الشعر الفلسطيني من بداية الانتداب البريطاني على فلسطين مروراً بالنكبة والنكسة والانتفاضة/ هدى الخطيب
[align=justify]
ما أن هُزم الأتراك وشعر الانكليز ببوادر النصر وقبل أن يدخلوا بدؤوا بحياكة المؤامرة ضد فلسطين وأهلها.
في الثاني من شهر تشرين الثاني / نوفمبر من عام 1917 ، قطعت بريطانيا وعداً على لسان وزير خارجيتها " بلفور " مفاده أن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف وتتعهد بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ، ولم تقم في حينه بالإعلان ، وأعلنته في العشرين من شهر شباط / فبراير سنة 1920.
في ذلك الحين كان الوطن العربي عامة وبلاد الشام وفلسطين خاصة لم تزل تعاني من الجمود والتراجع الثقافي الذي أصيبت به أثناء الحكم التركي والحرب العالمية الأولى والظروف الحياتية الصعبة , إلا أن الإنسان الفلسطيني بدأ ينتبه ولو ببطء – ويستيقظ من غفلته – ليرى المؤامرة التي تحاك ضده وضد وجوده وبلاده – ومشاعر الخيبة – تتضح – وينتبهوا للخديعة الهائلة التي وقعوا في شراكها.
بدأت تظهر ملامح تلك الخيبة على الشعر الفلسطيني – وعد بلفور - ومؤامرة إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
الشاعر وديع البستاني ، رأى بوضوح نواة الدولة اليهودية حين شاهد غرفة في " سرايَ يافا " كُتب على بابها: (( الجمعية اليهودية - الرئيس الملازم مكروري )) حيث كان في حينه يعمل كبير الموظفين بعد( الكولونيل باركر) فكتب قصيدته:
أرى الوطن القومي ِّ يعلو بناؤه
... . أرى غرفة في القصر تحجبه قصراً
وذكّرهم ذكرا ولست مسيطراً
.... مخافة يوم لا تنفع الذكرى
بدأ الفلسطينيون يفيقون من ثباتهم وينتبهوا إلى الدور الخطير الذي يلعبه الاستعمار البريطاني ووعوده الكاذبة لخداعهم ويستوعبوا حجم الكارثة التي حلّت ببلادهم وأطماع الوافدين بكثافة إلى بلادهم من يهود الغرب ومشروعهم الصهيوني ، ودوافع هذه الهجرة وأخطارها وأهدافها للسطو على فلسطين وتزوير التاريخ بما يتفق مع مشروعهم..
من هنا بدأت تتحدد قضية الشعر الفلسطيني في تلك المرحلة، وتصديه لوعد بلفور والوطن القومي لليهود والمخططات الاستعمارية ، وليلفت النظر إلى نشاط اليهود للسيطرة على البلاد بحماية ورعاية بريطانية ، وتعريتهم أمام الرأي العام ، لنرى هنا على سبيل المثال الشاعر برهان الدين العبوشي يصور أطماع اليهود من خلال محاورة شعرية يقدمها العبوشي:
وايزمن: أبشّركم بالفوز والفوز يفرح
.... فقد نجح المسعى وذو الجدّ ينجح
فلسطين قد أضحى لنا جلّ أرضها
.... وبعد غد نغدو هناك ونسرحُ
نزعتُ لكم بالمال وعداً مصدّقاً
.... فتيهوا بهذا الوعد يا قوم وافرحوا
كلفرسكي: ألا بلّغوا ( بلفور ) عنا تحية
.... وما غير بلفور – يجود ويسمح
عسانا بهذا الوعد نصبح دولة ً
....لها في الورى حكم وجيش مسلّح
وبأسلوب ساخر توجه الشاعر ابراهيم طوقان إلى حكومة الانتداب البريطاني منوهاً بغدرها بحلفائها العرب ، مشيراً إلى وعد بلفور ، مبيناً أن الإنسان الفلسطيني انتبه وبدأ يفهم أهداف الاستعمار في قصيدته (( أيها الأقوياء)):
ومن هذا المنطلق نلاحظ تنبه الشاعر الفلسطيني إلى نشاط الحركة الصهيونية للسيطرة على البلاد ومرافقها سياسياً وعمرانياً واقتصادياً وبشرياً ، لدعم إقامة الدولة اليهودية ( الصهيونية ) في فلسطين ، وكيف نعى على المواطن الفلسطيني طول غفلته عن تلك المخططات الصهيونية الجارية على قدم وساق يساندها الاستعمار الانكليزي بكل طاقته..
