قراءة نقدية
قراءة في: "بوريدان وحماره: قصة الاختيار الأبدي" للأديبة رجاء بنحيدا.
في قراءة سريعة لهذا النص تفاجئنا عتبه الطويلة المكونة من جملتين اسميتين؛ بينهما نقط تفصيلية تشرح إحداهما الأخرى؛ وإن كانت كل منهما تشكل عنوانا منفصلا يشي بمضمونه.
ففي الجملة الأولى "بوريدان وحماره"؛ نجد أن لفظة "بوريدان" لها معنيان؛ المعنى الأول واضح وضوح الشمس؛ إسم لشخص -بمعنى إجمالي للجملة- بمعية حماره في علاقة بينهما حكاها النص، وقد أفصحت الكاتبة عن هوية هذا الشخص بكونه فيلسوفا كتب عن المنطق؛ وهي إشارة منها إلى أهمية حمولة النص؛ التي تستوجب نظرة بانورامية بعدستي الفلسفة والمنطق.
المعنى الثاني مكنون في
تقسيم الإسم "بوريدان" إلى ثلاثة أجزاء؛ بو- ريد- ان؛ وإذا ركزنا على ثاني الأجزاء "ريد" مع تكرار حرف الياء واستهلاله به؛ نحصل على فعل أراد في صيغة المضارع "يريد"، في حين نختار من بين المعاني المختلفة للجزء الأول "بو" مع فتح الباء وضم الواو بالتشديد؛ معنى الشخص الذي يتصف بالحماقة، ونحيل الجزء الثالث "ان" إلى حرف جزم ونصب "أن"؛ فيصير الإسم "بوريدان" جملة فعلية "بو يريد أن..."؛ بمعنى الأحمق يريد أن... وهي جملة تفتقد مصدرها المؤول؛ والذي يعتبر بيت القصيد في النص أو رحى تدور حولها أحداثه والمختزل في مسألة "الاختيار"؛ صدر الجملة الثانية والتي تصرح بنوع الفن الأدبي موضوع النص "قصة الاختيار الأبدي".
فما علاقة بوريدان وحماره بالاختيار؟ ولماذا وصف الاختيار بالأبدي؟ وهل ملك النص مفتاح بابه أم أضاعه في مخيلة القارئ بأسئلة مفروضة عليه في سقطته
هذا ما سنكتشفه في هذه القراءة العابرة.
افتتحت الكاتبة نصها بسؤال يثير انتباه القارئ لتبسط له فرشا إستهلاليا مبنيا على منطق بوريدان؛ المشهور بنظرية الحمار؛ والذي وضعت علامة التعجب عند ذكره؛ ربما لاقتران اسمه باسم الفيلسوف وارتباطه بنظريته؛ ثم وصفته بالمسكين؛ والمسكين من السكينة وعدم الحركة؛ ومعناه ذاك الذي يحتاج إلى أكثر مما لديه، وبطل النص يملك حق اختيار شيء من اثنين؛ إما كومة التبن أو الماء؛ لكنه منع منهما معا لسبب قوي؛ هو افتقاره لدافع الاختيار.
يالها من شجاعة الاختيار وفطنة الانتقاء لبسط الأفكار لقارئها؛ الذي فاجئته الكاتبة في فقرة ثانية بنهي استفهامي تعجبني رافض مستنكر فعل الضحك من فعل الحمار؛
والاستفهام هنا سجل ذكاءها في إثارة انتباه المتلقي، ودعوته لمشاركتها الفكرة المطروحة عصب النص؛ هل نحن أفضل حالا؟ والمفارقة هي المقارنة بين كائنين في كفة غير متوازنة؛ الأول "نحن" الإنسان يملك أداة التفكير "العقل"، والثاني حمار بوريدان؛ المفتقر لها بحكم إرادة خالقه. ولزيادة الإقناع وجلب انتباه المتلقي ؛ فجرت الكاتبة قنبلة النص؛ جملة استفزازية أجلت بها غشاوة عين العقل"؛ "نحن جميعا حمير بوريدان"، واسترسلت موضحة مكمن التشبيه وحقيقة الانتساب إلى حضيرة بوريدان؛ فمسألة العجز عن الاختيار في ظل وفرة القرارات القيمة بجاذبيتها المتطابقة، والوقوف منتصف الطريق في أسر التردد وعري الإرادة بتأجيل القرار الأصوب هو جحيم الحياة الفارغة؛ المفضي إلى زريبة بوريدان، وذهبت الكاتبة إلى أبعد من ذلك في فقرة ثالثة؛ إذ أسقطت "نحن" في درك أسفل من مقام حمار بوريدان، وأقرت وسلمت بأفضلة هذا الحمار عليه في مسألة الموت؛ موته بالتردد أمام خيارين فقط، وموت الإنسان الأسوأ ببطء؛ خوفا من فقد كل الأشياء والاكتفاء بأحادية الاختيار المبرر بمرآة لا غبار عليها.
لكن الكاتبة استدركت وأعادت للإنسان اعتباره بدهاء وحكمة؛ بعرض حل بإمكانية وحيدة منقدة من الضياع؛ إمكانية محو آلة التفكير وركوب منطاد بوقود اختيار عشوائي بمنطق مغيب وسبب مفقود إلى وجهة مجهولة أيا كانت؛ وهنا حسمت أمر المنطق ذو الحدين؛ إذ الاختيار المنطقي المبني على إعمال الفكر قاتل في نهاية المطاف.
وكما بدأت الكاتبة نصها وأثثته بأسئلة أنهته بأخرى فارقة بين كفتين عيارها الاختيار بين حضيرة بوريدان ومقام الإنسان في مفارقة عجيبة تمكن الحمار من إدارة عقلية تتركه مترددا حتى الهلاك، وتزيل آلة التفكير عن الإنسان "نحن" بعشوائية وحمق الاختيار بلا مبرر؛ نجاة من الموت.
كل ذلك عرضته الكاتبة
بنظرة ثاقبة وفكر عميق؛ قائم على أساس عقلاني يكشف جانبا أساسيا من أحوال المجتمع، يقدم الفكرة، ويطرح حلا للمناقشة بمنطق اللامنطق.
***************
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|