1 منزلة العقل
مقدّمة
من المعلوم أنّ العقل هو آلة الإدراك والتمييز عند بني البشر، لذلك فضّله الله تعالى على كثير ممّن خلق، فقال: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ ـ الإسراء 70.
= ولأداء استخدام هذه الآلة في شكلها الصحيح، بغية الحصول على النتائج المرجوة منه، وجّهنا الله تعالى إلى الحثّ على التأمّل والتفكّر والتدبّر والنظر في السماوات والأرض وما فيهما، فقال: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ ـ يونس 101. وقال: ﴿ أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ ـ الحج 46.
لكن رغم مكانة العقل ودوره المميز في الإدراك والتمييز، يظلّ محدوداً، فهناك العديد من الأمور غير المُشَهَادة، لا يستطيع العقل كشف كنْهها وحقيقتها، كمسائل الغيب ـ مثلاً-، إذ لا سبيل إلى معرفتها معرفة عقليّة خالصة، وإنّما يتم معرفتها عن طريق الوحي.
معنى العقل في اللغة والاصطلاح
أولاً: معنى العقل في اللغة:
العقل: هو الحابس عن ذميم القول والفعل (معجم مقاييس اللغة 4 / 69)، وسمي بذلك لأنه يعقل الإنسان ويمنعه عن التورّط في المهالك، أي يحبسه؛ كما أنه يمنعه عن ذميم القول والفعل وعمّا لا يَحْسُن؛ فكأنه يقوم بوظيفة الحارس الأمين.
والمعاني الرئيسة للعقل هي: التثّبّت في الأمر، والإمساك والاستمساك، والامتناع. قال الراغب الأصفهاني: وأصل العقل: الإمساك والاستمساك، كعَقْل البعير بالعِقال، وعَقَل الدواء البطنَ، وعَقَلت المرأة شعرها، وعَقَل لسانه: كفّه، ومنه قيل للحصن: مَعْقِل. وباعتبار عَقَل البعير قيل: عَقَلت المقتول: أعطيت دِيّته، وقيل أصله أن تُعقل الإبل بفناء ولي الدم، وقيل: بل بعقل الدم أن يسفك، ثمّ سمّيت الدية بأيّ شيء كان عقلاً (معجم مفردات ألفاظ القرآن 354، وانظر: لسان العرب: عقل، القاموس المحيط 1190 -1199، تهذيب اللغة، 1 / 158-162).
فالعقل يطلق على ما يحبس الإنسان عن المهالك والشرور القوليّة والفعليّة. أمّا ما يحبس الإنسان عن الخير فلا يسمّى عقلاً، ولذلك قال بعضهم: العقل ضدّ الحمق (بصائر ذوي التمييز 4 / 85)، والأحمق: قليل العقل (القاموس المحيط 420). والإمساك عن الخير غالباً ما يكون استجابة للهوى وملذات النفس، فلا يُنسب إلى العقل في شيء.
ثانياً: معنى العقل في الاصطلاح:
اختلف أهل العلم في تعريفهم للعقل، فهنالك تعريف للفلاسفة، وتعريف لأهل الكلام، وتعريف للأطباء، وتعريف لأهل الفقه والأصول.. والقول في ذلك هو أنّ العقل: أحد غرائز النفس، أو قوّة من قواها، تمكنها من إدراك المعاني والحقائق (مباحث في العقل 130، وانظر: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد 16، مقالات الإسلاميين 480، المغني في أبواب التوحيد والعدل 11 / 375، البحر المحيط في أصول الفقه 1 / 85، المنخول من تعليقات الأصول 44، مجموع فتاوى ابن تيمية 9 / 286).
العقل في القرآن الكريم
القرآن الكريم اشتمل على عشرات الآيات التي تدعو إلى التعقّل، والتدبّر، والنظر، والتفكر، وما في معانيها. وهو في صيغته الاسمية، لم يرد في القرآن مطلقاً. وكلّ ما ورد هو في صيغة الفعل: عقل، يعقل، نعقل؛ في الماضي، والمضارع، والمفرد، والجمع؛ وعدد هذه الألفاظ يقرب من الخمسين (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم 468).