مما كتب عنه وانتقده ثلة من الشعراء في قصائدهم ، كان وضع حجر الأساس للجامعة العبرية في احتفال كبير برعاية وحضور ( اللورد بلفور) أقيم في الرابع والعشرين من شهر تموز / يوليو عام 1918 حضره المطران مكنس ومفتي القدس كامل الحسيني وكان للشاعر وديع البستاني قصيدة نقد لاذعة للمطران والمفتي ، وقامت المملكة المصرية في حينه بإرسال مندوب عن الحكومة المصرية رفيع المستوى للمشاركة في الاحتفال ( أحمد لطفي السيّد ) ، فكتب الشاعر اسكندر الخوري مبدياً غضبه ودهشته من هذا الاحتفال وموجهاً لومه لمندوب الحكومة المصرية:
الله أكبر كل هذا
.... في سبيل الجامعة!
إن السياسة أوجدتها
.... والسياسة خادعة
يا لورد ما لومي عليك
.... فأنت أصل الفاجعة
لومي على مصر تمدُّ
.... لنا أكفاً صافعة
يا سيّد قد جئتنا
.... وقلوب قومك هالعة
أرأيت كيف تحيط بالعرب الذئاب الجائعه (1)
وحين رأى الشاعر برهان الدين العبوشي المستعمرات اليهودية الغربية التي تنشأ وتتكاثر وتسدّ الطريق على أبناء البلد ، كتب يرسل تحذيراته للشعب الفلسطيني قائلاً:
بيسسانُ قد سدّت طريقك دوننا
.... مستعمرات الخبث والبهتان
يا ساكني بيسَان من بدو ومن
.... حضر ومن شيب ومن شبّان
أضحت مدينتكم يهدّدها الفنا
.... ومصيركم فيها إلى خسران
في تلك المرحلة كانت الجمعية الصهيونية في فلسطين تقوم بمحاولات شتّى لامتلاك الأراضي ورصد المبالغ الطائلة لها، بينما تقوم حكومة الانتداب بتسهيل عمليات انتقال الأراضي إلى المهاجرين اليهود وامتلاكها ، والعمل على تدفق عدد هائل من اليهود وبشكل دائم بالطرق المشروعة وغير المشروعة ، وعلى الرغم من أنه رسمياً هناك عدد محدد شهرياً ، لكنه لم يكن يطبق ، وكانوا يعملون بشتى الوسائل لإدخال عشرات الآلاف من اليهود إلى فلسطين شهرياً وبكل الوسائل غير الشرعية.
وفي قصيدة للشاعر برهان الدين العبوشي حول هذه الهجرة ومن قصيدته : (( وطن الشهيد )) اخترت هذا المقطع:
اليهود ( كوهين )
كوهين: قد وطئنا أرضهم في غفلةٍ
.... وغـدا أعـداؤنا عـنّا نيـام
هذه ( العـفولة ) (1) الأرض التي
.... مـرّ منها فتـحهم من ألف عام
قـد هدمنا دورها في ليلة
.... وحـرثنا القبـر فيها والعظام
يتحدث في القصيدة باسم كل من ( بنيامين ، وليون ، واسرائيل ، وصاموئيل, وسارة ) مظهرين الفرح والغبطة على كل ما وصلوا إليه في تنفيذ مؤامرتهم على أهل فلسطين ومشروعهم لاستعمارها..
وحول الهجرة اليهودية إلى فلسطين بطرق غير مشروعة وبموافقة وتواطؤ حكومة الانتداب البريطانية يكتب الشاعر ابراهيم طوقان قصيدة ألف ( 1000 ) مبيناً بعض الوسائل غير المشروعة المنتهجة ، ومدى اهتمام الصهاينة ومن خلفهم الانتداب بإدخال أكبر عدد من اليهود إلى فلسطين شهرياً:
يـهاجر ألف ...ثم ألف مهرّبـاً
.... ويـدخـل ألف سائـحاً غـير آيـب
وألـف ( جـواز ) ثم ألـف وسـيلة
.... لتـسـهيـل ما يلقونه من مصـاعب
وفي البـحـر آلاف .. كأنَّ عبـابـه
.... وأمـواجـه مشـحونة بالمـراكـب
وعن بيع البعض بواسطة السماسرة والأسعار الخيالية اللتي تدفع فيها يقول في قصيدته (( إلى بائعي البلاد)):
بـاعوا البـلاد إلى أعـدائـهم طمعاً
.... بالمـال لكنَّمــا أوطـانـهـم باعـوا
ويقول فيها أيضاً:
يـا بائـع الأرض لـم تـحفـل بعاقـبـة
.... ولا تعـلمـت أن الخــصـم خـــدّاعُ
لـقــد جنـيـتَ على الأحـفــاد والـهــفي
.... وهم عـبيـد ، وخدّام ، وأتـبـاعُ
فكِّر بمـوتـك في أرض نشـأت بهـا
.... واتـرك لـقبـرك أرضـاً طـولـهـا باع
كانت حكومة الانتداب البريطاني – اعتماداً على وعدها المشؤوم ومؤامرتها المرسومة – تتغاضى تماماً عن نشاطات اليهود غير المشروعة في السطو على الأراضي وتساندهم وتسهّل لهم كل ما يلزم لمشروعهم في هجرة يهود العالم إلى فلسطين بسرعة والعمل على تسهيل تمليكهم الأراضي العربية وتشريد أصحابها منها وتسهيل سيطرتهم على مقدرات البلاد العمرانية والسكانية ومراكزها السياسية أيضاً.
