مفهوم التصوف وتطوره - منتديات نور الأدب



 
التسجيل قائمة الأعضاء اجعل كافة الأقسام مقروءة



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 136,722
عدد  مرات الظهور : 104,505,137

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > جمهوريات نور الأدب > جمهوريات الأدباء الخاصة > مدينة د. منذر أبو شعر
مدينة د. منذر أبو شعر خاصة بكتابات وإبداعات الدكتور منذر أبو شعر

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 09 / 11 / 2021, 43 : 03 AM   رقم المشاركة : [1]
د. منذر أبوشعر
محقق، مؤلف، أديب وقاص

 الصورة الرمزية د. منذر أبوشعر
 





د. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: سوريا

مفهوم التصوف وتطوره

أولا: مفهوم التصوف
لفظ (تصوف) في أصل اسمه خلاف كثير، فقيل: هو نسبة إلى الصف الأول، وهم أهل الصُّفة، قال الكلاباذي (محمد بن إسحاق البخاري، ت: 384 هـ / 990 م): الصوفية انتسبوا إلى الصُّفة التي كانت بمسجد رسول االله ﷺ؛ لأنَّ أصحابها اتصفوا بكل الصفات التي يمكن أن تكون سبباً لهذه النسبة: أي «الصفاء»؛ وأنهم في الصف الأول؛ ولبسهم الصوف. فالصفاء: هو صفاء أسرارهم ونقاء آثارها. والصف الأول: هو أنهم في الصف الأول بين يدي االله عز وجل بارتفاع هممهم إليه، وإقبالهم بقلوبهم عليه، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه. والصوف: هو أنه من لبسهم وزيهم؛ فلم يلبسوا لحظوظ النفس ما لان ملمسه وحسن منظره، وإنما لبسوا لستر العورة، وتحروا الخشن من الشعر والغليظ من الصوف (التعرف لمذهب أهل التصوف: الكلاباذي ص 22). وهذا هو المذهب الذي اختاره من قبله السراج الطوسي (ت: 378 هـ / 988 م) بقوله: نسبتهم إلى ظاهر اللبسة؛ لأنَّ لبس الصوف دأب الأنبياء عليهم السلام، وشعار الأولياء والأصفياء (اللمع فـي تاريخ التصوف: السراج الطوسي ص40).
= لكن لم يرض القشيري (ت: 514 هـ / 1120 م) بذلك، فهو يرى أنَّ اسم الصوفية كـ (اللقب) ليس إلاَّ؛ فأمَّا من قال: إنه من الصوف، ولهذا يقال: تصوَّف إذا لبس الصوف كما يقال: تقمَّص إذا لـبس القميص، فذلك وجه. ولكنَّ القوم لم يختصوا بلبس الصوف. كما نفى النسبة إلى الصُّفة؛ لأنَّ النسبة إليها لا تجيء على نحو الصوفي. كما نفى النسبة إلى الصفاء؛ لأن اشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة؛ وكذلك النسبة إلى الصف، كأنهم في الصف الأول بقلوبهم، فالمعنى صحيح، ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف (الرسالة القشيرية 312).
= وقيل: هو نسبة إلى قبيلة صُوفة من عرب الجاهلية، واسمه الغوث بن مُر، وكانت أمه نذرت إن عاش لها ولد أن تهبه لبيت االله وتجعله ربيب الكعبة (حلية الأولياء: أبو نعيم الأصفهاني 1 / 17)؛ وقال أبو محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي (ت: 409 هـ / 1018 م) محدث الديار المصرية: سألت وليد بن القاسم: إلى أي شيء ينسب الصوفي؟ فقال: كان قوم في الجاهلية يقال لهم (صُوفة)، انقطعوا إلى االله عز وجل، وقطنوا الكعبة، فمن تشبه بهم فهم الصوفية. قال عبد الغني: فهؤلاء المعروفون بصُوفة، ولد الغوث بن مر. وجاءت صُوفة من الصُّوف الذي علق برأس الغوث بوصفه ضحية، لأنه ما كان يعيش لأمه ولدٌ فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صُوفة، ولتجعلنه ربيط الكعبة، ففعلت، فقيل له (صُوفة) ولولده من بعده (تلبيس إبليس 156)، وكأنما في هذه الحكاية طرف دلالة على الفدية والتضحية بالنفس في الدنيا من أجل الفوز بنعيم الآخرة، وتأسّ بسُنَّة إبراهيم الخليل عليه السلام تقرباً إلى االله عز وجل.
= وقيل: التصوف نسبة إلى صُوفانة / علك البر، وهي بقلة تنبت في الصحراء؛ إذ دفع التقشف بعض الصوفية إلى الزهد في الطعام والاقتصار على نبات الصحراء (التصوف الثورة الروحية في الإسلام: أبو العلا عفيفي ص29)، فهناك تشابه بين حياة الصوفية وحياة الصُّوفانة من ناحية تحمل الظروف القاسية، والاكتفاء بالقليل من مستلزمات الحياة.
= بينما أرجع علي الوصيفي الاسم إلى كلمة (سـوفيا) اليونانية التي تعني الحكمة، لأنَّ الكلمة ليس لها اشتقاق ولا قياس في العربية؛ ثم رجح أنَّ الاسم مشتق من لبس الـصوف (موازين الصوفية في ضوء الكتاب والسنة: علي الوصيفي ص36).
ملاحظة:
وفقاً لمعجم ثاير Joseph Henry Thayer الإنجليزي ـ اليوناني، فإنَّ المصطلح μυστήριον في اليونانية الكلاسيكية يعني "الشيء المخفي"، أو "السر". والمعنى الذي أخذه المصطلح في العصور القديمة الكلاسيكية هو بمعنى السر الديني أو الأسرار الدينية التي يتم نقلها للمبتدئين ولا يتم نقلها من قبلهم إلى البشر العاديين.
** ** ** ** **
والراجح، بعد عرض أدلة كافة الأطراف، أن لفظ (تصوُّف) يعود في أصل اللغة إلى الصُّوف، الذي هو لباس التواضع؛ ولذلك فإنَّ الأنبياء والنساك يرتدونه. ثم صار يطلق علـى الزهاد حتى ولو لم يلبسوه؛ لأنَّ زهدهم قائم في عزوفهم عن كل الرغبات والأهواء في حياتهم، ولأنَّ قلوبهم متعلقة بالله وحده.
** ** ** ** **
ثانياً: الصوفية اصطلاحاً
كذلك اختلفوا في تعاريف التصوف في الاصطلاح؛ وكثرت في ذلك أقوالهم، بسبب اختلاف رؤى أصحابها، وتباين مشاربهم الثقافية والاجتماعية والسياسية. وذكر الشيخ أحمد زروق الفاسي (ت: 899 هـ / 1493 م) أنها بلغت الألفين تعريفاً (قواعد التصوف: أحمد زروق الفاسي ص4)، وذلك لأنَّ مفهوم التصوف يكمن جوهره في مضمونه الروحي، بتجلياته المتعددة وتحوُّلاته المتعاقبة.
وأشار ابن خلدون (ت: 808 هـ / 1405 م) للتجربة الصوفية، وإلى صعوبة وضع تعريف شامل للتصوف؛ وعزى ذلك إلى عاملين:
أ ـ إنَّ هذه التعريفات لم يُقصد بها تعريف التصوف تعريفاً علمياً شاملاً يستوعب كل صوره وجزئياته، بل قُصد به التعبير عن أحوالهم الخاصة.
ب - التطور السريع الذي شمل كل مرافق الحياة الإسلامية نتيجة لاتساع الدولة واشتمالها على بلاد ذات ثقافات دينية سابقة على الإسلام؛ ونتيجة لذلك دخلت المجتمع الإسلامي معان وأفكار جديدة، استوعبتها الثقافة الإسلامية وصارت تبعد يوماً بعد يوم بواسطتها عن أصلها الأول، وهذا ما حدث لمفهوم التصوف؛ حيث تعدد معناه ولم يعد ينطبق عليه حد واحد (شفاء السائل لتهذيب المسائل: ابن خلدون 45)؛ ولذلك أيضاً لجأ البعضُ إلى تصنيف تعريف التصوف أصنافاً مختلفة، منها: التعاريف الأخلاقية، والتعاريف التي تسوي بين الصوفي والعابد، والتعاريف التي تسوي بين الصوفي والزاهد:
أ التعاريف الأخلاقية
1 قال أبو حفص عمرو بن سَلمى الحداد (ت: 265 هـ / 877 م): التصوف كله أدبٌ، لكل وقت أدبٌ، ولكل حال أدبٌ، ولكل مقام أدبٌ، فمن لازم الأدبَ بلغ مبلغ الرجال، ومن حُرم الأدبَ فهو بعيدٌ من حيث يظن القرب، مردودٌ من حيث يرجو الوصول (تفسير ابن عجيبة 1 / 85).
2 وقال أبو محمد أحمد بن محمد الجريري (ت: 311 هـ / 923 م): التصوف هو الدخول في كل خلق سَني، والخروج من كل خلق دني (الرسالة القشيرية 126).
3 ومنه قولهم: الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلاَّ كل مليح (الرسالة القشيرية 313).