فتحدّث القرآن عن العقل ومشتقاته ومرادفاته عشرات المرات؛ ووردت ألفاظ مرادفة له، نحو: اللبّ، والحلْم، والفكر، والتفكر، والتمييز بين الخير والشرّ، والفهم، والعلم، والمعرفة، والنظر، والتبصّر، والإدراك، والتدّبر، وإمساك النفس عن الشرّ وسائر المهالك؛ والتمييز بين العقل السليم المستقيم وبين الذين لا تهتدي عقولهم إلى إدراك ما جاء به الوحي من الحق، فلا يستعملون عقولهم بالنظر في الأدلة، والتفريق بين الحق والباطل؛ مئات المرّات: فورد (العقل) ومشتقاته في تسع وأربعين آية، وورد (الفؤاد) ومشتقاته في ست عشرة آية، وورد (الفكر) ـ أي عمل العقل ـ ومشتقاته في ثماني عشرة آية، وورد (التدبّر) ومشتقاته في ثماني آيات، وورد (الفقه) ومشتقاته في عشرين آية، وورد (اللبُّ) ومشتقاته في ثلاثين آية.
= مؤكداً أنَّ عدم استخدام العقول سبيلٌ للتشتّت والتشرذم وافتراق الكلمة؛ وأنَّ استخدامها سبيلٌ للألفة والاجتماع والاتفاق، لأنَّ صلاح القلب يؤدّي إلى صلاح الجسد، كما أنّ فساد القلب يؤدي إلى فساد الجسد.
= فاستعمال العقول قائدٌ إلى النجاح والفلاح واختيار الأفضل الذي هو من شيَم العقلاء، أمّا مَن أغفلوا عقولهم وعطّلوها فلا يقع اختيارهم إلاَّ على الأدنى. قال الإمام البقاعي: عقول الناس متفاوتة، فجعل سبحانه وتعالى العالَم، وهو الممكنات الموجودة، وهي جملة ما سواه، الدالة على وجوده وفعله بالاختيار، على قسمين: قسمٍ من شأنه أن يُدْرَك بالحواس الظاهرة، ويسمَّى في عرف أهل الشرع: الشهادة والخلق والملك. وقسمٍ لا يُدْرَك بالحواس الظاهرة، ويسمى: الغيب والأمر والملكوت. والأوّل يدركه عامة الناس؛ والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس. فالله سبحانه وتعالى، بكمال عنايته ورأفته ورحمته، جعل العالم بقسميه محتوياً على جمل وتفاصيل من وجوه متعددة، وطرق متكثرة، تعجز القوى البشريّة عن ضبطها؛ يُسْتدَلُّ بها على وحدانيته؛ بعضُها أوضحُ من بعض؛ ليشترك الكلُّ في المعرفة؛ فيحصل لكلٍّ بقدر ما هيئ له؛ اللهم إلاَّ أن يكون ممن طُبع على قلبه، فذلك - والعياذ بالله سبحانه وتعالى - هو الشقي (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 1 / 298).
وقال الإمام الرازي: دلائل التوحيد محصورةٌ في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس. ولا شك أنَّ دلائل الآفاق أجلُّ وأعظمُ، كما قال تعالى: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ـ غافر 57ـ. = ولمَّا كان الأمر كذلك، لا جرم، أمَرَ تعالى في هذه الآية بالتفكر في خلق السماوات والأرض، لأنَّ دلالتها أعجب، وشواهدَها أعظم.وكيف لا نقول ذلك، ولو أنَّ الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة، رأى في تلك الورقة عِرْقاً واحداً ممتداً في وسطها، ثم يتشعَّب من ذلك العِرْق عُروقاً كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعَّبُ منها عُروقاً دقيقة، ولا يزال يتشعَّب مِنْ كل عِرْق عُروق أخرى، حتى يصير بالدقة بحيث لا يراها البصر؛ وعند هذا يعلم أنَّ للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكماً بالغة، وأسراراً عجيبة؛ وأنّ الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من مقر الأرض، ثم إنّ ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزَّع على كل جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم.
= ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفيّة خلْقة تلك الورقة، وكيفية التدبير في إيجادها، وإبداع القوى الغازية والنامية فيها لعجز عنه.
= فإذا عرف أنَّ عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خِلْقة تلك الورقة الصغيرة، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السماوات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان، عرف أنّ تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنّه لا سبيل له البـتـّة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السماوات والأرض؛ وإذا عرف بهذا البرهان النيّر قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام، لم يبق معه إلاَّ الاعتراف بأنّ الخالق أجلّ وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين؛ بل يُسَلِّم أنَّ كلَّ ما خلقه ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة، وإنْ كان لا سبيل له إلى معرفتها (تفسير الرازي 9 / 112).
= وهذا كله يدلُّ على أنّ للعقل شأناً ومقاماً كبيراً في الإسلام؛ خاصة أنّ النصّ القرآني استوعب كلَّ معاني التفكير الإنساني؛ وأنّه لم يذكر العقل إلاَّ في مقام المدح والتبجيل والتكريم.
