رد: إحياء فن المقامة
بديع الزمان الهمذاني - المقامة الدينارية
حَدَّثَنا عيسَى بْنُ هِشامٍ قَالَ: اتَّفَقَ لي نَذْرٌ نَذَرْتُهُ في دِينَارٍ أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلى أَشْحَذِ رَجُلٍ بِبَغْدَادَ، وَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَدُلِلْتُ عَلى أَبِي الفَتْحَ الإِسْكَنْدَرِيِّ، فَمضَيْتُ إِلَيْهِ لأَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ فِي رُفْقَةٍ، قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ في حَلقَةٍ، فَقُلْتُ: يَا بَني سَاسَانَ، أَيُّكُمْ أَعْرَفُ بِسِلْعَتِه، وَأَشْحَذُ في صَنْعَتِهَ، فَأُعْطِيه هذَا الدِّينَارَ؟ فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: أَنَا، وَقَالَ آخَرُ مِنَ الجَمَاعَةِ: لاَ، بَلْ أَنَا. ثُمَّ تَنَاقَشَا وَتَهَارَشَا حّتَّى قُلْتُ: لِيَشْتُمْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ، فَمَنْ غَلَبَ سَلَبَ، وَمَنْ عَزَّ بَزَّ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: يَا بَرْدَ العَجُوزِ، يَا كُرْبَةَ تَمُّوزَ، يَا وَسَخَ الكُوزِ، يَا دِرْهَماً لا يَجُوزُ، يَا حَدِيثَ الْمَغِّنينَ، يَا سَنَةَ الْبُؤسِ، يَا كَوْكَبَ النَّحُوسِ، يَا وَطَأَ الكابُوسِ، يَا تُخْمَةَ الرؤُوسِ، يَا أُمَّ حُبَيْنِ، يَا رَمَدَ العَيْنِ، يَا غَدَاةَ الْبَيْنِ، يَا فِرَاقَ المُحِبَّيْن، يَا سَاعةَ الحَيْنِ يَا مَقْتَلَ الحُسَيْنِ يَا ثِقَلَ الدَّيْنِ يَا سِمَةَ الشَّيْنِ يَا بَريدَ الشُّؤمِ يَا طَرِيدَ اللُّومِ يَا ثَرِيدَ الثُّومِ يَا بَادِيةَ الزَّقُّومِ يَا مَنْعَ المَاعُونِ يَا سَنَةَ الطَّاعُونِ يا بَغْيَ العَبِيدِ، يَا آيَةَ الوَعِيدِ، يَا كَلامَ المُعِيدِ، يَا أَقْبَحَ مِنْ حَتَّى، في مَوَاضِعَ شَتَّى، يَا دُودَةَ الكَنِيفِ، يَا فَرْوَةً فِي المَصِيفِ، يَا تَنَحْنُحَ المُضِيفِ إِذَا كُسِرَ الرَّغِيفُ، يَا جُشَاءَ المَخْمُورِ، يَا نَكْهَةََ الصُّقُورِ، يَا وَتِدَ الدُّورِ، يَا خُذْرُوفَةَ القُدُورِ، يَا أَرْبُعَاءَ لاَ تَدُورُ، يَا طَمَعَ المَقْمُورِ، يَا ضَجَرَ اللِّسَانِ، [...] يَا مُؤَاكَلَةَ العُمْيَانِ، يَا شَفَاعَةَ العُرْيَان، يَا سَبْتَ الصِّبْيَانِ، يَا كِتَابَ التَّعَازِي، يَا قَرَارَةَ المَخازِي، يَا بُخْلَ الأَهْوَازِي، يَا فُضُولَ الرَّازِي، واللهِ لَوْ وَضَعْتَ إِحْدَى رِجْلَيْكَ عَلى أَرْوَنْدَ، وَالأُخْرَى عَلَى دُنْباوَنْدَ، وَأَخَذْتَ بِيَدِكَ قَوْسَ قُزَحَ، وَنَدَفْتَ الغَيْمَ فِي جِبَابِ المَلائِكَةَ، مَا كُنْتَ إِلاَ حَلاَّجاً.
وَقَالَ الآخَرُ: يَا قَرَّادَ القُرُودِ، يَا لَبُودَ اليَهُودِ: يَا نَكْهَةَ الأُسُودِ ، يَا عَدَماً فِي وُجُودٍ، يَا كَلْبَاً فِي الهِرَاشِ، يَا قِرْداً فِي الفِرَاشِ،[...]، يَا أَقَلَّ مِنْ لاشٍ، يَا دُخَانَ النِّفْطِ، يَا صُنَانَ الإِبْطِ، يَا زَوَالَ المُلْكِ، يَا هِلاَلَ الهُلكِ، يَا أَخْبَثَ مِمَّنْ بَاءَ بِذُلِّ الطَّلاَقِ، وَمَنْعِ الصَّدَاقِ، يَا وَحْلَ الطَّرِيقِ، يَا مَاءً عَلى الرِّيقِ يَامُحَرِّكَ العَظْمِ يَامُعَجِّلَ الهَضْمِ يا قَلَحَ الأَسْنَانِ، يَا وَسَخَ الآذَانِ، يَا أَجَرَّ مِنْ قَلْسٍ، يَا أَقَلَّ مِنْ فَلْسٍ، يَا أَفْضَحَ مِنْ عَبْرَةٍ، يَا أَبْغَى مِنْ إِبْرَةٍ، يَا مَهَب الخُفِّ، يا مَدْرَجَةَ الأَكُفِّ، يَا كلِمَةَ لَيْتَ، يا وَكْفَ البيْتِ، يَا كَيْتَ وَكَيْتَ، واللهِ لوْ [...]دَلَّيْتَ رِجْلَكَ في التُّخُومِ، وَاتَّخَذْتَ الشِّعْرَى خُفّاً، وَالثُرَيَّا رَفَّاً، وَجَعَلْتَ السَّماءَ مِنْوَالاً، وَحِكْتَ الهَوَاءَ سِرْبالاً، فَسَدَّيْتَهُ بِالْنَّسْرِ الطَّائِرِ، وَأَلْحَمْتَهُ بالفَلَكِ الدَّائِرِ، ما كُنْتَ إِلاَّ حَائِكاً.
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشامٍ: فَوَ اللهِ مَا عَلِمْتُ أَي الرَّجُلَين أُوثِرُ؟! وَمَا مِنْهُما إِلاَّ بَدِيع الْكَلاَمِ، عَجِيب المَقَامِ، أَلَذ الخِصَامِ، فَتَرَكْتُهما، وَالدِّينَارُ مُشاعٌ بَيْنَهُمَا، وانْصَرَفْتُ وَمَا أَدْرِي مَا صَنَعَ الدَّهْرُ بِهِمَا.
|