر باتجاه السيارة قال لك: ـ فهمتُ من كلام (عز) و (مزكية) أنك متعب قليلاً، ولا تحب استقبال الناس في هذا الظرف الطاريء ! وإذا رأى أهل القرية سيارتك سيسارعون بالمجيء إليك، لكن إذا كنتَ معي، فسيظنون أنك شبيه الباشا وليس هو !

: ـ ماذا تقصد ؟!

: ـ أقصد أن تتكرم وتنزل معي !

: ـ لم أفهم !

: ـ ما رأيك أن تركب دراجتي النارية ؟

: ـ دراجتك ؟!

: ـ سآخذ طريقاً جانبياً ولن يراك أحد بإذن الله، وإذا رأوك فلن يعرفوك !

جرأة.. لكنك لا تزال تقول في نفسك: سأذهب لأرى آخرتها.

ظللتَ صامتاً، وظلتْ عيناه تقولان لك: لم تقل رأيك !

ولمَّا سمع (عز) وزوجته وقع خطاك، سارع (عز) يفتح لك باب السيارة، فأشرتَ له أنك ستركب مع طاهر، فكاد يفترسه، وعاودت (مزكية) تتمتم بلهجتها.

: ـ لن أغيب طويلاً.

: ـ مع السلامة يا باشا.

وقالت (مزكية): ـ الله يحفظك ويحميك.
** ** **

6
من غير أن تسافر بعيداً.. تستطيع أن تعرف العالم كله.
ومن غير أن تنظر من النافذة.. تستطيع أن ترى طريق السماء.
وكلما ابتعدت أكثر، كلما قلَّت معرفتك.


كان (طاهر) يسير بطمأنينة وشموخ، كأنه يقلُّ أميراً.. وكان صامتاً، تتحدث عيناه ببهجة، ويطربك شدو خفق قلبه.

دع أذنك تتوقف عن السماع، وعقلك يقف عن تقليب الأفكار.. لتصير روحك فراغاً تحتوي كل شيء.

كن قانعاً بما لديك، واحتفل بالأشياء كما هي.. فعندها ستدرك أنه ﻻ يوجد شيء ناقصاً.. وأن كل العالم صار ملكك.

وثق أنك لن تستطيع السفر في الطريق، حتى تصبح أنت نفسك الدرب.

القرية وادعة أليفة، تستقبلك مفتوحة اليدين، فكل بيت يصافحك ويقول لك: تفضل.

ورغم أن (طاهر) تجنب السير في طريق القرية الرسمي، فقد شاهده بعض المزارعين وسلموا عليه بحرارة، وبالطبع لم يعرفوك، لكنهم دعوك إلى بيوتهم بطيبهم وصدقهم وبساطتهم.

: ـ هذا هو منزلي.. أهلاً وسهلاً.

وفتح ابنه الباب، وقال لك بعينيه الذكيتين: ـ أهلاً يا عمي.. تفضل من هنا.

دخلتَ، فاستقبلك فوح مساكب ورد في كل اتجاه: ـ ما شاء الله، ما شاء الله، اهتمامك بالورود واضح تماماً.

شمخ ثانية شموخه المحبب: ـ نعم، الحمد لله.. هذه الياسمين العراتلي، وهذه القرنفل، وهذه النرجس، وهذه الأقحوان، وهذه الزعفران، وهذه الكاميليا، وهذه الفل. مجموعة متكاملة كمذاقات البشر.. أحبها جميعها.

: ـ غاية في الجمال والذوق.. ما شاء الله، ما شاء الله. (ولتريه أنك مثقف) قال جلال الدين الرومي: الزهور التي في القلب لا تذبل أبداً.. كذلك زهور أنس شفافية حضورك.

واختلستَ منه نظرة، فشمخ ثالثة الشموخ المحبب.

ودخلتَ غرفة (المضافة) في صدر البيت: طراريح على الأرض، توحي بالألفة والحميمية، وتكايا على الجوانب، وفي الصدر خمسة رفوف تحمل كتباً مصفوفة بعناية.