** ** ** **
فالقرآنُ حثَّ على إعمال العقل؛ ودعا إلى نبذ الجمود والتقليد؛ وبيّن أنّ من يغفل نعمة العقل فلا يستخدمها، فإنه ينزل إلى مرتبة دون مرتبة الحيوان. قال تعالى: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ ـ الأنفال 22. وقال: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ ـ الأعراف 179.
= مؤكداً على أنّ تعطيل العقل مفضٍ بصاحبه إلى النار، قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ ـ الملك 10.
العقل في السُّنة
جاءت لفظة (عقل) في السُّنَّة، بصيغة الفعل، ومصْدراً، وبمعنى الديَّة. وقال أبو حاتم بن حِبّان البُسْتي: لست أحفظ عن رسول الله خبراً صحيحاً في العقل (بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة 245).
وقال الحافظ عبد الغني بن سعيد: كتاب العقل وضعه أربعة: أوّلهم ميسرة بن عبد ربّه، ثمّ سرقه منه داود بن المحبّر، فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة، وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء، فركبه بأسانيد أُخَر، ثمّ سرقه سليمان بن عيسى السِّجزي فأتى بأسانيد أُخَر (تاريخ بغداد 8 / 360).
وقال أبو الفتح الأزدي: لا يصحّ في العقل حديث، قاله أبو جعفر العقيلي، وأبو حاتم بن حِبَّان (المنار المنيف في الصحيح والضعيف 66).
= فمن الأحاديث التي حكم عليها علماء أهل الشأن بالوضع: لمّا خلق الله عزَّ وجلَّ العقل، قال له: قم، فقام، ثمّ قال له: أدبر، فأدبر، ثمّ قال له: أقعد، فقعد، فقال: وعزَّتي، ما خلقت خيراً منك، ولا أعزَّ منك، ولا أفضلَ منك ولا أحسنَ، بكَ آخذ، وبكَ أُعطي، وبك أُعرف، وبك أعاقب، وبك الثواب وعليك العقاب (المعجم الأوسط للطبراني 1845، مجمع الزوائد 12715، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي، وهو مجمع على ضعفه). قال ابن تيمية: هذا الحديث كذب موضوع عند أهل العلم بالحديث، ليس هو في شيء من كتب الإسلام المعتمدة. وإنّما يرويه مثل داود ابن المحبّر البصري (ت: 206 هـ)، وأمثاله من المصنّفين في العقل، ويذكره أصحاب ”رسائل إخوان الصفا” ونحوهم من المتفلسفة، وقد ذكره أبو حامد في بعض كتبه، وابن عربي، وابن سبعين، وأمثال هؤلاء، وهو عند أهل العلم بالحديث كذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك أبو حاتم الرازي، وأبو الفرج ابن الجوزي، وغيرهما من المصنّفين في الحديث (مجموع فتاوى ابن تيمية 18 / 336). وقال ابن القيّم: أحاديث العقل كلها كذب (المنار المنيف في الصحيح والضعيف 66).
** ** ** **
والذي دفع إلى وضع أحاديث قيمة العقل وأثره هو طبيعة المعركة بين المعتزلة وخصومهم من أهل السنّة، فالمعتزلة جعلوا العقل حاكماً على النقل. لذلك ردّوا الأحاديث المصادمة للعقل ولو كانت صحيحة، فما كان من بعض العلماء إلا الردّ على المعتزلة بالمثل، فردّوا جميع الأحاديث المتعلقة بالعقل، حتى قال قائلهم: أحاديث العقل كلها كذب. قال الإمام الكوثري: إنّ المعتزلة كما تغالوا في تحكيم العقل، تغالى كثير من الرواة في ردّ كل ما ورد في فضل العقل، نكاية في هؤلاء، والحقّ بين طرفي الإفراط والتفريط (مقدمات الإمام الكوثري 364، في تقديمه لكتاب: العقل وفضله لابن أبي الدنيا).
= يضاف لذلك أنّ الفلاسفة أخذوا عن الفلسفة اليونانيّة نظريّة العقل الأول والعقل الفعَّال، وهي مصادمة لقواعد الإسلام، فما كان من بعض العلماء إلاَّ أن ردّوا ذلك في إطار انشغالهم بهدم نظريّة العقول الفلسفيّة.
= وأيضاً، فإنّ العقل في لغة المسلمين عَرَض من الأعراض، قائمٌ بغيره، وهو غريزة، أو علم، أو عمل بالعلم، ليس العقل في لغتهم جوهراً قائماً بنفسه فيمتنع أن يكون أول المخلوقات عَرَضاً قائماً بغيره، فإن العَرَض لا يقوم إلاَّ بمحل، فيمتنع وجوده قبل وجود شيء من الأعيان.
