رد: (حين جاؤوا كالذئاب الجائعة) للقاصة هدى الخطيب في الميزان على بساط النقد
حين جاءوا كالذئاب الجائعة
عنوان يفتح شهيتنا الى الولوج فى متن القصة محملين بدهشة السؤال التى دفعتنا إليها الظرفية " حين" والفعل الحركى " جاءوا" والتشبيه المثير للقلق " كالذئاب" إذا فنحن امام عنوان مرواغ , يملك قوة التصوير الثابت وديناميكية الحركة القصصة فيرسم لوحة مرئية ومسموعة ومتحركة ثم تاتى الصفة " الجائعة" تعمق معنى الدرامية فى العنوان وتحيل العنوان الى باعث على قلق الأسئلة "ماذا فعلوا حين جاءوا كالذئاب الجائعة؟ ومن هم الذين جاءوا؟ وغير ذلك مما يمكن ان نسمية أسئلة الدهشة , وهذه الأسئلة يجيب عليها متن القصة بتوهجه القصصى ويفسر ما استشكل فى العنوان بقصد المرواغة والتشويق , هنا يصبح العنوان جزءا من متن القصة شديد التلاحم بالفضاءات السردية للقصة وفى هذا مهارة قصصية مغايرة و فلقد تعودنا ان يكون العنوان فى العمل الأدبى مختزلا لموضوعه الجوهرى ملخصا له بعيدا عن حدود التماهى والذوبان فى المتن , اما هذا العنوان الذى نحن بصدده - فى تقديرى - أفضل من عنوان الاختزال لأنه جزء من متن القصة.
وحين يدفعنا العنوان دفعا محاطا بالدهشة والشوق إلى متن القصة نكتشف ان القاصة قد ضحكت علينا حين استهلت قصتها استهلالا يبدو ساذجا وبسيطا بعيدا عن فورة البدايات النصية الفاقعة "تجاوزت مرفأ السان لوران النهري بجسوره و مقاهيه و خيامه و أرصفته الطويلة التي تقف عندها البواخر المسافرة عبر هذا النهر الكبير
أكنت أسير على هدى أم على غير هدى؟!!
كلّ خلية بدمّي كانت تشتعل في شراييني مع لبنان الذي يشتعل، درّة أمتنا و أجمل لوحاته، لبنان الحبيب بلد أمّي و ابني الذي, ولدت و نشأت فيه و عشقت كلّ ذرّة من ترابه الذي يضمّ قبر أبي، ذلك القبر الذي من المفترض أن يضمني يوماً معه كما أوصيتُ إن لم تعد حيفـا."
فهذه البداية قد يتوهم البعض انها بداية تقليدية اقرب الى التقرير منها إلى الفن ولكن المدقق فى الخطاب القصصى للقصة يكتشف انها بداية ساحرة فالقاصة كانت تسعى هنا الى خلق عالم مواز لهذا العالم الفيزيائى الذى تعيشه والذى فقدت الانسجام معه نفسيا وروحيا بفعل ما تحقق فيه من فساد وغياب للقيم التى تنسجم مع روح الفنان الشفافة فحاولت ان تخلق عالما آخر هاربة من هذا العالم وقبل ان تهرب من عالمها هذا كانت تشبع عين الكاميرا التى ترصد اخر ما تبقى لها فى هذا العالم فأصرت ان تصوره لنا فى كادر تفاصيلى يلتقط فضاءات المكان حتى تضعنا فى مقارنة بين هذا العالم الذى هجرته والعالم الذى خلتقه فهى تجاوزت مرفأ السان لوارن والمقاهى والخيام والأرصفة وغير ذلك, انها تحاول ان تضع هذا العالم اما التقاط المتلقى حتى تبرر به الهروب الى العالم الاخر وهى فى خلال هذا الانتقال من عالم الواقع الى عالم الهروب وضعت بطلتها الهاربه فى منتصف الكادر حتى تعمق المعنى القصصى بشكل جيد حين تضع نفسها بين قوسى الحياة والموت وتنثر بينهما القضية اللبنانية وحيفا وغير ذلك كنوع من سد فراغ العجز عن تحقيق حلم هذه البلاد المغلوبة وهذا ما يمكن ان نسميه حسن التخلص بين فضاءات السرد حين تنتقل من فضاء سردى إلى فضاء سردى آخر.