ب تعاريف تسوي بين الصوفي والزاهد
1 قال أبو الحسين أحمد بن محمد النوري (ت: 295 هـ / 907 م): نعتُ الصوفي: السكونُ عند العدم، والإيثارُ عند الوجود (الرسالة القشيرية 313).
2 وقال سَمْنون بن حمزة الخوَّاص (ت: 298 هـ / 910 م): إذا رأيت الصوفي يُعنى بظاهره فاعلم أنَّ باطنه خراب (الرسالة القشيرية 313).
ج تعاريف تسوي بين الصوفي والعابد
1 قال فريد الدين العطار (ت: 540 هـ / 1221 م): علم الصوفية ثمرةٌ للعمل والحال، وليس نتيجةً للحفظ والقال (تذكرة الأولياء: فريد الدين العطار 1 / 187).
2 وسُئل آخر عن معنى الصوفي، فقال: معناه أنَّ العبد إذا تحقق بالعبودية، وصافاه الحقُّ حتى صفا من كدر البشرية، نزل منازل الحقيقة، وقارن أحكام الشريعة؛ فإذا فعل ذلك فهو صوفي، لأنه قد صُوفِي (اللمع: السراج الطوسي ص 32).
وفيما بعد سعى ابن سينا (ت: 427 هـ / 1037 م) لإزالة الخلط الحاصل بين مفهوم الصوفي والزاهد من جهة، والصوفي والعابد من جهة أخرى. فقال: إن المُعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يُخَصُّ باسم الزاهد؛ والمُواظب على فعل العبادات، من القيام والصيام ونحوهما يُخَصُّ باسم العابد؛ والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت، مستديماً لشروق نور الحق في سره، يُخَص باسم العارف (الإشارات والتنبيهات: ابن سينا 1 / 143).
وبنحوه قول ابن زروق: مَنْ غلب عليه طلب العبادة كان عابداً؛ ومَنْ غلب عليه ترك الفضول كان زاهداً؛ ومَنْ غلب عليه النظر للحق بإسقاط الخلق كان عارفاً (النصائح: ابن زروق 2 / 201).
فيُلاحظ أن تعريف ابن سينا وابن زروق للصوفي كان ذوقياً؛ أي هو نتيجة تجربة صوفية أكثر منه نظرة علمية. واللَّبْس بين الصوفي والزاهد إنما نشأ لأنَّ كلاً منهما متجهٌ نحو ربه، منقطعاً عن الخلق، مستصغراً حسناته، مستكبراً سيئاته، ملتزماً بمقتضيات العبودية لله تعالى.
والفرق بينهما أنَّ زهد الزاهد محصورٌ في البعد عن حطام الدنيا ومتاعها رغبة في الآخرة، وغرضه هو الفوز برضا االله والدخول إلى الجنة، وأكثرُ ممارسةِ عباداته أدواتُها الجوارح. بينما زهد المتصوف يشمل زهد الزاهد ويتجاوزه غير آبه بنعيم الجنة نفسها، متطلعاً إلى رؤية وجه المحبوب. فالله أهلٌ للعبادة، ولا شيء وراء ذلك حتى لو كان الجنة ونعيمها؛ وعباداتُه تقوم على الجوارح، وعلى التأمل، وعلى رياضة النفس، لتزكيتها وتأهيلها للفيوضات الربانية.
2 وأغلب التعريفات حصرت التصوف في الثقافة الإسلامية وحدها دون اعتبار لعامل التأثر بالثقافات الأخرى كالهندية والفارسية واليونانية وغيرها، مع أنَّ تلك الثقافات هي التي حملتْ معها أفكاراً ورؤى غريبة بسبب مشارب دياناتها البعيدة كلياً عن النسيج الإسلامي، كالاتحاد والحلول، ووحدة الوجود، والدعوة إلى توحيد الأديان، وغيرها.
= فتنوعُ مصادر التصوف، وتباينُها، عاملٌ آخر لصعوبة وضع تعريف مناسب ودقيق له. إلاَّ أنه من الممكن تعريفه بأنه معراجٌ روحي، له أطوارٌ تراتبية، تتحقق تباعاً بواسطة كثرة العبادة والزهد والتحلي بالأخلاق الحسنة.
** ** ** ** **
ثالثاً: نشأة الخطاب الصوفي وتطوره
من العسير تحديد بداية مسلم بها لظاهرة التصوف في تراثنا الإسلامي، لتضارب الآراء حول تاريخ هذه التسمية ودواعيها؛ والراجح أنَّ هذا الاسم (التصوف) ظهر قبل المائتين للهجرة (مقدمة ابن خلدون ص 1097)؛ وبذوره الأولى ظهرت في نزعات الزهد التي سادت العالم الإسلامي في القرن الأول الهجري؛ وكان قوامه الانصراف عن الدنيا ومتاعها، والعناية بأمور الدين، ومراعاة أمور الشريعة؛ وكانت غايته التي يتطلع إليها الظفر برضوان االله، والنجاة من عقابه (كشف المحجوب لأرباب القلوب: علي بن عثمان الهجويري 28).
= وكان زهد الزهاد والعُبَّاد في هذا القرن معتدلاً؛ ينهل من الكتاب والسُّنة وما أُثر عـن الصحابة والتابعين. فقد عاش ﷺ حياته زاهداً على هذا النحو، لم يركن إلى الدنيا، ولم يغره زخرفها قط، فهي في نظره أهون من أنْ يشغل نفـسه بها. إلاَّ أنَّ الزهد الذي كان يعيشه ﷺ ويدعو إليه هو الذي لا يعيق مسار الحياة، ولا يطمس حقاً أوجبه معنى (خلافة الإنسان على الأرض)؛ فقال ﷺ: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي (صحيح مسلم2720).
= وعلى هذا السمت سار الصحابة رضوان االله عليهم: فعمر رضي االله عنه كان الصوفية يتخذونه أسوة لهم، ويخصونه بمعان جليلة كلبس المرقعة، والخشونة، وترك الشهوات، واجتناب الشبهات.
وعُرف عليُّ بنُ أبي طالب بين أصحاب رسول االله ﷺ بمعان وإشارات وألفاظ مفردة في بيان التوحيد والإيمان والعلم؛ وكان الصوفية يجلونه، ويعتقدون أنه صاحبُ علم لدني.
وكذلك أبو ذر الغفاري؛ وسلمان الفارسي، وفي الخبر، وإسناده حسن، أنَّ سعد بن أبي وقاص دخل على سلمان الفارسي يعوده، فبكى سلمان، فقال له سعد: ما يبكيك؟! تلقى أصحابك، وترد على رسول االله ﷺ الحوض، وتوفي رسول االله ﷺ وهو عنك راض! فقال: ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكنَّ رسول االله ﷺ عَهَد إلينا فقال: «ليكن بُلْغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب»، وهذه الأساود حولي!؟ وإنما حوله إجَّانةٌ وجَفنةٌ ومِطهرةٌ (حلية الأولياء 104، سنن ابن ماجة 4104) يريد بالأساود: الشخوص من المتاع الذي كان عنده، وكل شخص من إنسان أو متاع أو غيره فهو سواد. والإجَّانة: إناءٌ تُغْسل فيه الثياب. والجَفنة: قَصْعة كبيرة للطَّعام تكون من خَزَفٍ ونحوه. والمِطهرة بكسر الميم: الإناء الذي يتطهر بمائه كالإبريق والسَّطلِ ونحوهما. وهذا ما أثار دهشة سعد بن أبي وقاص واستغرابه.
ولا شك أنَّ هذا اللون من الزهد، الذي جوهره النسك والإيثار والسمو الروحي، لم يكن ظاهرة عند عامة الصحابة، وإنما كانت عند البعض دون البعض الآخر؛ فترْكُه ليس من الحرام.
** ** ** ** **
ثم في عهد التابعين تكلموا في أحوال النفس من حيث صفائها وصلتها بالخالق جل شأنه، وزهدها في زخرف هذه الحياة الدنيا؛ زهداً يقوم على الإكثار من صالح الأعمال، وشدة الخوف من االله تعالى، والعزة به، والاعتماد عليه، والانصراف عن التعلق بالحطام؛ ولذلك كثرت عنايتهم وحديثهم في هذه الآداب؛ فكانوا يأخذون بها أنفـسهم، ويرشدون إليها غيرهم. وكان رأسهم الحسن البصري (ت: 110 هـ)، رأس مدرسة الزهد البصرية، الذي عرَّف الزهد بقوله: الزهد في الدنيا أن تبغض أهلها وتبغض ما فيها (الرسالة القشيرية 154)؛ ومن أبرز الأعلام: حبيب بن عيسى العجمي (ت: 119 هـ) الذي قام على الحلقة بعد موت شيخه الحسن. وداود بن نُصير الطائي (ت: 165 هـ).