ذهبتَ نحو الكتب بفضول معرفة العناوين، فناداك صوت الصغير (عبد الهادي) وهو يحمل شاياً: ـ تفضل يا عمي.. أهلاً وسهلاً.

وأنت تأخذ منه كأس الشاي: ـ ما شاء الله، ما شاء الله. في أي صف أنت ؟

: ـ في الصف الثامن.

: ـ وما المواد التي تحبها ؟

: ـ كل المواد.

: ـ احضر لي دفاترك لأرى خطك.

كنت تتأمل شعره الناعم، وعينيه المتوقدتين ذكاء، وملابسه النظيفة. ودخل باسماً:

لكن (باسل) أشطر مني، لا أستطيع أن أجاريه.

ـ ومن هو (باسل) ؟:

: ـ (باسل) صديقي في المدرسة. الأول دائماً.

: ـ وأنت أول أيضاً. (وأنت تقلب الدفتر) خط جميل، وترتيب رائع.

وأخرجت من جيبك نقوداً، فقال: ـ شكراً يا عمي شكراً.. سأريك شيئاً.

ظلت النقود بيدك، وغاب ثانية لدقائق، وعاد وهو يحمل صندوقاً صغيراً وضعه على الطاولة أمامك، وقال لك وهو يفتحه: ـ انظر يا عمي.. معي الكثير. في العطلة أستلم محل جارنا أبو بشار كاملاً.

ازددتَ إعجاباً به، وقبلته ثانية وأنت تلمس شعره بحنان: ـ وماذا ستفعل بهذا المال ؟ ستشتري دراجة !

: ـ الحمد لله عندي دراجة.. سأشتري لأمي ماكينة خياطة آلية، ولأختي (فلة) وملابسها، (وهو يضحك) استأذنت من أختي (إسعاد) بتأجيل شراء لعبتها حتى نوفر ثمن ماكينة الخياطة. (وتابع، وفيه شيء كثير من أبيه) إسعاد لا تحب التوفير.. تصرف مدخراتها دائماً.

: ـ سآخذ معي الصندوق وأشتري معك ماكينة الخياطة و(فلة) وملابسها.

: ـ شكراً يا عمي.. شكراً.

وأخرجتَ الموبايل من جيبك وأنت تبتسم: ـ ألو.. أبو أحمد، اشتري لي ماكينة خياطة آلية منزلية من الحريقة، اكتب: سنجر أو براذر، واشتري لعبة (فلة) وملابسها من محل سبيس تون، مواجه حديقة المدفع. واتصل بي عندما تنتهي.

وأرجعتَ لعبد الهادي الصغير صندوقه، فبادرك بالقول: ـ أبداً.. لقد اتفقنا.

وتدخل الأب وهو في غاية السرور: ـ الاتفاق اتفاق. (وبجدية) هذا كثير.. كثير جداً، الله يبارك بعزك وبصحتك ويخلف عليك بالخير.

: ـ الله يديمك فوق رؤوسهم وتشاهد فيهم الخير.

وخرج الصغير لحظات وعاد مع أمه وأخته.

كانت جيدة الهندام، محجبة دون أدنى مساحيق، وجهها كتلة احمرار صحة: ـ شكراً

سيد أبو معتز، شكراً كثيراً، لكن هذا دين برقبتنا. (وأخرجت رزمة أوراق مالية) هذه دفعة على الحساب، لن أقبل بغير ذلك.

وقالت الصغرى: ـ شكراً يا عمو.. شكراً جزيلاً.

وجهها عينان بريئتان. ورفعتها وأنت تقبلها، ففاحت منها رائحة ياسمين: ـ وأنت شاطرة مثل عبد الهادي ؟

هزت رأسها، فأجاب أخوها: ـ توجع قلبي دائماً.. أنا أدرسها.

وقلتَ للأم: ـ أين إنتاجك ؟

: ـ تفضل.