والقاصة حين انتقلت بنا غلى العالم الآخر كانت واعية تماما لما تفعل وواعية بشرط الفن القصصى , فلم تخلق عالما موازيا مملوءا بالدعة والراحة النفسية والهدوء بل خلقت عالما اكثر اشتعالا " أتيت يا سيدتي من مكان أبعد من أن يخطر لك على بال، من كوكبٍ بعيد اسمه الزهير يشبه إلى حدٍ ما كوكب الأرض في مجموعته، يدور،حول شمسه وله قمر لكنه كان أكبر من كوكبكم و أقدم وعليه كان يومنا أطول من يومكم بمرّات و معدل أعمارنا أطول من أعماركم و وصلنا لحضارة و اختراعات أكثر تقدماً منكم، كان لنا أنبياء و رسل، فينا الملحدون و الموحدون و غير ذلك، فينا الأشرار و الأخيار و بين ذلك،و كان الصراع بين الخير و الشر و الحقّ و الباطل على طول الزمان، إلى أن تطاول الشرّ و استفحل.
كان لدينا قديماً منفى شاسع في أقصى الزهير يدعى إيباما ينفى إليه المجرمون و المرتزقة من حثالة الشعوب ليعيشوا بشرورهم معزولين، و مع ازدياد الحضارة والاختراعات و العلوم ما عاد هؤلاء معزولين و بالرغم من أنهم خليط أصبحوا كأنهم أمّة تزداد قوة و منعة.
وهذا يشير الى ان القاصة مسكونة بوطنها مهمومة بقضاياه حتى فى لحظات التغيب الروحى فاولطن يسكن فى اللاوعى ومن ثم لك يكن فى البقاء دعة ولا فى الهروب نجاة, فهذا العالم الميتافيزيقى الذى خلقته مسكون ايضا بالهزيمة فى الكوكب الىخر واغتصاب الأرض والهمجية العدوانية وغير ذلك فهو عالم مواز لكنه ليس مختلفا وفى هذا التكوين قمة التفجر الدلالى والتوهج القصصى
فدرامية السرد لم تبرز هذا الحد الفاصل بين الواقعى واللاواقعى فى هذه القصة الجميلة ووعى القاصة جعلها توظف ضمير المتكلم بعناية وهو من الضائر المحفوفة بالمخاطر اذ يوهم المتلقى ان بطل القصة هو نفس المؤلف واذا لم يكن كاتب القصة شديد الوعى سوف يسقط فى هذا الشرم الذى يؤدى الى ارتفاع صوت القاص / المؤلف وخفوت صوت السارد الضمنى / المحرك لآلية الخطاب السردى فى النص , بيد ان القاصة هنا نجحت تماما فى البعد عن الوقوع فى هذا الشرك الفنى
كما ان اللغة المستخدمة فى هذا النص لغة بسيطة وعميقة تمنح النص جمالياتها العفوية فى بساطتها وتجعل الدلالة الكبرى فى النص منسجمة تماما مع اللغة المعبرة عنها كما انها لغة تتسم بالإحياء اللمزوج بالجمال وتحقق عنصر التكثيف فى القصة
وعلى الجملة نستطيع ان نقول ان هذا نص باذخ ورائح يسكن معنى الوطنية والفردية الكارهة للتشذر والتشظى الوطنى تسكنه مما يجعلنا نرفع القبة للقاصة ونطالبها بالحق الادبى والشرعى والنور ادبى ان توالى نشر ابدعاتها الجميلة
|