** ** ** ** ** **
ثم ظهر في البصرة والكوفة ومصر والشام ونيسابور زهدٌ منظمٌ لأقوامٍ عُرفوا بين الناس باسمٍ مستحدث لم يُعرف من قبل، وهم الزهاد والنساك والبكائين والجوعية والقرَّاء. يقوم زهدهم على وجوه من العبادات فيها تشدد وإفراط؛ ممَّا جعله يبرز كظاهرة اجتماعية منتظمة في صوامع وربط؛ وهذه الظاهرة كانت نتيجة عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، ظهرت أثناء مراحل تطور المجتمع الإسلامي ونموه، منها: :
أ - المبالغة في الشعور بالخطيئة الذي تبلور بسبب مآسي الحروب الأهلية وويلاتها، التي استنزفت قوى المسلمين وذهب ضحيتها رجال من الصحابة (بلغت ذروتها في البدء بمأساة كربلاء سنة 61 هـ / 680 م واستشهاد سيدنا الحسين رضي االله عنه)، ثم تفاقمت بجور الحكام من بعد ذلك.
ب - الرعب المُبَالغ فيه الذي استولى على قلوب بعض المسلمين من عذاب االله وأهوال الآخرة.
ج - محاولة خواص المسلمين محاربة الاتجاه المادي المسرف الذي عاشته الطبقة الأرستقراطية المتنفذة، وتفشي اللهو، والانغماس في متع الحياة الرخيصة، والميل إلى الملذات، والخروج عن القصد، واضطراب المقاييس.
= مما ترتب عليه تعاظم زهد هؤلاء الذين صاروا يعرفون بالصوفية، ورأوا أنَّ العبادة الحقة يجب أنْ تكون خالصة لوجه االله تعالى، لا لغرض آخر حتى ولو كان الجنة. فقالوا: نعبد االله محبة فيه؛ لأنه أهلٌ للعبادة.
** ** ** ** **
ولعلَّ أول من نُسب له هذا المذهب هو عبد الواحد بن زيد البصري (ت: 177 هـ / 793 م) تلميذ الحسن البصري، ورابعة العدوية (ت: 185 هـ / 801 م)، وهما من أقطاب هذه المرحلة الانتقالية؛ - وسنتحدث عن رابعة بالتفصيل، لأنها هي الأشهر ـ فاستُحدث لفظ «العشق» للتعبير عن المحبة بين العبد والرب، وساقوا على ذلك أحاديث موضوعة مثل: إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي، جعلتُ نعيمه ولذته في ذكرى، فإذا جعلتُ نعيمه ولذته في ذكري عشقني وعشقته، فإذا عشقني وعشقته رفعت الحجاب فيما بيني وبينه (حلية الأولياء: أبو نعيم الأصفهاني رقم 8325).
** ** ** ** ** **
رابعاً: الحديث عن رابعة العدوية
أمَّا رابعة العدوية (ت: 185 هـ / 801 م) فيكتنف الغموض اسم أبيها واسم أسرتها. ويُعدُّ الجاحظ (ت: 256 هـ / 869 م) هو أول من ترجمها باختصار في البيان والتبيين 2 / 85، والحيوان 1 / 78، وزمنه كان قريباً من حياة رابعة، وذكر أنَّ اسمها «رابعة القيسية». أمَّا المصادر الصوفية التي دُوّنت في القرنين الرابع والخامس الهجريين فقد أجمعتْ على أنها رابعة العدوية من أهل البصرة مولاة لآل العتيك (ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات ص 27: لأبي عبد الرحمن السلمي، ت: 412 هـ / 1021 م). وأضاف ابن خلكان (ت:٦٨١ هـ / 1282 م) وهو من المصادر المتأخرة: هي أم الخير بنت إسماعيل، العدوية البصرية، مولاة آل عتيك (وفيات الأعيان 2 / 48).
= كما أنَّ في سنة وفاتها اختلاف كثير: فقال ابن خلكان إن موتها كان سنة ١٣٥ هـ / 752 م، وقال الذهبي (ت: 748 هـ / 1348 م) وتابعه محمد عبد الرؤوف المناوي (ت: 1031 هـ / 1621 م) إنها ماتت سنة 180 هـ / 796 م (سير أعلام النبلاء 8 / 242، الكواكب الدرية 1 / 108)، وقال ابن كثير (ت: 774 هـ / 1373 م) توفيت بالقدس سنة 185هـ (البداية والنهاية 10 / 186)، وتابعه ابن العماد (ت: 1089 هـ / 1679 م) فقال: إنَّ احتمال موتها في سنة 185 هـ / 801 م (شذرات الذهب 1 / 193)، وهو الصواب، مع أنَّ في خبر ابن العماد وهْمٌ منكرٌ سنأتي على ذكره.
= فقول ابن خلكان في تحديد سنة وفاتها خطأ أكيد، لأنه يذكر لقاءها بسفيان الثوري (ت: 161 هـ / 778 م) وكان أتى البصرة بعد عام ١٥٥هـ / ٧٧٢ م تقريباً.
= وكيف يذكر ابن العماد أن وفاتها كانت عام ١٨٥هـ، وهو الصواب، وفى الوقت نفسه يذكر لقاءها وحوارها مع الحسن البصري الذي توفي سنة 110 هـ/ ٧٢٨ م؟!
** ** ** ** **
كما لا نكاد نعلم عن حياة رابعة الأولى ونشأتها إلاَّ ما رواه فريد الدين العطار (ت: ٥٨٦ هـ / ١١٩٠ م) في كتابه: "تذكرة الأولياء" 1 / 259 ـ 275، وهو شاعر صوفي أديب من نيسابور، جامح الخيال، لا يُطْمأن إلى أقواله إلاَّ بعد ورودها من طريق مصادر تاريخية أخرى: فبالإضافة إلى مجموعة الخوارق والكرامات التي ساقها عنها، فلا نعرف كيف عاشت حياتها الأولى، وكيف وقعت في الرق؟ وكيف تحررت من رقها؟ وإلى أين اتجهت؟ وماذا عملت بعد تحررها؟ وما الظروف التي دفعتها إلى حياة الزهد؟ بل نكاد نقول: هل كل هذا حدث معها بالفعل!؟
ولو صدقتْ أخبارُه عنها، فكيف وصلتْ هذه الأخبارُ إليه دون أن تكون مدونة في المصادر السابقة عليه؟ فرابعة من شخصيات القرن الثاني الهجري وهو من شخصيات القرن السادس الهجري!
** ** ** ** **
ومن بابة إتمام الحديث عن رابعة، سنتحدث عن أبرز أخبارها بميزان أهل الجرح والتعديل:
= روى فريد الدين العطار أنها حجت مرة فقالت: هذا الصنم المعبود في الأرض (أي البيت الحرام)، وإنَّه ما ولَجه االله ولا خلا منه (وانظر: الرسائل والمسائل لابن تيمية 1 / 73، قال: وأمَّا ما ذُكر عن رابعة العدوية من قولها عن البيت: إنه الصنم المعبود في الأرض، فهو كذبٌ على رابعة، فإنَّ البيت لا يعبده المسلمون، ولكنْ يعبدون ربَّ البيت بالطواف به والصلاة إليه، ولو قال هذا من قاله لكان كافراً يُستتاب. وكذلك ما نُقل من قولها: والله ما ولجه الله ولا خلا منه، كلامٌ باطل عليها)، وقد دافع عنها أهل التصوف فقالوا: أرادتْ أنَّ االله لا يحده حدٌّ، وكما كانت الكعبة مستقراَ للأصنام، ومع ذلك فالله كان موجوداً في الكعبة بالقوة؛ لأنَّ كرسيه وسع السماوات والأرض.
** ** ** ** **
ومع أننا نميل إلى المشككين في نسبة هذا الخبر لرابعة، إلاَّ أننا نقول: إنَّ مثل تلك الأقوال تُعدُّ بدايات (الشطح) الأولى، ومهَّدت لمفهوم (الفناء) عند أبي يزيد البسطامي (ت: 261 هـ / 874 م)، ثم ظهرتْ فـي صورتها الكاملة عند الحلاج (الحسين بن منصور، ت: 309 هـ / 922 م).
وبمثل هذا الخبر، وغيره من الأساطير التي رُويت عنها، صارتْ رابعة من أشهر المتحدثات عن الحب الإلهي في التاريخ الإسلامي. وبالتالي بدأ الكلام حول العبادة لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار، وإنما بقصد المحبوب / الله تعالى.
= فرووا عن رابعة قولها: إني لا أعبده خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، بل أعبده حباً له. وبنحوه ما روي زوراً عن علي بن أبي طالب: «إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك، ولكنْ وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» (منازل الآخرة: الشيخ عباس القمي 31).
أي هم لا يعبدون الله خوفاً ولا رجاءً، إنما يعبدونه بالمحبة؛ وهذا مخالف لقوله تعالى: ﴿يدعوننا رغباً ورهباً﴾، ومخالف لطريق الأنبياء والرسل الذين يدعونه سبحانه رغباً ورهباً مع حبهم له، وابتغائهم إليه الوسيلة، وتقربهم إليه بمحابه ومسارعتهم في ذلك. ولهذا قال بعض أهل العلم: من عبدَ الله بالخوف وحده فهو حَرُوري - أي: من الخوارج -، ومن عبده بالرجاء فهو مُرَجّئ، ومن عبده بالحب فهو زنديق، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد.