وسط هذا يقف الشاعر حزيناً أمام فصول المؤامرة المروعة على بلده وشعبها ، يحاول تنبيه الناس وتبصيرهم بما يحاك بشعره ، وفضح الانتداب البريطاني وخداعه للعرب عامة والفلسطينيين خاصة وتمكين الاحتلال .. ويقول في هذا الشاعر وديع البستاني:
يشـتـكي قومي من يوم أتى
.... بعد أمس طـاب لمـا ذهبَ
أنـكروا السّـيد فيهم حـاكماً
....فأتـاهم حاكماً منـتـدبا
وفي حوار مسرحي يشير العبوشي إلى التوافق الأميركي الصهيوني ووقوف ريكا إلى جانب اليهود في سبيل حلمهم باحتلال فلسطين
وينبه الشاعر ابراهيم الدباغ إلى الدور البريطاني في تحطيم استقلال فلسطين ( الاستقلال الذي وعدوا العرب وخدروهم به )..
ويحذر الشاعر ابراهيم طوقان من الدور البريطاني المتحالف مع الصهيونية ضد الفلسطينيين ، في سبيل تنفيذ مخططهم بالسطو على البلاد متبعين شتى السبل التآمرية التي وضحت تماماً ، ولم ينس في هذا أن ينبه الشعب الفلسطيني إلى هول المصير الذي ينتظرهم ، في قصيدة مطلعها:
أمـامـك أيّـهـا العــربيُّ يـوم
.... تشـيـبه لـهولـه سـود النـّواصـي
ويقول فيها:
لـنا خـصـمان : ذو حـول وطـول
.... وآخـر ذو احتـيـال واقـتنـاص
تـواصـوا بـينـهـم فأتـى وبــالاً
....وإذلالاً لـنــا ذاك التــواصـي
مـنــاهج للإبـادة واضـحـات
.... وبالحسـنى تـنـفّـذ والـرصاص
ويشير الشاعر محي الدين الحاج عيسى إلى ذلك الاستعمار وآثاره على الشعب الفلسطيني ، ومعاناته اليومية جراء ظلم الانتداب البريطاني ومنازعة المهاجرين اليهود لهذا الشعب على أراضيه وبلاده :
فلسـطين تـسقى كلّ يوم على القـذى
.... فيـبتـهج الـسّاقي ويكـتـئب الـشربُ
ينـازعها الـشعب الـشتيت حياتـها
.... ويـرهقهـا في جوره الـظالم الخـبّ
يتبع...
المراجع والحواشي:
سعدي أبو شاور - تطور الاتجاه الوطني في الشعر الفلسطيني المعاصر
الشاعر وديع البستاني – ديوان : الفلسطينيات
ديوان عبد الرحيم محمود
برهان الدين العبوشي – ديوان : وطن الشهيد
برهان الدين العبوشي – ديوان : جبل النار
ديوان الشاعر ابراهيم طوقان
الشاعر ابراهيم طوقان – قصيدة (( مناهج))
الشاعر اسكندر الخوري – ديوان : مشاهد الحياة
الشاعر ابراهيم الدبّاغ – في ظلال الحرية
1- مندوب الحكومة المصرية للاحتفال بإنشاء الجامعة العبرية " أحمد لطفي السيّد ".
2- العفولة إحدى قرى فلسطين في مرج إبن عامر ، وكان المرج اشتراه اليهود من عائلة " سِرْسُقْ "
البالغة الثراء وهي من أصل فرنسي ومن بقايا الصليبيين ، ويحملون الجنسية اللبنانية ويقيمون في فلسطين ويملكون أراضي شاسعة أهمها: " مرج ابن عامر " باعوها كلها لليهود.
تعقيب: مرج ابن عامرأو سهل زرعين هو مرج واسع بين منطقة الجليل وجبال نابلس في شمال فلسطين، صورته على شكل مثلث أطرافه: حيفا- جنين- طبريا. يبلغ طوله 40 كم وعرضه المتوسط 19 كم ومساحته الكلية 351 كم
[/align]