ذهبتَ إلى الغرفة الثانية، فأذهلتك أناقة الملابس التي تحيكها، فاتصلتَ بابنتك: ـ حبيبتي، يجب أن تحضري حالاً.. نعم، الطريق خلف الكازية التي في أول طلعة مضايا، قولي للسائق وهو سيعرف، وعندما ستصلون إلى مدخل البلد اتصلي بي. نجوى حبيبتي، أنا جائع، احضري معك الكبب التي أحبها، وستعمل الشوربة أم هادي.

: ـ سأطلب من ماما أن تحضر معي.. هي أميرة الذوق في مثل هذه الأمور.

وأنت تضحك: ـ مثل هذه الحركات لا تخفى على أبيك.. لقد سافرتِ إلى روما دون أمك.. لعبة ذكية منك. لكن ربما لا يعجب أمك مثل هذا المشوار.. نعم.. نعم.. كما ترغبين. لا مانع عندي.
** ** **

7
وقفت السيارة المرسيدس السوداء قرب منزل طاهر، ونزلت منها ميريام ونجوى والخادم سالي، بينما وقفت شاحنة سوزكي غير بعيد ونزل منها السائق أبو أحمد، فكوَّن أطفال القرية مظاهرة قرب السيارتين، فزجرهم أبو أحمد بصوته المرتفع،

ففروا في كل اتجاه، ثم اجتمعوا ثانية إنما بعيد، فصرخ أبو أحمد ثانية: ـ يا ولاد

الكلب، إذا لم تذهبوا سأضربكم جميعاً.

فخرج طاهر مبتسماً، وقال: ـ تفضلوا.. تفضلوا أهلاً وسهلاً (والتفتَ نحو الأولاد ونادى) عبدو، هؤلاء ضيوفي، لا تسوَِّدوا وجهي معهم.

: ـ أمرك أستاذ، سأحمي السيارتين بنفسي. (واقترب من طاهر بأدب، وهمس في أذنه) السائق الذي معهم وحش يحتاج إلى تأديب.

فربت على كتفه: ـ هم ضيوفي، لا تقل عنهم ذلك. (وبحزم) اذهب إلى المنزل واحضرْ له شاياً. أنت الآن رجل، وسأظل أعتمد عليك في أموري، لا تجعلني أغير رأيي فيك.

تذمَّر بصمت: ـ حاضر.. الشاي سيأتي للسائق في الحال.
** ** **

8
دخلتْ ميريام ونجوى، ففوجئتْ ميريام بجنة الورود، فهتفتْ: ـ يا الله، ما هذا الجمال ؟ جنة ساحرة.

وقالت نجوى: ـ ياي ي.. مو معقول. إبداع مدهش. ما شاء الله، ما شاء الله.

وقالت سالي: ـ بابا، حلو كتير.. حلو كتير.

وكانت (فريال) باستقبالهم على الباب بوجهها الحيي الشديد الاحمرار، وهي تشعر بغبطة واعتزاز، وورائها ابنتها الصغيرة (إسعاد)، موقنة أن نساء البلد سيتحدثن عن هذه الزيارة كثيراً.

وقالت ميريام: ـ سالي، أحضري الأغراض. (ثم وهي تتجه نحوك) اشتقنا إليك يا مراد كثيراً. كيف صحتك الآن ؟

وركضت نجوى وعانقتك وهي تبكي وتقول: ـ الدنيا ليست جميلة دون وجودك معنا.

وقال طاهر: ـ تفضلوا إلى (المضافة).

فقالت ميريام: ـ هل يصح أن نبقى هنا جانب الورود ؟!

: ـ طبعاً، طبعاً. (ونادى) الكراسي يا عبدو.

وبرقة قالت ميريام: ـ أحببنا أن نتغدى عندكم، وقد أحضرتُ لأبو معتز بعض الأكلات التي يحبها.

فضربت (فريال) على صدرها: ـ ليطلب السيد أبو معتز لبن العصفور فيكون بين يديه ! جرِّب سيد أبو معتز. نحن في الخدمة.

: ـ لا، ليس القصد كذلك، مجيئنا كان بمحض الصدفة. وأحببت أن لا أتعبك معي.

: ـ والله أنتم في عيوننا، العتبة لنا وأنتم في الصدارة.