= وأسماء الله وصفاته تقتضي محبته وخوفه ورجاءه؛ فالله تعالى ذو الجمال، والجلال والإكرام، وغافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب؛ وكل اسم من أسمائه الحسنى، وصفة من صفاته، تقتضي عبودية خاصة؛ فمن كان بأسمائه وصفاته أعلم كان له أعبد، وعلى صراطه أقوم (شرح كلمة الإخلاص: ابن رجب الحنبلي 1 / 113، شرح العقيدة الطحاوية 2 / 459).
** ** ** ** **
كما زعموا أنَّ رابعة مرَّت في سلوكها الصوفي بثلاث مراحل هي:
الأولى: مرحلة الاستغراق في التوبة والاستغفار؛ فكانت في هذه المرحلة تصلي الليل كله، فإذا أتى عليها الفجر غلبها النعاس لبرهة، فتستيقظ مذعورة وتقول: يا نفس، كم تنامين؟ ومتى تقومين؟ يوشك أنْ تنامي نومة لا قومة لها إلاَّ بصرخة يوم النشور (سير أعلام النبلاء 8 / 242).
وكانتْ تكثر من الاستغفار، إلى الحد الذي صارت لا تثق بصدق استغفارها، خشية من الرياء في العبادة، فتقول: أستغفر االله من قلة صدقي في قولي: أستغفر االله (تاريخ الإسلام للذهبي 11 / 118).
الثانية: مرحلة إرهاصات الحب الإلهي، فرووا عنها في هذه المرحلة أشعاراً وأقوالاً تعبر عن وجدها وحبها لله عز وجل:
يا سروري ومنيتي وعمـادي
وأنيسي وعُدَّتي ومــــــرادي
أنت روح الفؤاد أنت رجائي
أنت لي مؤنسٌ وشوقك زادي
أنت لولاك، يا حياتي وأنسي
ما تشتتُّ في فسيح البــــــلاد
كمْ بدتْ مِنَّةٌ وكمْ لك عنــدي
مِنْ عطاءٍ ونعمةٍ وأيـــــادي
حبك الآن بُغيتي ونعيمــــي
وجلاءٌ لعينِ قلبي الصـادي
ليس لي عنك، ما حييتُ، بَراحٌ
أنت مني مُمْكَنٌ في الســــــواد
إنْ تكن راضياً عليَّ فإننــــــي
يا مُنى القلبِ قد بدا إسعــــادي
الثالثة: مرحلة الحب الإلهي الخالص، وهي المرحلة التي بلغتْ فيها مقام الرضا، فلم تعد تخيفها النار أو تغريها الجنة، فصارت تطلب رضا المحبوب والنظرَ إلى جمال وجهه:
أحبك حُبَّيـــن حُبَّ الهـــــــوى
وحبـاً لأنك أهــــلٌ لذاكـــــــــا
فـــأمَّا الذي هو حبُّ الهــــوى
فشُغلي بذكرك عمَّنْ سِواكــــا
وأمـــَّا الذي أنت أهلٌ لــــــــه
فكشفك لي الحُجُبَ حتى أراكا
فلا الحمدُ في ذا ولا ذاك لــي
ولـكنَّ لك الحمدُ في ذا وذاكا
(إحياء علوم الدين: الغزالي 4 / 310، قوت القلوب: أبو طالب المكي 1 / 320، 381، 2 / 80، 112، 472، طبقات الأولياء: عبد الرؤوف المناوي 202)، ونسب أبو نُعيم الأصبهاني (ت: 430 هـ / 1038 م) في حلية الأولياء 9 / 348 هذه الأبيات لسيدة تتحدث مع ذي النون المصري (ت: 245 هـ / 859 م) في الشام، فهل هي رابعة الشامية؟ فكل الأخبار التي رويت من طريق أحمد بن أبي الحواري (ت: 230 هـ / 844 م) يجب إسقاطها من جملة أخبار رابعة العدوية البصرية إذا نُسبتْ إليها غفلاً من كل سند؛ لأنَّ ما حدَّث به أحمد بن أبي الحواري يرتبط بزوجته رابعة الشامية؛ كما أنَّ الأدلة التاريخية لا تدل على معرفته برابعة العدوية، فوفاته بعد وفاة رابعة بخمس وأربعين سنة؛ كما أنه شامي ولا نعلم أنه أتى البصرة.
** ** ** ** **
= إنَّ أغلب العبارات التي نُسبت إلى رابعة العدوية، في الفترات التاريخية المختلفة، يدور معظمها في فلك (المحبة)، مما دفع البعض إلى وضْع عدة أقوال وعبارات نُسبت لها. فمصطلح "المحبة" هو المصطلح المركزي في أقوالها، وورد مصطلح "المحبة" لديها خمس عشرة مرة، ومصطلح "القلب" خمس مرات، ومصطلح "الشوق " مرتين، ومصطلح "الأنس" مرة واحدة فقط.
= وهذه المصطلحات ـ كما أسلفنا قبل قليل ـ جميعها ظهرت في القرن الثاني الهجري الذي شهد فترة النشأة والتكوين لما سُمّي بعد ذلك اصطلاحاً بـ (التصوف)؛ ومفهوم المحبة بهذا المعنى مفهومٌ جديدٌ في الحياة الروحية في الإسلام، لم يسبقها إليه أحدٌ من قبل ـ وأشرنا إلى هذا مراراً ـ؛ مما يدل على أنها وصلت إلى تلك الدرجة الرفيعة من الحب ليس من باب الفلسفة أو التعلم من العلماء، لكنْ من باب قلبها المولع بحب االله، المفعم بشعور وعواطف لا يعرفها إلاَّ المحب المخلص. وبذلك يمكن اعتبارها، بهذه التجربة الفريدة، أنها فتحتْ باباً جديداً في التصوف الإسلامي، سوف يتبعها فيه أهلُ التصوف اللاحقون لها؛ وصاروا يعتبرونها صاحبة الفضل في فتح باب الحب الإلهي. وذلك الباب ستظهر آثاره أكثر لدى صوفية القرن الثالث الهجري؛ ليتطور بعد ذلك لدى صوفية القرنين الرابع والخامس الهجريين؛ وصولاً لقمته لدى صوفية القرنين السادس والسابع الهجريين.
** ** ** ** **
ملاحظة
تحدث القشيري (ت: 514 هـ / 1120 م) عن مفهوم (الفناء) عند الصوفية، فقال إنه
ثلاثة مستويات:
أولاً: فناء النفس عن مذموم الأفعال، فيقال لصاحبها: فني عن شهواته؛ فمن عالج أخلاقه بأنْ نفى عن قلبه الحسد والحقد والبخل والشح والغضب والكبر وأمثال هذا من رعونات النفس، قيل له: فني عن سوء الخلق. فإذا فني عن سوء الخلق بقي بـ (الفتوة) والصدق. وقد سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد عن (الفتوة)، فقال: ما تقول أنت؟ فقال شقيق: إنْ أُعطينا شكرنا، وإنْ مُنعنا صبرنا. فقال جعفر: الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل! فقال شقيق: يا بن بنت رسول االله، ما (الفتوة) عندكم؟ فقال: إنْ أُعطينا آثرنا، وإنْ مُنعنا شكرنا (الرسالة القشيرية ص 265، وانظر ص 102، 103).
ثانياً: مشاهدة جريان القدرة في تصاريف الأحكام؛ أي: فني السالك عن حسبان الحَدَثان من الخلق. فإذا فني عن توهم الآثار من الأغيار بقي بصفات الحق.
ثالثاً: أنْ يستولي سلطان الحقيقة على السالك حتى لا يشهد من الأغيار لا عيناً ولا أثراً، ولا رسماً، ولا طللاً، فيفنى عن الخلق ويبقى بالحق.
** ** ** ** **
خامساً: أبو يزيد البسطامي
أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي (ت: 261 هـ / 874 م)، وكان جده مجوسياً فأسلم، واسمه سروشان من أهل بسطام – وهي بلدة في محافظة سمنان في إيران، تتبع محافظة أذربيجان الغربية – أصله منها ووفاته بها، ويُعدُّ أول من استخدم لفظ «الفناء» بمعناه الصوفي، بمعنى الاتحاد بذات الله؛ وهي نظرية بوذية الجذور، أساسها: فكرة المراقبة Dhyana and Samadhi، والديانا: تعني التأمل والمراقبة، والسمادي: تعني الاستغراق. وبمجموع المراقبة والاستغراق يصل المريد إلى مرتبة يصبح فيها المُراقَب والمُراقِب واحداً.
= أخذها عن طريق شيخه أبي علي السندي الذي علمه (مراقبة الأنفاس)، وهي جوهر
عبادة العارف بالله. قال البسطامي: من ثلاثين سنة كان الحق مرآتي، فصرتُ اليوم مرآة نفسي، لأني لستُ الآن من كنته. وفي قولي: أنا والحق، إنكارٌ لتوحيد الحق؛ لأني عدمٌ محض (النور من كلمات طيفور: عبد الرحمن بدوي، ص 65)
= فبعد أنْ كان منذ ثلاثين سنة يربي نفسه على الآداب الشرعية أو الرياضيات الصوفية، حان وقت الوصول، وحان وقت الانقطاع عن التقيد بتلك الآداب، إذ شب عن الطوق وبلغ رشده، وصار مرآة نفسه: يقنن لها السبيل الذي ينبغي أنْ تسلكه، بعد أنْ صار عدماً محضاً، وتمَّ له الاتحاد الذي كان ينشده ويسير وراءه ويبتغيه، فهو والحق شيءٌ واحدٌ.