وأمَّا أولئك المتفلسفة: ففي اصطلاحهم أنه جوهرٌ قائمٌ بنفسه.
وليس هذا المعنى هو معنى العقل في لغة المسلمين، والنبيّ صلى الله عليه وسلم خاطب المسلمين بلغة العرب، لا بلغة اليونان، فعُلم أنَّ المعنى الذي أراده المتفلسفة لم يقصده الرسول (مجموع الفتاوى 1 / 244، 11 / 230، 17 / 333، 18 / 337، 27 / 242، 35 / 153).
= مع ملاحظة أنَّ الأحاديث الصّحيحة الواردة في العقل كثيرة: كقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو مسعود الأنصاري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثمّ الذين يلونهم (صحيح مسلم 17231)، وأولو الأحلام والنهى: هم العقلاء. وهذا مدح للعقل وأهله. قال الإمام النووي: أولو الأحلام: هم العقلاء، وقيل: البالغون، والنُّهى بضم النون: العقول، فعلى قول من يقول: أولو الأحلام العقلاء، يكون اللفظان بمعنى، فلما اختلف اللفظ عطف أحدهما على الآخر تأكيداً، وعلى الثاني معناه: البالغون العقلاء، قال أهل اللغة: واحدة النُّهى نُهية بضم النون، وهي العقل، ورجل نه ونهى من قوم نهين، وسمي العقل نُهية، لأنه يُنتهى إلى ما أمر به ولا يتجاوز، وقيل: لأنه ينهى عن القبائح (صحيح مسلم بشرح النووي 4 / 155).
وكقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن عبّاس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد القيس: إنّ فيك خصلتين يحبّهما الله: الحلم والأناة (صحيح مسلم 17)، والحلم يُطلق ويُراد به العقل، قال الإمام النووي: الحلم هو العقل، وأمّا الأناة فهي التثبّت وترك العجلة (صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 189).
وعن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعيد الكلمة ثلاثاً لتعقل عنه (سنن الترمذي 3640)، وفي رواية البخاري: حتى تفهم عنه (صحيح البخاري 95).
المبحث الثاني
العقل والتكليف
العقل أصل التكليف ومداره، ومن المعلوم أنّ من بلَّغ مجنوناً ثمّ مات على جنونه، كان ناجياً؛ ومن مات من الأطفال دون سنّ البلوغ فهو ناجٍ من الناجين. قال الإمام النووي: أجمع من يعتدّ به من علماء المسلمين على أنَّ من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلَّفاً (صحيح مسلم بشرح النووي 16 / 207).
فغير العاقل ليس مكلفاً بالأحكام الشرعيّة؛ ولهذا جاء في الحديث الشريف، وإسناده صحيح: رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الطفل حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يبرأ أو يعقل (مسند ابن حنبل 1183، سنن الترمذي 1423)؛ والقلم المرفوع عن الثلاثة هو قلم التكليف وقلم المؤاخذة، بعكس قلم الثواب فإنه غير مرفوع عنهم. وفي حديث ابن عباس قال: رفعت امرأة صبياً لها فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر (صحيح مسلم 1336).
** ** ** **
ولمكانة العقل في الكتاب والسنة، فقد حرمت النصوص الشرعية كل ما من شأنه أن يضرّ به، ولذلك حرّمت المسكرات والمخدرات. كما ذمّت التقليد ـ كما تقدم قبل قليل ـ، ونعت على المقلّدة الذين عطّلوا عقولهم من خلال تسليمهم عقولهم لغيرهم كي يفكروا لهم بها، فغدوا لا يروا إلاَّ بعيون من اتَّبعوا وسلَّموا لهم القيادة، فلا يفكّروا إلاَّ بتفكيرهم، ولا يصدروا إلاَّ عن أمرهم؛ فالمقلد تابع لمن قلَّد بلا حجّة ولا بيان، والتقليد: قبول رأي من لا تقوم به الحجّة بلا حجّة (إرشاد الفحول 65، شرح الخريدة البهية 39)، سواء كان قولاً أو فعلاً أو تقريراً، لكن لا يسمّى التلامذة مقلّدين إذا أخذوا عن مشايخهم ما دُلّل عليه بالحجة والبرهان، لأنهم متى أخذوا عن علمائهم ما أُقيم عليه الحجة والبرهان فهم عالمون عارفون وليسوا مقلّدين.