فقالت ميريام : ـ والله إنك أصيلة بنت أصيل، الرجاء أين المطبخ ؟ سنأكل الآن كيلا يبرد الطعام.

: ـ وقهوة أهلاً وسهلاً ؟!

: ـ سنشربها معاً بعد الطعام. لكنْ أريد طاولة لو سمحتِ. سالي ابقِ مع الهانم. ستعجبكِ سالي.. لا تعذبي نفسك، هي ستقوم بكل شيء.

أحضرتْ سالي الطاولة المتآكلة، فجاءت (فريال) ومدت فوقها غطاء أخضر نظيفاً، مشغولة أطرافه بـ (التنتنه)، ثم جلبت إبريق ماء زجاجي وضعت فيه طاقة من الورود، فقالت ميريام: ـ يا سلام، والله عشرة نجوم. سلمتْ يداك. استريحي حبيبتي، البيت بيتنا.. ستقوم سالي بتحضير كل شيء.

: ـ لا أقدر.. لا بد من المساعدة.

: ـ إذن سآتي معك.

وقالت نجوى: ـ وأنا أيضاً.

: ـ لكنْ هذا لا يصح.

: ـ البيت بيتنا، اتفقنا على ذلك.

تناهى إلى سمعك ضحكة ميريام من الداخل بوضوح بصوتها المبحوح: ـ كله ظريف، كله ظريف. أنت فنانة يا حبيبتي.. جميل، جميل في منتهى الأناقة والذوق.

وقالت نجوى: ـ واوو.. بيجنن. (وصفقتْ بفرح)، مذهل، مذهل. (وتابعتْ) والله متل ما يقول ابني: شي بـ (يشلُّ) بل بـ (يعقّد).

فطالت فريالُ النجوم، بل هي طالتها فعلاً ووضعتها كلها في صدرها.. كانت طائراً

خرافياً بأجنحة من نور يحلق في فضاءات الكون متباهياً بحسن جمال أجنحته وقدرته على التحليق دون تعب.

وركضتْ نحوك الصغيرة (إسعاد) وطوقت عنقك وهي تغمرك بقبلات الملائكة: ـ شكراً عمو. شكراً عمو.

فقلت وأنت ترفعها عالياً: ـ الشكر لأخيك (هادي) ثم لي.

: ـ بل الشكر لكَ أولاً ثم هادي. (وأمسكتْ يدك) تعال من فضلك، تعال.

فقال طاهر: ـ حبيبتي فيما بعد.. عمو متعب قليلاً، بعد الطعام إن شاء الله.

: ـ باااابا.

: ـ بعد الطعام كما قلت.

كادت الدمعة تهرب من عينها: ـ كما تريد.

فحملتها ثانية ومسحتَ شعرها بحنان: ـ سأذهب معكِ مشياً إلى الصين. أنا جاهز يا حبيبتي.

فسألتْ بعينيها أباها، فقال: ـ اذهبي، ولا تكوني (لزِّيقة).

: ـ أنا آسفة يا عمو.. لكن ماكينة الخياطة خيال، حلوة كثير يا عمو. أنا أحبك كثيراً كثيراً.

: ـ والماكينة أيضاً من أخيك (هادي).
** ** **

9
لم تنس ميريام شيئاً في اختيارها لأنواع الطعام الذي جلبته من المنزل.. كل صحن كان في منتهى الشياكة: طبق التبولة، فسلطة الناتشوز الرائعة، فبرك الجبنة وبرك اللحمة، فكرات الكروكيت، فشوربة العدس الشهية، فالكبة التي تحبها. وقال طاهر وكأنما حاز هو الآخر كنوز علي بابا، وشعر أن زوجته (فريال) إنما هي بوران بنت الحسن بن سهل وهو الخليفة المأمون واليوم زفافهما: ـ يسلم خيركم، والله الأكل يكفي قبيلة. هذا كثير، كثير جداًّ.

: ـ صحتين وهنا.. مطرح ما يسري يمري.. مسيو مراد أمَرَ وعلينا التنفيذ. لكن تفصيل زوجتك غير معقول.. كأنه من باريس وروما. الله يعطيها العافية. والله شيء يرفع الراس.