قال: خرجتُ من بايزيديتي كما تخرج الحية من جلدها، ونظرتُ فإذا العاشق والمعشوق والعشق واحد؛ لأنَّ الكل واحد في عالم التوحيد (تذكرة الأولياء: فريد الدين العطار 1 / 137).
وقال: رفعني الله فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إنَّ خلقي يحبون أنْ (يروني). فقلت: زيني بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك (اللمع: السراج الطوسي ص 382).
** ** ** ** **
و(الشطح) عند المتصوفة شطحان: شطح جزئي، وشطح كامل.
فالشطح الجزئي: هو كلامٌ ظاهرُه مستشنع لكن باطنَه مستقيم، وصاحبُه لا يحلُّ محلَّ الله، أو يتكلمُ بالنيابة عنه.
والشطح الكامل: هو تعبيرٌ عما تشعر به النفس لأول مرةٍ في حضرة الألوهية. ويأتي نتيجة وجْدٍ عنيفٍ لا يستطيع صاحبه كتمانَه، فينطلق بالإفصاح عنه لسانه، فيتكلم عن الله وكأنه الله ذاته (بصيغة المتكلم)، أو يتكلم نيابة عنه. قال ابن تيمية (ت: 728 هـ / 1328 م): بعضُ ذوي الأحوال قد يحصلُ له في حال الفناء القاصر سُكْرٌ وغيبة عن السوى – والسُّكْرُ وَجْدٌ بلا تمييز- فقد يقول في تلك الحال: سبحاني، أو: ما في الجبة إلاَّ الله، أو مثل ذلك من الكلمات التي تُؤْثر عن أبي يزيد البسطامي أو غيرِه من الأصحّاء. والعبارات التي تصدر عن هؤلاء في تلك الحالة، تُطوى ولا تُروى ولا تُؤدَّى (مجموعة الرسائل والمسائل 1 / 168، مجموع الفتاوى 2 / 461).
وفسَّرَ السراج الطوسي (ت: 378 هـ / 988 م) الشطح الصوفي بأنه عبارةٌ مستغرقةٌ في وصْف وَجْدٍ فاض بقوته، وهاج بشدة غليانه وغلبته (اللمع ص453).
= وقد لجأ المتصوفة إلى هذا التعريف لتبرير الكفر والزندقة الذي فاضت به كتب القوم وتواتر عنهم؛ معتذرين أنَّ ما قالوه قد قالوه في حالة سُكْر بما تجلى لهم من حقائق، وبما عاينوه من علوم، فزعموا أنها أسكرتهم وأطارت صوابهم، وجعلتهم يتكلمون بمثل هذه العبارات.
وهو تبريرٌ سمجٌ لا يغيّر من الحقائق شيئاً، فما قالوه كفرٌ واضحٌ ظاهر، وافتراءٌ بيّنٌ على الشريعة. فهذه العبارات لها معان محدودة، وهي نسيجٌ مؤلَّفٌ متماسك، وليستْ كلاماً غير منضبط ككلام السكران والغائب عن الوعي.
= وإذا كانت مثل تلك العبارات تُسَمَّى شطحاً، فلماذا يعمدون إلى تأويلها وتفسيرها، وإخراج درر معانيها، بل جعْلها من مناقب قائليها ووصولهم إلى الحقيقة؟!
= وهل الشطح كتبٌ كاملة مؤلفة منسقة منفصلة، أم هي عقيدة ودين باطني يريد أربابه صرف المسلمين عن عقيدة الكتاب والسنة إلى الكفر والإلحاد والزندقة؟! فعقيدتهم أنَّ الأديان جميعاً هي دينٌ واحد، وأنَّ الخلق كافة هم عين الخالق، ولا موجود إلاَّ الله. قال الحلاج (ت: 309 هـ / 922 م): الأديان كلها لله عز وجل، شَغَل لكل دين طائفة، لا اختياراً فيهم بل اختياراً عليهم، فمن لام أحداً ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنه اختار ذلك لنفسه. واعلم أن اليهودية والنصرانية والإسلام وغير ذلك من الأديان هي ألقابٌ مختلفة وأسامٍ متغايرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف (الحلاج الأعمال الكاملة: قاسم محمد عباس، ص 258)، فكلُّ العباد من صور الله. وقال الحلاج أيضاً: الكفرُ والإيمانُ يفترقان مِن حيث الاسمُ، وأمَّا مِن حيث الحقيقة فلا فرْق بينهما (المصدر نفسه 243).
** ** ** ** ** **
ملاحظتان هامَّتان
1 بعض المتصوفة أرادوا أن يستخرجوا دليلاً من الكتاب والسنة على شطحهم، فاستشهدوا بقوله ﷺ: «والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» فدل هذا على جواز الشطح وأنَّ الرسول فعله أو فعل مثله.
والحديث صحيح مشهور، كثير الطرق، روي عن ثمانية من صحابة النبي ﷺ، واختلف في وقفه ورفعه، ولا ضير في ذلك، فمثله لا يقال بالرأي. لكن استدلالهم به، استدلالٌ مضحكٌ يدل على بُعدهم التام عن صواب معاني الكلام. وتمامه: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحق لها ان تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلاَّ ومَلَكٌ واضعٌ جبهته لله ساجداً، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون الى الله».
وأطَّت السماء: صوَّتت، أي أصدرت صوتاً. يقال: أطَّت الإبل، إذا أنَّت من تعب أو ثقل حملٍ أو حنين؛ وأطَّ البطن: صوَّت من الجوع، أو من شرب الماء عند الامتلاء. أي إنَّ السماء لكثرة ما فيها من الملائكة أثقلها ذلك حتى أطَّت. وحق لها: أي يستحق وينبغي لها. قال الحسين بن محمد الطِّيبي (ت: 743 هـ): أي أنَّ كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطَّت، وهذا مثل إيذان بكثرة الملائكة، وإنْ لم يكن ثمة أطيط، وإنما هو كلام تقريب، أريد به تقرير عظمة الله تعالى. والصُّعُدات: الطرق جمع صَعيد، وأراد الصحارى، واختار الجمع للمبالغة، والصعيد في الأصل هو التراب، والأظهر أنه وجه الأرض، أي: لخرجتم إلى طرقات البراري والصحارى وممر الناس، كما يفعل المحزون لبث الشكوى والهم المكنون، قال عبد الغفار بن عبد الكريم التُّورِبِشْتي (ت: 699 هـ): المعنى: لخرجتم من منازلكم إلى الجَبَّانة ـ المقابر ـ، متضرعين إلى الله تعالى؛ ومن حال المحزون أن يضيق به المنزل فيطلب الفضاء الخالي لشكوى بثه (مرقاة المفاتيح رقم 5347). وتجأرون إلى الله: تتضرعون إليه بالدعاء ليدفع عنكم البلاء. يقال: جأر إلى الله: رفع صوته بالدعاء وتضرع إلى الله. وقوله: «إني أرى ما لا ترون، وأسمعُ ما لا تسمَعون»، أي: أشاهِدُ ما لا تستطيعون مُشاهدته، وأسمعُ ما لا تستطيعون سماعَه مِن أمورٍ غائبةٍ عنكم.
فالحديث من الأحاديث العظيمة الجليلة التي تكسو القلوب انكساراً بين يدي الله، واعترافاً بالفقر إليه، رجاء رحمته وعفوه وإحسانه؛ لأنَّ الأمر جد خطير، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ ـ الحج 2،1 ـ. قال ابن حجر (ت: 852 هـ / 1449 م): المراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة الله، وانتقامه ممَّن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع، والموت، وفي القبر، ويوم القيامة؛ ومناسبة كثرة البكاء وقلة الضحك في هذا المقام واضحة، والمراد به التخويف (فتح الباري 11 / 319)، فأين هذا المعنى من الشطح المزعوم؟ بل نسبة النبي ﷺ إلى الشطح كفر وزندقة: فالنبي ﷺ عاين ما عاين من أمر الله وكان في كل ذلك هو الإنسان الكامل والرسول الصادق والعبد الكامل؛ ولم يكن له حال أو مقال يخالف عقيدته التي نشرها وبَيَّنها والتي جاء بها كتاب الله؛ وما خالف بعض كلامه بعضاً لحال أو مشاهدة؛ وما قال يوماً: "سبحاني" و"ما في الجبة إلاَّ الله".
قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ ـ الزمر 23ـ.
وقال أيضاً، في وصف حال الأنبياء والرسل والمؤمنين عند سماع آيات الله: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ ـ مريم 58ـ
فليس عندهم عند سماع الآيات إلاَّ السجود والبكي، وليس الشطح.