= ونقول: إنَّ الإسلام حريّةٌ في الضمير، وحركةٌ في الشعور، وتطلّعٌ إلى النور، ومنهجٌ جديدٌ للحياة طليقٌ من إسار التقليد والجمود. ومع ذلك كان يأباه ذلك الفريق من الناس، ويدفعون عن أرواحهم هداه، ويجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فالتقليد هو رأس مالهم، وهو ديدنهم ودينهم، وهو السند الذي يركنون إليه في تقليد آبائهم، فكانوا مثل البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل هم أضلُّ من هذه البهيمة، فالبهيمة ترى وتسمع وتصيح، وهم صمٌّ بكمٌ عمي.
محاربة الشعوذة والخرافة والأساطير:
تضافرت آيات الكتاب العزيز وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاربة الأساطير، والخرافات، وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى ظلم العقل بإلغاء دوره عن طريق إدخاله وإشغاله في أمور ليست من وظيفته، تلكم الأمور التي من شأنها أن تحرم الإنسان من نعمة الهداية بأنوار الوحي. فحَرَّم الإسلام كلَّ ما من شأنه أن يستعبد عقول الناس ويتلاعب بها، مثل: الطيرة، والكهانة، والعرافة، والتنجيم، والشعوذة، والتمائم، والتولة (التولة: بكسر التاء وفتح الواو، ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره، جعله الرسول صلى الله عليه وسلّم من الشرك لاعتقادهم أنّ ذلك يؤثر، ويفعل خلاف ما قدّره الله تعالى)، ونسبة الحوادث إلى غير الله تعالى، وغير ذلك.
= فأغلبه داخل في دائرة علم الغيب الذي خصّ الله تعالى نفسه بالعلم به. وعالم الغيب لا تستطيع عقولنا أن تدخل في مسائلة بنفي أو إثبات إن لم يسعفها خبر السماء، لأنَّ العقل مقـيَّد بعالم المحسوسات، ولا عمل له في عالم المغيّبات. قال الإمام الشاطبي: المعلومات عند العلماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم ضروري: لا يمكن التشكيك فيه، كعلم الإنسان بوجوده، وعلمه بأنَّ الإثنين أكثر من الواحد، وأنّ الضدّين لا يجتمعان.
وقسم لا يعلمه البتة إلا أنْ يعلم به أو يُجعل له طريق إلى العلم به، وذلك كعلم المغيّبات عنه: كعلمه بما في السماوات والبحار، وما في الجنة أو النار على التفصيل.. فعلمه بما لم يجعل له عليه دليل غير ممكن.
وقسم نظري: يمكن العلم به ويمكن أن لا يعلم به ـ وهي النظريّات ـ وذلك القسم النظري هو الممكنات التي تعلم بواسطة لا بأنفسها إلاَّ أن يُعلم بها إخباراً (الاعتصام 562). وجاءت الأحاديث تترى تحذّر من جميع الأقاويل والأفعال التي تتعارض مع عقيدتنا بالغيب، والاعتماد على الله وحده في حصول ما ينفع العبد ويدفع عنه ما يضرّه في دينه ودنياه.
** ** ** **
2 العقل وقداسة النص الديني
ذكرنا فيما سبق أنَّ العقل نعمة عظيمة من نعم الله تعالى أنعم بها علينا، فمن خلاله يتعرَّف الإنسان على أسرار خلق الله تعالى وعظيم صنعه؛ وبه يتوصّل إلى تصديق الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله تعالى لهدايته وسعادته = ذلك أنّ الإنسان لا يستطيع أن يهتدي إلَّا بالشرع، والشرع لا يتبيّن إلاَّ بالعقل؛ فالعقل كالأساس، والشرع كالبناء؛ أو الشرع كالشمس، والعقل كالعين، فإذا فُتحت العين رأت الشمس.
وذكرنا أيضاً، أنه مع ذلك فإنّ للعقل حدوداً لا يمكن تخطيها أو تجاوزها، كالحكم في المباحث الإلهية التي لا تُعلم إلاَّ بدلالة الوحي، لكونه من (الغيب) المحض. = أمَّا المباحث الإلهيّة التي يمكن الاستدلال عليها بالأدلة العقليّة، كوجود الله تعالى ـ مثلاً ـ فهذه داخلة ضمن دائرة عمل العقل؛ وضابط الجواز والمنع في هذه المسألة، هو أنّ المنع لا يكون إلاَّ إذا كانت الدلالة عقليّة خالصة؛ أمَّا الجواز فهو ما يُستدل عليه بالأدلة العقلية، ولا بدّ أنْ يرد الوحي بما يدل عليه.