أكلتَ كما لم تأكل من قبل، بشراهة ونهم، ومع كل لقمة تردد: ـ يا سلام.. يسلم إيديك يا ميري، والله عشر نجوم.

وتردد نجوى خلفك كنغمة قرار أتبعتْ نغمة جواب: ـ اليوم عيد لنا جميعاً.. عاد وجه بابا إلينا، وعرفنا إبداع مدام فريال، ونأكل الآن من طعام سيدة الطعام ماما.

: ـ والله أخجلتموني. شكراً.. شكراً.

وعملتْ ميريام صحناً قائلة لسالي: ـ قدِّميه لأبو أحمد والأولاد في الخارج.
** ** **

10
نظر (طاهر) إلى ساعته وأخرج الموبايل، وتحدث لدقائق، ولمَّا انتهى قال باسماً: ـ أوكلتُ من يؤذن ويقيم الصلاة غيري.. ما رأيكم أن نصلي معاً ؟

كان المؤذن يقول في ذات الوقت: حي على الفلاح، حي على الفلاح. فقلتَ بارتياح: ـ سرقنا الوقت ولم نشعر.. لتتوضأ النساء أولاً.

أسرعت (سالي) بتوضيب شكل الطاولة، وارتدت امرأتك وابنتك لباس الصلاة، فقالت (فريال): ـ والله يا مدام (أم معتز) أنك جميلة جداًّ بالحجاب أنت ومدام (نجوى)، والله نور على نور. اللهم صلى وسلم على سيد النور.

وأقام (طاهر) الصلاة فقرأ من سورة الحديد بصوت عذب: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللهوما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون).

فبكيتَ، وبكى الجميع. فإنْ كنتَ تريد الفرح الدائم فعليك ألاَّ تنصتَ ـ بعد اليوم ـ بأذنيك بل بقلبك، ثم عليك ألاَّ تنصتَ بقلبك بل بروحك، ودع الأذن تتوقف عن كل سماع. ولتعلم يقيناً أن

الانتصار على النفس هو أصعب من الانتصار على كل غير، وأننا نتشكل بأفكارنا، ونصير وفق ما نفكر به.

: ـ تقبل الله يا جماعة.. في فمي كلمتان.. إذا سمحتم أحب أن نتناقش حولهما للحظات.

فقالت (نجوى) برفعة وهي تتحدث من رؤوس شفتيها: ـ عذراً.. إنْ كان الحديث عن الدِّين، فأنا لا أرغب في سماعه.

باستغراب: ـ لماذا افترضتِ ذلك ؟

: ـ لأنني أعرف ماذا تريد.. ربما غرَّتك دموع خشيتنا. حدث ذلك معي في صلاة التراويح في شهر رمضان الماضي.. (وبحدة طارئة لا تتناسب مع سماحة حديثها) الدِّين ليس كما تقدمونه إلينا. أنا أصلي والحمد لله، لكنني لا أحب التزمت. وطبيعي أن أبكي بين يدي ربي.

ورأتها (ميريام) فرصة لمتابعة الكلام: ـ أنا والأولاد نقوم بالفروض الدينية كلها، لكننا نحب الحياة، فالله خلقنا لنستمتع بها بما أباحه لنا، ولا نتقيد بالشكليات.. الإيمان هنا في القلب، ليس إرخاء لحية، وشظف عيش، أو زهداً وبُعداً عن الناس.. للأسف مشايخنا إمَّا مشايخ (سَلْتة) و(تلبسة) همُّهم بطونهم، وإمَّا مشايخ سلطة مهمتهم التزلف إلى الحاكم وتبرير تصرفاته دينياً !

وكان طاهر يبتسم، ويهز رأسه وهو يقول: ـ صحيح.. صحيح.

وبقيتَ بمفردك، ترعى نبتة غراس روحك، فطالتْ رعايتك لها حتى نسيتَ مَنْ حولك.