2 كما استشهدوا بقصة الرجل الذي كان في وسط الصحراء، بأرض مَهْلَكَة يُخشى الموتُ فيها، ففقد راحلته، فلمَّا وجدها صاح بفرحة " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " (صحيح البخاري 6308، صحيح مسلم 2747)، مع أنَّ النبي ﷺ أوضح بأنَّ هذا العبد أخطأ من شدة الفرح في مقولته، فكيف يُمدح هذا الكلام بعد ما وصفه النبي ﷺ بالخطأ؟!
** ** ** ** **
سادساً: الحَلَّاج (ت: 309 هـ / 922 م)
الحَلَّاج: هو الحسين بن منصور الفارسي البيضاوي الصوفي؛ (والبيضاء: تبعد ثلاثين كيلو متراً شمال شرق مدينة شيراز بإيران).
وكان جده «مَحْمِيٌّ» مجوسياً. وقد أكثر الحَلَّاج الترحال والأسفار والمجاهدة، وشغل الناس في كل مكان أقام فيه. فارتحل أولاً إلى ما وراء النهر (وهي اليوم أوزبكستان والجزء الجنوبي الغربي من كازاخستان وشمال أفغانستان)، ثم رجع إلى فارس، وأخذ يدعو إلى الله، فصنف لهم التصانيف، وتكلم بالأسرار وبما في قلوب الناس، ثم خرج إلى مكة. ثم جاء إلى الأهواز، فحمل جماعة من كبار أهلها إلى بغداد، فأقام بها سنة. ثم قصد إلى الهند وما وراء النهر ثانياً ثم رجع، فكانوا يكاتبونه من الهند بالمغيث، ومن بلاد الصين وتُرْكستان بالمُقِيت، ومن خراسان (شمال شرق إيران) بأبي عبد الله الزاهد، ومن خوزستان / عربستان بحَلَّاج الأسرار، وقوم ببغداد يسمونه المُصطلم، وقوم بالبصرة يسمونه المُحيّر؛ ثم كثرت الأقاويل عليه فحج ثالثة، وجاور سنتين، ولبس المرقعة (وهي من سمات المتصوفة: يعمدون إلى ثوبين أو ثلاثة، كل واحد منها على لونٍ، فيجعلونها خرقاً ويلفقونها، فيصير لبسها أشهى من الدِّيباج). لكنه لمَّا رجع، تغير عمَّا كان عليه، فاقتنى العقار ببغداد، وبني داراً، ودعا الناس.
وقيل: إنما قيل له: الحَلَّاج لأنه دخل واسطاً (شمال بغداد) فاستقبله قطان، فكلفه إصلاح شغل له والرجل يتثاقل عليه، فقال له: اذهب فإني أعينك؛ فذهب القطان؛ ولمَّا رجع رأى كل قطنه محلوجاً مندوفاً، وكان أربعة وعشرين ألف رطلاً (أي حوالي 53 طناً)!
وقيل: كان أبوه حلاجاً. وكلا القولين غير صواب، وهو من كلام القصاص، وإنما سُمّي بذلك لأنَّ أباه كان يعمل في حلج القطن، فنسبوه إليه (انظر تاريخ الإسلام: الإمام الذهبي 7 / 17).
ثم وقع بينه وبين أبي بكر الشبلي (ت: 334 هـ / 945 م) وغيره من مشايخ الصوفية، فقالوا عنه: ساحر، وقالوا: مجنون، وقالوا: هو ذو كرامات، حتى أخذه السلطان.
= وكان يصحح حاله عدد من المتصوفة الثقات، أشهرهم: أبو العباس ابن عطاء (أحمد بن محمد الآدمي، ت: 309 هـ / 921 م)، وأبو القاسم إبراهيم بن محمد النصرأباذي (ت: 367 هـ / 977 م) ومحمد بن خفيف الضبي الفارسي (ت: 371 هـ / 981 م). وأثر عن أبي العباس بن سُريج (ت: 306 هـ / 918 م) القاضي إمام الشافعية، أنه قال للذين أفتوا بقتله: لعلهم نسوا قول االله تعالى ﴿أتقتلون رجلاً أن يقول ربي االله﴾ ـ غافر 28 ـ. ووقتما سألوه عن رأيه فيه، قال: أمَّا أنا فأراه حافظاً للقرآن، عالماً به، ماهراً في الفقه، عالماً بالحديث والأخبار والسنن، صائماً الدهر، قائماً الليل، يعظ ويبكي ويتكلم، لا أفهمه فلا أحكم بكفره (أخبار الحلاج: ابن الساعي ص 106، 107).
لكن سائر الصوفية والمشايخ والعلماء تبرأوا منه لسوء سيرته ومُروقه: فنسبه بعضهم إلى الحلول، ونسبه بعضهم إلى الزندقة، وبعضهم إلى الشعبذة، كما تستر به طائفة من ذوي الضلال والانحلال فانتحلوا مذهبه وروَّجوا به على الجهّال.
= كان يلبس المُسوح (وهو كساء من شعر يلبسه الرهبان)، ووقتاً يلبس الدُّرَّاعة (وهي جبة واسعة، مشقوقة المقدم)، ووقتاً العمامة والقباء (والقباء، بفتحتين: ثوب يلبس فوق الثياب ويتمنطق عليه)، ووقتاً يمشي بخرقتين (والخرقة - في اصطلاح الصوفية - : ثوب على الغالب من صوف، يلبسه المريد من شيخه الذي دخل في إرادته، يرون أن في لبسه معنى المبايعة ودخول المريد في صحبة شيخه. وفي أيامنا استبدلوا الثوب بعمامة بيضاء أو سوداء أو خضراء، أو طاقية مزركشة أو بيضاء، هي بمثابة (إجازة) علمية من الشيخ للمريد. وللبس الخرقة طقوس لابد من اتباع خطواتها: فبعد وضوء الشيخ ومريده، توضع الخرقة بينهما، وتقرأ الفاتحة، ويقوم الشيخ بإلباسها للمريد وهو يقرأ سلسلة إسناد وصول الخرقة إليه (ورجال الإسناد بينهم انقطاع، فلا يصح)، آخذاً على المريد عهد الوفاء لشرائط الخرقة وحقوق خدمتها، فيسري (حالٌ) من روح الشيخ إلى روح المريد كسراج يقبس من سراج، يشبهون ذلك بقميص سيدنا يوسف الذي ألقاه على وجه أبيه سيدنا يعقوب فارتد بصيراً).
** ** **
قال ابن الوليد محمد بن أحمد الكرخي المعتزلي (ت: 478 هـ / 1085 م): كان المشايخ يستثقلون كلامه، وينالون منه، لأنه كان يأخذ نفسه بأشياء تخالف الشريعة وطريقة الزهاد، وكان يدعي المحبة لله ويظهر منه ما يخالف دعواه.
وقال ابن النديم (ت: 438 هـ / 1046 م): قرأت بخط عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر (ت: 300 هـ / 912 م): كان الحلاج مشعبذاً محتالاً.. جسوراً على السلاطين، مرتكباً للعظائم، يروم إقلاب الدول، ويدَّعي عند أصحابه أنَّ الإلهية حلت فيه، ويُظهر التشيع للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة (الفهرست: ابن النديم 242).
= وفي سنة (309 هـ / 921 م) أُدخل الحلاج بغداد مشهوراً على جَمل، قبض عليه بالسوس، في إقليم الأهواز جنوب إيران، وحُمل إلى إبراهيم بن هلال الرائشي فبعث به إلى بغداد، فصُلب حياًّ، ونُودي عليه: هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه.
وقال الفقيه أبو عليّ ابن البَنّاء (ت: 471 هـ / 1078 م): صُلب في الجانب الشرقي، ثم في الغربي، ووجد في كتبه: «إني مغرق قوم نوح، ومهلك عاد وثمود». وكان حُبس بسعاية وقعت به في وزارة الوزير العادل علي بن عيسى (ت: في أواخر سنة 334 هـ / 945 م) وأنهي خبره إلى الخليفة العباسي الثامن عشر المقتدر (ت: 320 هـ / 932 م) فلم يقر بما رُمي به، وعاقبه، وصلبه حياًّ أياماً، ونودي عليه، ثم حُبس سنين، ينقل من حبس إلى حبس، حتى حٌبس بأخرة في دار السلطان، فاستغوى جماعة من الغلمان، وموَّه عليهم، واستمالهم بحيله، حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه. ثم راسل جماعة من الكبار، فاستجابوا له، وترامى به الأمر حتى ذُكر عنه أنه ادَّعى الربوبية، فسُعِي بجماعة من أصحابه فقُبض عليهم، ووُجد عند بعضهم كتبٌ له تدل على ما قيل عنه، وانتشر خبره، وتكلم الناس في قتله، فسلمه الخليفة إلى الوزير حامد بن العباس (ت: 311 هـ / 923 م)، وأمر أنْ يكشفه بحضرة القضاة، ويجمع بينه وبين أصحابه، فجرت في ذلك خطوب، ثم تيقن السلطان أمره، فأمر بقتله، فضُرب بالسياط نحواً من ألف، وقُطعت يداه ورجلاه، وضُربت عنقه، وأُحرق بدنه، ونُصب رأسه للناس، وعُلقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه.