** ** ** **
● لكن إذا كانت المرجعية في فهم القضايا الدينية الإسلامية، هي النص الديني في شقيه القرآن الكريم، وصحيح السنة النبوية، فلماذا يقع الاختلاف بين الاتجاهات الدينية المتعددة في فهمها وتعاطيها مع المسائل الدينية الشرعية؟
والجواب: إنَّ علماء الشريعة يُرجعون أسباب الاختلاف تلك إلى سببين أساسيين: أولهما: طبيعة النص الديني من حيث ثبوته ودلالاته. وثانيهما: تفاوت أنظار المجتهدين في فهمهم للنص تبعاً لاختلاف مداركهم.
= فإذا كان النص قرآناً كريماً فهو قطعي الثبوت، لكن من جهة الدلالة، منه ما هو قطعي، ومنه ما هو ظني.
أمَّا إنْ كان حديثاً نبوياً، فمنه ما هو قطعي الثبوت، وهو الحديث المتواتر، ومنه ما هو ظني الثبوت، وهو أحاديث الآحاد، أما من جهة الدلالة فمنه القطعي في دلالته، ومنه الظني المحتمل لأكثر من معنى.
● وعن السبب الثاني العائد إلى اختلاف مدارك المجتهدين العقلية، فما هي طبيعة عمل العقل في فهم النص الشرعي؟ وهل ثمة محددات وضوابط لذلك العمل؟ أم أنَّ للعقل مطلق النظر في فهم النص وتنزيله على الواقع؟ وما تحديد موقف العقل من القضايا الدينية التي لا تُفهم إلاَّ على وجه التسليم والإذعان: كالغيبيات، وأسرار العبادة وحِكمها؟ وأيهما يُقدَّم عند التعارض وتعذر سبل الجمع بينها؟
والجواب: إنَّ من أبرز محددات وضوابط عمل العقل في فهم النص الشرعي: قواعد الاستنباط المشروحة في علم أصول الفقه، فهي موازين مستقيمة لضبط حركة العقل، لمراعاتها قواعد اللغة ودلالة الألفاظ، فلا يشتط العقل في تفسيره وتأويله.
فالقرآن نزل بلغة العرب، ولا يمكن فهمه على وجه صحيح ودقيق إلاَّ بفهم لغة العرب، والتضلع بأساليبهم البلاغية، ودراسة النحو دراسة متأنية ومستوعبة.
وبتلك القواعد والضوابط، يُقيَّد العقل في حركته، لئلا تكون تأويلاته فاسدة.
لكن إذا كانت تلك القواعد والأصول من إنتاج العقل البشري، فلماذا يُحجر على العقل إنتاج قواعد جديدة لفهم النص وتفسيره استناداً إلى تطور المعرفة البشرية؟
والحقيقة في هذا، أن الأمر ليس كذلك، لأنَّ العقل لم ينتج تلك القواعد والأصول، وإنما قعَّدها وقننها، لأنها بالأساس موجودة ومرعية قبل تقعيد تلك القواعد في صورتها النهائية المتداولة.
فالعقل إذن خادمٌ للنقل، بعد أن ثبت الثاني بالأول، فكانت وظيفة العقل الأولى إثبات صحة مصدرية النقل، ثم تأتي وظيفته الثانية في التفسير والشرح والبيان. فيستحيل وقوع التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل، لأنَّ الذي خلق الإنسان هو سبحانه الذي أنزل القرآن.
النص مطلق وفهمنا له نسبي
العقل هو الطريق إلى الإيمان، ولا يمكن أن يكون إيمان إلاَّ بالعقل، واستثنى سبحانه الطفل والمجنون والنائم، من التكليف تبعاً لذلك، والقاسم المشترك بينهما هو غياب العقل كلياً أو جزئياً ـ وشرحنا ذلك قريباً.
= ذلك أن العقل هو الموصل إلى الإيمان، ولا يمكن إقالته بعد الدخول في دائرة الإيمان، فلا بد إذن من مقاييس العقل وضوابطه لفهم النص، لأن النص ليس وصفاً انفعالياً، بل هو نصٌّ أُريد منه التطبيق، والتطبيق يحتاج إلى فهم.
والأحكام العقلية القاطعة لا يختلف عليها اثنان، لأن اجتماع النقيضين محال (كأن يقال الجزء أصغر من الكل)!
ولو قلنا بعدم تدخل العقل في فهم النص لعطلنا النص في حياتنا، مما يجعله غير صالح لكل زمان ومكان؛ حتى لو اختلفنا في الفهم؛ لأن الله لن يحاسبنا على إصابة مراده بل على قدراتنا البشرية و﴿ لا يكلف الله نفساً إلاَّ وسعها﴾.