لا يُشترط أن ترحل حتى تكون وحيداً في وطن آخر؛ فقد تكون وحيداً في بلدك وبيتك وفي طريقة تفكيرك.

وشوك غصة روحك مَنْ يشعر بها ؟

وأنين صمتك، وليل تقرِّح جفونك، وخرافيُّ حنينك، ودمعة خفق قلبك من بَلَّ لهاة تعبها ؟

مَنْ ينقذك مِنْ تيه تجاعيد الذكرى وما زلتَ تترنح في طرقات الرتابة والضجر ؟

هل تجلس على قارعة القنوط كزهرة أعطت كل ما لديها وما عاد عندها سوى وَهْم

شاحب فتنة فائت شكْلٍ لن يعود ؟

أما آن إيابُ النورس ؟!

هل سيعود ؟! هل آفاق الروح طائر عنقاء تتجدد روحه على الدوام ؟

أما آن إيابُ النورس ؟ هل سيعود ؟ بلى سيعود.

وغمزتْ نحوك ميريام: ـ يا أخونا.. نحن هنا ! أين شردتَ يا مراد ؟!

: ـ أبداً.. أبداً أنا معكم !

ابتسم الجميع، وقال طاهر: ـ المشكلة عندنا هي غرورنا بقشور معرفتنا أننا نعرف كل شيء، فاختلطت في الذهن كل الأوراق، فما عدنا نعرف ضابط صحيح الراوية.

فالزهد، والقرب من الله، ليس رثاثة حال وابتعاداً عن واضح تعاليمه، بحجة الباطن والظاهر، وخرافة تقسيم المؤمنين إلى أهل حقيقة وأهل شريعة، وسخف توهم أن كل صاحب لحية شيخ، وكل باكي عين هو صوفي مستجاب الدعوة، وكل رث الثياب هو القطب الفرد ! أبداً أبداً. الدين رفعة وسمو، وبهرجة الأرض نسعى لها، ونطلبها، لكنها تبقى في اليد وليست في القلب.
عبد الرحمن بن عوف حاز زخرف الأرض وملك مقعده في السماء.. كان أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، وأحد السابقين البدريين، وأحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام، قدرت ثروته وقت وفاته بثلاثة ملايين ومائتا ألف دينار. تصدق منها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، وحمل على خمس مائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمس مائة راحلة في سبيل الله. وأعتق ثلاثين ألف بيت. وكان أهل المدينة عيالاً عليه: ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم، ويصل ثلثاً. وأوصى لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بحديقة، قومت بأربع مائة ألف. وأوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، فكان الرجل يعطى منها ألف دينار. وأوصى بألف فرس في سبيل الله. وقسم لكل امرأة من نسائه بعد موته مائة ألف، اقتسمن ثمنهن ثلاث مائة ألف وعشرين ألفاً. فهو امبراطور المال، والغني الشاكر، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى. فمن قال إن الزهد فقراً وكسلاً وذلَّ حاجة ؟
كانت كلماته تثير كامن حماس، وفتوَّ عزم شباب، ولن تأسى بعد اليوم فالليل ما يزال مزنراً بالنجوم. وقلت مع نفسك بيقين: لقد أمضيتُ زمناً وأنا أدق الباب، ولمَّا فتح الباب، اكتشفتُ أنني كنتُ أطرقه من الداخل، ولم أعرف أن جراحي كُوَى ستدخلني إلى عوالم النور.
ولمَّا صرتَ بالسيارة، وكان أبو أحمد سائقاً، تكلمتَ مع ميريام ونجوى بالفرنسية: ـ حبيبتي، قولي لي رأيك بالتفصيل ؟
: ـ مهما فعلنا ستظل هناك فوارق بين طبقات الناس، ولا يعني هذا أنني أتكبر على من هو أدنى مني، بل يعني أنَّ لهم مساحات صعبٌ أن ألتقي بها معهم، وبالتالي لا أستطيع أخذهم كأصدقاء، ولا أتصور أن أقوم بدعوتهم إلى منزلي، أو أتكلم معهم عن خاص همومي.. ففرق المستوى المادي وهمومه ينسحب على مستويات الكلام أيضاً، فيخلق بالتالي التباين الكبير بين الطبقات. طبعاً أنا أرتاح في طريقة تعاملهم، لأنهم في منتهى الصدق والبساطة، لكن الحدود التي أنا فيها، أحبها، ولا أرضى أن أتجاوزها.. أحب أناقة الملبس والشكل والكلام والتصرفات، وأستمتع بطيبات الحلال.