ومن المفارقات العجيبة أنه كان يدعو إلى قتله! فذُكر أنه كان يصيح في الأسواق، وهو في حالة من الجذبة والطرب: يا أهل الإسلام! أغيثوني! فليس (أي االله) يتركني ونفسي فآنس به، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلالٌ لا أطيقه. وصاح في جامع المنصور: اعلموا أنَّ االله أباح لكم دمي فاقتلوني. اقتلوني تؤجروا وأسترح. ليس في الدنيا للمسلمين شغلٌ أهم من قتلي. تكونوا أنتم مجاهدين وأنا شهيد (أخبار الحلاج: ابن الساعي 38، 50، 77).
وسُئل ابن تيمية (ت: 728 هـ / 1327 م) عنه، فأجاب: من اعتقد ما يعتقده الحلّاج من المقالات التي قُتل عليها، فهو كافر مرتدّ باتفاق المسلمين؛ فإنَّ المسلمين إنَّما قتلوه على الحلول والاتحاد، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله: أنا الله، وقوله: إله في السماء وإله في الأرض. ومن قال: إنَّ الله نطق على لسان الحلّاج، وإنَّ الكلام المسموع من الحلّاج كان كلام الله، وكان الله هو القائل على لسانه: أنا الله، فهو كافر باتفاق المسلمين؛ فإنَّ الله لا يحلّ في البشر، ولا تكلّم على لسان بشر، ولكنْ يرسل الرسل بكلامه، فيقولون عليه ما أمرهم ببلاغه وما أمرهم بقوله. وقول القائل: إنَّه قُتل ظلماً قولٌ باطل، فإنَّ وجوب قتله على ما أظهره من الإلحاد أمرٌ واجبٌ باتفاق المسلمين؛ لكن لمّا كان يظهر الإسلام ويبطن الإلحاد إلى أصحابه، صار زنديقاً، فلمّا أخذ وحُبس، أظهر التوبة. والفقهاء متنازعون في قبول توبة الزنديق، فأكثرهم لا يقبلها، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، ومذهب أحمد في أشهر الرّوايتين عنه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، ووجه في مذهب الشافعي؛ والقول الآخر تقبل توبته. وقد اتفقوا على أنَّه إذا قُتل مثل هذا، لا يُقال قتل ظلماً (مجموع الفتاوى 2 / 480، 481، 483 ـ 484).
أمَّا ما يُحكى عنه من ظهور كرامات له عند قتله، مثل كتابة دمه على الأرض: الله، الله، وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك، فكله كذب. فقد جمع المسلمون أخباره في مواضع كثيرة، فذكره ثابت بن سنان (ت: 365 هـ / 975 م) في أخبار الخلفاء وقد شهد مقتله، كما ذكره إسماعيل بن علي الخطبي (ت: 350 هـ / 961 م)، الأخباري الثقة، في تاريخ بغداد وقد شهد قتله، كما ذكره القاضي أبوبكر بن الطيب الباقلاني (ت: 403 هـ / 1012 م)، وابن حزم (ت: 456 هـ / 1064 م)، وأبو يعلى الفراء (ت: 458 هـ) في كتابه المعتمد في أصول الدين، وذكره الخطيب البغدادي (ت: 463 هـ / 1070 م) في تاريخه، وذكره أبو يوسف القزويني المعتزلي (ت: 488 هـ / 1095 م)، وابن الجوزي (ت: 597 هـ / 1200 م) فيما جمعا من أخباره، ولم يُذكر ذلك عن أي طريق.
كما ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي (ت: 412 هـ / 1021 م) في طبقات الصوفية، أنَّ أكثر المشايخ أخرجوا الحلاج من طريق الصوفية؛ كما لم يذكره أبو القاسم القشيري (ت: 465 هـ / 1072 م) في رسالته من المشايخ الذين عدَّهم من مشايخ الطريق، ولا نعلم أحداً من أئمة المسلمين ذكره بخير، لا من العلماء ولا من المشايخ، ولكنَّ بعض الناس يقف فيه لأنه لم يعرف أمره، وأبلغ من يحسن به الظن يقول: إنه وجب قتله في الظاهر، فالقاتل مجاهد والمقتول شهيد، وهذا أيضاً خطأ. وقول القائل: إنه قتل ظلماً، قول باطل، فإن وجوب قتله على ما أظهره من الإلحاد أمر واجب بالاتفاق (مجموع الفتاوى 2 / 483 - 484).
** ** **
ومفهوم الحلول كما تصوَّره الحلاج أنَّ الحق تجلى لنفسه في الأزل قبل أن يخلق الخلق، وجرى له في حضرة أحديته مع نفسه حديثٌ لا كلام فيه ولا حروف.
= ففي الأزل حيث كان الحق ولا شيء معه، نظر إلى ذاته فأحبها، وأثنى على نفسه، فكان هذا تجلياً لذاته في صورة المحبة المنزهة عن كل وصف وكل حد، فكانت هذه المحبة علة الوجود والسبب في كثرة الوجودية، ثم شاء الحق سبحانه أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلاً فـي صورة خارجية يشاهدها ويخاطبها، فنظر في الأزل وأخرج من العَدَم صورة مـن نفسه لها كل صفاته وأسمائه وهي آدم الذي جعله االله صورته أبد الدهر، فكان آدم من حيث ظهور الحق بصورته فيه وبه هو هو (الطواسين: الحلاج، ترجمة: لويس ماسينيون ص 129)؛ وصاغ ابن عربي (ت: 638 هـ / 1240 م) نفس هذه العبارة، بأسلوبه عالي البلاغة، في فصوص الحكم (ص 8 / فص: حكمة إلهية في حكمة آدمية)، شرح الشيخ: عبد الرزاق القاشاني.
= وقال الحلاج: مَنْ هذَّب في الطاعة جسمه، وملك نفسه، ارتقى به إلى مقام المقربين، فإذا لم يبق فيه من البشرية نصيب حلَّ فيه روح االله الذي كان منه عيسى بن مريم (الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي، ص 198).
وقال:
أنا مَنْ أهوى ومَنْ أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنـــــــا
فإذا أبصـــرتني أبصـرتــه
وإذا أبصرته أبصرتنــــــا
(ديوان الحلاج 166).
وقال :
مُزجتْ روحك في روحي كما
تُمزج الخمرة في الماء الزلال
فإذا مَســـــَّك شيء مسنـــــــي
فـــإذا أنت أنــا في كــل حــال
(ديوان الحلاج 160).
** ** ** ** ** **
وخلاصة القول إنَّ الحلاج شخـصية متميزة في تاريخ التصوف الإسـلامي، ارتبط به مذهب الحلول، فاعتبره الفقهاء ورجال الدولة زنديقاً كافراً، وأنَّ قتله كان واجباً لئلا يُحدِث فتنة بين الناس؛ مع أنَّ استجوابه لم يُحسم فيه بطريقة الحِجاج، إنما أمام شـيوع ذكره، وتزايد أتباعه، كان لا بد من إنهاء أمره بالقتل؛ فألقي القبض عليه لتهم أربعة وجهت إليه، هي: مراسلاته السرية مع القرامطة أعداء الخلافة. واعتقاد طلابه في ألوهيته. وقوله بالحلول. وقوله بالحج بالهمة بديلاً عن الحج الشرعي (وقد وجدوا له كتابات بخطه في هذا الصدد لم يتنصل منها).
قال إبراهيم بن فاتك - أحد تلامذة الحلاج -: لمَّا أوتي بالحسين بن منصور ليُصلب، رأى الخشبة والمسامير، فضحك كثيراً حتى دمعت عيناه، ثم التفت إلى القوم، فرأى الشبلي (ت: 334 هـ / 945 م) فيما بينهم، فقال له : يا أبا بكر، هل معك سجادة؟ فقال: بلى يا شيخ. قال: افرشها لي. ففرشها، فصلى الحسين بن منصور عليها ركعتين، وكنتُ قريباً منه، فقرأ في الأولى فاتحة الكتاب و﴿لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع﴾ الآية، وقرأ في الثانية فاتحة الكتاب وقوله تعالى ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾ الآية، فلمَّا سلَّم عنها ذكر أشياء لم أحفظها، وكان مما حفظته: هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك، وتقرباً إليك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت، فلك الحمد فيما تفعل، ولك الحمد فيما تريد. ثم سكت وناجى سراً. فتقدم أبو الحارث السياف، فلطمه لطمة، هشم أنفه، وسال الدم علـى شيبه، فصاح الشبلي، ومزق ثوبه، وغشي على أبي الحسين الواسطي، وعلى جماعة من الفقراء المشهورين، وكادت الفتنة تهيج، ففعل أصحاب الحرس ما فعلوا (أخبار الحلاج: ابن الساعي 64).
** ** ** ** **
سابعاً: ظهور الطرق الصوفية
ظل الخطاب الصوفي يسري بين المسلمين، وازداد مع الأيام مريدوه ومشايخه خاصة في أرض فارس ثم العراق. وساعد على انتشاره في فارس أن أقام أبو سعيد بن أبي الخير الميهني (ت: 440 هـ / 1049 م) نظاماً خاصاً للرتب الصوفية وللخانقاهات (جمع خانقاه، وهي مكان ينقطع فيه المتصوفة وأهل الخير إلى العبادة). الذي أصبح فيما بعد مركزاً للصوفية، وقلده في ذلك عامة رجال التصوف (انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء 17 / 622 وقال الذهبي عنه: له أحوال ومناقب، ووقْعٌ في النفوس وتأله وجلالة).