فإن قيل: فهل يخالف الشرع صريح العقل؟
والجواب: إنه قولٌ غيرُ سليم، وسؤالٌ غيرُ وجيه. لأننا لو سألنا أنفسنا: ما هو الشرع؟ قلنا: إمَّا أن يكون الشرع ما فهمه العلماء من النص، وفي هذه الحالة نكون أمام إنتاج عقلي يعارض إنتاجاً عقلياً آخر.
وأمَّا أن نقول: إن الشرع هو النص، فيكون الجواب وكيف عرفت معنى النص حتى تقول إنه مخالف لما ذهب إليه الشرع؟
فالموجود الوحيد هو فهمٌ معينٌ للنص يخالف فهماً آخر للنص، أي أنه عقلي يخالف إنتاجاً آخر. فالمسألة صراع عقول، وليس صراع عقل ونص، فليس هناك صراع عقل ونقل أو تعارض عقل ونقل، إنما هناك تعارض أفهام.
= وتحديد مسارات العقل في فهم النص الشرعي، ورفع إشكالية تعارض العقل والنقل، من مواطن الاختلاف الشديد بين الاتجاهات الإسلامية قديمها وحديثها، والدائرة بين من يقيد حركة العقل بقواعد معيارية حاكمة، وبين من يطلق العنان للعقل تدبراً واستنباطاً، طلبا لتحقيق مصالح العباد كما جاءت بها الشريعة.
** ** ** **
● ملاحظة هامة
كتب إليَّ أحدهم يتساءل: إذا كان العقل له الصلاحية الكاملة والأهلية التامة في أن يستقل بإدراك المصالح والمفاسد بعيداً عن نور الوحي، فما الفائدة من إنزال الكتب وإرسال الرسل؟ وإنما غايات إنزال الكتب وإرسال الرسل تعريف الناس بالشر والخير وبيان المصالح والمفاسد لهم؟ وما دام النص الشرعي له قراءات متعددة وتفسيرات متنوعة، كلها صحيحة، فماذا نأخذ وماذا ندع؟
** ** ** **
إنَّ دعوى (تعدد قراءات النص)، تفتح الباب على مصراعيه لكل مبطل أن يستدل على مذهبه الفاسد من النص الشرعي، ولا ريب أنَّ هذا أصل خطير يُسوِّغ زندقة كل متزندق وكفر كل كافر: فالباطنيون مثلاً الذين يفسرون قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ ـ البقرة 67ـ بأنها السيدة عائشة ـ بناء على ذلك الأصل فقولهم حق! والذي يقول: إنها البقرة المعروفة قوله حق (انظر: مجموع الفتاوى 5 / 551)، ولذلك يطلق بعض الأئمة على هذا الأصل: دعوى عدم إفادة النص للعلم واليقين (الصواعق المرسلة 2 / 633، 793 لابن قيم الجوزية).
وعلى هذا الباب اتكأ فلاسفة اليوم لتسويغ باطلهم، فردُّوا السنة صراحة لأنها لا تتوافق مع العصر ومتطلباته ومستجداته. وزعموا أن القرآن يمكن أن يدل على كل مذهب في الأرض، فصححوا لذلك كل الأديان والمذاهب الشاذة، ولم يجعلوا لنصوص القرآن والسنة منزلة، لأن كلَّ شخص يفهم النص بما يريد ويشتهي لا بما هو عليه في الحقيقة. وقد بيَّن ابن تيمية أن أصل هذا المذهب الفاسد، يرجع إلى قول السوفسطائية من الفلاسفة، ثم أخذه عنهم طوائف من ملاحدة الصوفية (مجموع الفتاوى 2 / 98).
** ** ** **
وفي غمرة الأخذ والرد، والنقاش الحاد والسباب المتبادل، يُتناسى الأصل الأول والمرجع الرئيس في الفصل بذلك: وهو دراسة أسانيد الأخبار والمقارنة بينها للوصول إلى اليقين والقبول.
فما شرع الله الدين للناس إلاَّ لأنهم لا يستغنون عن هدايته بعقولهم، ومن كان يؤمن بدين منزل من عند الله لا يمكن أن يقبل ما يوافق عقله منه، ويرد ما لا يوافقه من المسائل التي يعتقد أنَّ الله فرضها عليه من الأعمال، أو حرمها عليه من الترك؛ فوظيفة العقل أن يعلم ويفهم ليعمل، لا أن يتحكم في دينه ولا في قانونه الوضعي. وعقول الناس تختلف اختلافاً كثيراً فيما يوافق أصحابها، وما لا يوافقهم، وذلك يقتضي أن يكون لكل فرد ممن يُحَكِّمُون عقولهم في الدين دين خاص به، وللمجموع أديان كثيرة بقدر عددهم، وذلك لا يصح، فلم يبق طريق يُطمَئنُّ إليه غير أسانيد الأخبار للحكم على الأخبار أولاً، ثم تحكيم العقل في كل مسألة من مسائل الدين. والمعقول أن يطلب العاقل الدليل على أصل الدين، فمتى ثبت عنده وجب عليه أن يتبع كل ما علم أنه منه.