كل الناس تسمع صوتي إلاَّ أنت تسمع خفق قلبي. ورغم أن أرواحنا تئن في محبسها فقد نسينا أن مفاتيحها فيها.. فهل لا بد لنا من الصمت بعض الوقت حتى نتعلم طرق الكلام ؟ ونجم في ذهنك قول إبراهيم الفقي: لا تتحدث عن أموالك أمام فقير، ولا تتحدث عن صحتك أمام عليل، ولا تتحدث عن قوتك أمام ضعيف، ولا تتحدث عن سعادتك أمام تعيس. اجعل مراعاة شعور الآخرين جزءاً من شخصيتك.
وكان كلامها قد صدمك كصفعة: ـ كيف نجمع الصدق والبساطة وهناءة الحياة؟
: ـ حبيبي (الدروشة) في القلب، وليست في الشكليات.. حتى أنت، لا تستطيع التخلي
عما اعتدتَ عليه فتعيش طريقة عيش الموظفين الذين عندك.
: ـ أتمنى ذلك من كل قلبي. : ـ قد تستطيع العيش زمناً محدداً، وليس زمناً دائماً.
: ـ كان الخلفاء يرسلون أولادهم إلى البوادي ليمارسوا شظف العيش.. ما أسعد من استطاع التخلص من الأغلال التي كبَّل بها حياته.
: ـ أولاد الخلفاء لم يعيشوا في الشظف إلاَّ فترة محددة، ثم يعودون ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي.
أنت داخل المعنى ولستَ ظاهر الكلمات، وعيون من حولك ترى مظهراً لا حقيقة، وتناست أنها ستصير يوماً بصحبة خلوة الدلال، لكنها تصر أن تقيم وراء ستر الأسرار ؟ متى تعرف أن مقامها ليس في هذا الثوب الفاني ؟! وهذا العشق الذي يتوالد فيك من نبع لا تدرك مصدره، لماذا يجذبك لتسير معه فتسلم له قلبك وروحك، فتستمتع به أذنك، ولا تمل شفاهك وهي تردد همس عباراته، لماذا يفتح لك عوالم يقين الأمل، فتصير شرارة تبدأ منها النار ؟
وصرخت بحماس: ـ إصباحات الفجر في ذواتنا.. إصباحات الفجر في ذواتنا.
[/align]
توقيع هدى نورالدين الخطيب
 
[frame="4 10"]
ارفع رأسك عالياً/ بعيداً عن تزييف التاريخ أنت وحدك من سلالة كل الأنبياء الرسل..

ارفع رأسك عالياً فلغتك لغة القرآن الكريم والملائكة وأهل الجنّة..

ارفع رأسك عالياً فأنت العريق وأنت التاريخ وكل الأصالة شرف المحتد وكرم ونقاء النسب وابتداع الحروف من بعض مكارمك وأنت فجر الإنسانية والقيم كلما استشرس ظلام الشر في طغيانه..

ارفع رأسك عالياً فأنت عربي..

هدى الخطيب
[/frame]
إن القتيل مضرجاً بدموعه = مثل القتيل مضرجاً بدمائه

الأديب والشاعر الكبير طلعت سقيرق
أغلى الناس والأحبة والأهل والأصدقاء
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً = وحسب المنايا أن يكن أمانيا
_________________________________________
متى ستعود يا غالي وفي أي ربيع ياسميني فكل النوافذ والأبواب مشّرعة تنتظر عودتك بين أحلام سراب ودموع تأبى أن تستقر في جرارها؟!!
محال أن أتعود على غيابك وأتعايش معه فأنت طلعت
هدى نورالدين الخطيب غير متصل   رد مع اقتباس