إنَّ أهل السنة أقاموا البرهان العقلي على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، فمن آمن به وجب أن يتبعه في كل ما جاء به من أمر الدين، ومنه ما هو قطعي مجمع عليه بين المسلمين لا مجال للعقل في البحث عنه ولا عن أدلته، ومنه ما ليس كذلك (كالذي اختلفوا في إثباته ونفيه تبعاً للاختلاف في أدلته، وفي وجه دلالته عليه)، فكل مسلم يقبل ما صح منه بالدليل لا بالهوى، ولا بما يقوله بعض مدعي العلم.
والإسلام: هو الاستسلام لله، والعقل لا يمكنه أن يخترق حجب الغيب، ويعرف المستقبل، لأنه قاصر، محدود، ومن أهم صفات المؤمن التي ذكرها الله تعالى في أول سورة البقرة: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ ـ البقرة 3 ـ.
ملاحظة أخرى جانبية
نماذج من التوقف مع النص
ما هو موقف العقلانيين من إباحة أكل الجراد مثلاً، لأن المسلمين يعتقدون بإباحة أكله، لقول الرسول ﷺ: أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد؟
إن المسلم غير ملزم بأكله، فإذا عافت نفسك أكل الجراد فأنت غير ملزم بأكله، كما لا توجبه الشريعة عليك، لكن هل يجوز أن تقول: الجراد حرام أكله لأنه يخالف العقل، أو القرف منه؟
ومثله حديث الذباب: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليطرحه، فإنَّ على أحد جناحية داء وعلى الآخر دواء.
فلا يمكن رده لأنه قرف أو وسخ؛ لأن الحكيم الذي خلق الذبابة هو الذي أخبر رسوله أن يقول ذلك، لكنك غير ملزم بشرب الشراب الذي وقع فيه الذباب، وغير ملزم بغمسه، وطرحه، وشربه، فإن عافته نفسك اتركه، لكن لا يجوز بحال أن تنكر النص، أو تقول: لا يثبت، أو هذا وسخ وقرف.
والضب مثل ذلك في إباحة أكله، فإن أردت ألاَّ تأكله فلا بأس، لكن لا تحرمه وتقول: لا يمكن للإسلام أن يبيح أكله!
وكذلك المرأة، فهي تكره أن يتزوج زوجها عليها، وتعاف ذلك وتنفر منه، وتصير نفسياً لا تحبه، ولها الحق في ذلك؛ لأنَّ هذا ما يوافق نفسها ورضاها، فهي تريد التفرد برجل واحد، لكن لا يمكنها الاعتراض على حكم الله ورسوله، وتقول: أكره حكم الله وأتمنى أنه ليس موجوداً لقوله تعالى: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ ـ النساء 65 ـ.
ولو نظرنا في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام ماذا سيقول العقل؟ إن العقل بدون وحي يضل. ونحو ذلك صلح الحديبية سنة (6 هـ / 627 م) وقتما تجهز المسلمون للعمرة، فلمَّا وصلوا إلى قريب من مكة حبسهم الكفار، فأمر النبي ﷺ بمصالحة كفار قريش، وسمَّى اللهُ ذلك الصلح فتحاً مبيناً، لأنَّ المسلمين سيستتب شأنهم ولا ينشغلون بالقتال، وسيتفرغون للدعوة، وكان طبيعياً أن يدخل بعد الحديبية أضعاف أضعاف ما دخل قبلها، مع أن المدة كانت أقصر: ففي الخندق سنة (5 هـ / 627 م) كانوا ثلاثة آلاف رجل، وفي الحديبية ألف وستمائة رجل، وفي فتح مكة سنة (8 هـ / 638 م) عشرة آلاف رجل، وفي حجة الوداع سنة (10 هـ / 632 م) كانوا مائة وأربع وعشرين ألف صحابي.
** ** ** **
ختاماً:
إنَّ الله تعالى خلقنا وهدانا إلى سبل النجدين، وألهمنا اكتشاف طرق التلقي عن طريق الإسناد، لنعرفه ونؤمن به ونتبع سننه ودينه الذي ارتضاه.
والحمد لله رب العالمين.