ومن هنا نشأت في منتصف القرن الرابع الهجري بدايات الطرق الصوفية التي سـرعان ما انتشرت في العراق ومصر، والمغرب. فبعد أنْ كان التصوف سلوكاً فردياً، صار مسلكاً جماعياً، يكون للمريد العارف قطباً يهديه ويرشده، إذ من الصعب أن يتعلم المريد في غياب الشيخ والقطب، أو يسافر بعيداً في حضرته الصوفية وتعراجه الذوقي، دون مرافق يساعده على تحمل مشقة السفر أو الحج. ومن هنا، تسمَّتْ كل طريقة باسم الشيخ الذي تنتمي إليه.
** ** ** ** **
وقد انتشرت في العالم الإسلامي، قديماً وحديثاً، طرقٌ كثيرة، واقترنت بالزوايا والروابط والمساجد، ومن الصعب حصرها جميعها في هذا المقال، لكننا سنذكر أهمها، حسب ترتيب سنة وفاة مؤسسيها:
فهناك الطريقة القادرية، وتُسمى بالطريقة الجيلانية، نسبة إلى عبد القادر بن موسى الجيلاني (ت: 561 هـ / 1166 م)؛ والطريقة الأكبرية في مصر، نسبة إلى ابن عربي (ت: 638 هـ / 1240 م) الملقب بالشيخ الأكبر؛ والطريقة الشاذلية، نسبة إلى علي بن عبد الله الشاذلي (ت: 656 هـ / 1258 م)؛ والطريقة المولوية وتسمى الجلالية أيضاً، نسبة إلى المولى جلال الدين محمد بن محمد الرومي (ت: 672 هـ / 1273 م)؛ والطريقة الأحمدية، نسبة إلى أحمد بن علي البدوي (ت: 675 هـ / 1276 م)، وانتشرت في مصر إبان حكم الظاهر بيبرس (ت: 676 هـ / 1277 م)، ولا علاقة لها بالجماعة الأحمدية أو القاديانية أو الجماعة الإسلامية الأحمدية التي تأسست في البنجاب في أواخر القرن التاسع عشر؛ والطريقة العلوية البكتاشية، التي انتشرت في الأَناضول، ثم في ألبانيا، وتُنسب إلى محمد بن إبراهيم أتا الشهير بالحاج بكتاش (ت: 736 هـ / 1336 م)؛ والطريقة النقشبندية، نسبة إلى محمد بهاء الدين شاه نقشبند البخاري (ت: 791 هـ / 1388 م)؛ والطريقة العيسوية، نسبة إلى الشيخ الكامل محمد الهادي بن عيسى المغربي (ت: 930 هـ / 1524 م)؛ والطريقة الدلائية في المغرب، وتُسمى أيضاً البكرية، نسبة إلى أبي بكر بن محمد بن سعيد الدلائي (ت: 1046 هـ / 1636 م)؛ والطريقة الناصرية، نسبة إلى محمد ابن ناصر الدرعي التامكَروتي في المغرب (ت: 1085 هـ / 1674 م)؛ والطريقة التجانية، نسبة إلى أحمد بن محمد التيجاني (ت: 1230 هـ / 1815 م)؛ والطريقة الحراقية في المغرب، نسبة إلى محمد الحراق العلمي الموسوي (ت: 1261 هـ / 1845 م)؛ والطريقة القادرية البودشيشية في المغرب، نسبة إلى علي بن محمد (ت: 1439 هـ / 2017 م)، ويُلقب "سيدي علي بودشيش" لأنه كان يطعم الناس بزاويته أيام المجاعة حساء الدشيشة. والدشيشة وتسمى أيضاً شربة الشعير، هو حساء معروف في المغرب العربي، تُصنع من الشعير بعد أن يتم طحنه وتحويله إلى حبات خشنة. وهناك الطريقة الخوفية إحدى الطرق الصوفية المنتشرة في الصين.
** ** ** ** **
وعماد الطرق الصوفية الأساس هو (الحضرة)، وهم في ذلك قسمان:
1- الصوفية الجالسة، وهم أيضاً قسمان: صامتة، وصائتة.
فالجالسة الصامتة: يقرؤون أورادهم وأذكارهم جلوساً صامتين، وقد يجهرون بها بعض الأحايين، أو قد يقفون، نادراً، حسب توجيهات الشيخ.
والجالسة الصائتة: يقرؤون أورادهم وأذكارهم جلوساً مع الجهر بالصوت.
2- الصوفية الراقصة: وعليها أكثر الطرق. يبدؤون جلوساً، ثم ينهضون للقفز والرقص، وقد يصاحب قفزهم الطبول والدفوف. وقد يكون الرقص فردياً مع السماع، ويكون رقصاً بدون آلات أو مع آلات.
تبدأ (الحضرة) بدرس يلقيه الشيخ، أو بقراءة بعض الأحاديث النبوية دونما تمييز، أو بنشيد ديني. ثم يبدأ (الورد)، و(الورد) لا يكون دون الالتزام التام (بالرابطة الشريفة)، وهي أن يربط كل مريد بصره بشيخه إنْ كان حاضراً، أو يتصوره في خياله إنْ كان غائباً، ويمكن وضع صورة الشيخ أمام المريد والنظر إليها حتى يتدرب شيئاً فشيئاً على تصوره، في وهمه، دون عناء.
وقد يقرأ أحدهم، بأمر الشيخ، (سلسلة الطريقة)، ولا إسناد علمي صحيح لها، سواء في وفيات الرجال وسني أعمارهم، أو في جرحهم وتعديلهم! مع ملاحظة أن مؤسسي الطرق كافة، يجعلون نسبهم متصلاً بالسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، ادعاءاً أو كشفاً، ونهاية إسنادهم يكون إمَّا عن علي بن أبي طالب، وإمَّا عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما.
ثم تأتي الأذكار والصلوات على النبي محمد ﷺ، ولكل طريقة أذكارها وصلواتها، وكلها واحدة في معناها، مختلفة في ألفاظها وعددها.
وتنتهي الجلسة بالفاتحة، وإهدائها إلى النبي ﷺ، وإلى رجال (السلسلة الشريفة)، وربما زاد بعضهم على ذلك بعضاً من قراءة آي من القرآن الكريم. ثم يمد الشيخ يده، ويقبلها المريدون.
أما الصوفية الراقصة، فهم بعد الانتهاء من جلسة الذكر، يقفون على شكل حلقة غير تامة، أو أكثر من حلقة إذا كان العدد كبيراً، ويقفزون بمكانهم، يتوسطهم الشيخ أو نائبه، فيحركهم بإشارات من يده، وهم يرددون: الله حي، الله حي. بأنَات تتفق مقاطعها مع مطالعها، ويد كل واحد ممسكة بقوة بيد جاره، متشابكة أصابعهم، وهم في قفزهم يرتفعون معاً، ويهبطون معاً، وقفزهم يكون بتحريك الرأس والجذع إلى الأمام والوراء، دون رفع الأرجل عن الأرض، وقد ترتفع الأعقاب. بينما يقف المسنون منهم في الأطراف، وقد لا يشبكون أيديهم بأيدي جيرانهم. يرافق ذلك، إنشاد من منشد حسن الصوت.
والأناشيد عند الفرق الصوفية، مشتركة بين الجميع، إلاَّ التي تختص بتقديس شيوخ الطريقة. وفي بعض الطرق (كالرفاعية) يرافق القفز ضرب طبول، وعند بعضها (كالمولوية) يرفقها نايات وصنوج ومزاهر.
ثم بعد ذلك، يجلسون ويقرؤون الفاتحة مع الإهداء والدعاء وشرب الشاي.
** ** **
ملاحظات لابد منها
1- يزعم كل شيخ أنه هو الوريث الحق للرسول ﷺ.
2 - والمريد لا يحق له الانتقال من شيخ إلى شيخ، لئلا تحترق (لطيفة) الشيخ من المريد. فاللطيفة (وهي جزء من روح الشيخ) تراقب المريد وترعاه وتبصره، وتراه في فراش الزوجية ! ويستطيع الشيخ على الدوام، مادامت (لطيفته) مع المريد مراقبة المريد وصون مساره وحفظه من كل سوء! وكثيراً ما دعونا بكل حماس وثقة: يا الله، يا رجال الغيب، يا شيخي، المدد المدد ! الغوث الغوث !
3- (المُراد )، أي المجذوب للحضرة دون إرادة منه، أو دون مجاهدة، يُوصف على الدوام، بأن الله شيخه ! ولا يُلزم بأي طريقة، لكن لا بد من تردده على شيخ (مؤنس)، يُبَصّره بما يراه ويشاهده من فيوضات إلهية!
4- للورد قدسية تفوق قداسة القرآن الكريم ! ولا يجوز قراءته في حالات معينة (كحالات وجوب الاغتسال ودخول الحمام).
5 - ولا يجوز الانتقال من ذكر اسم إلى اسم آخر إلاَّ بإذن الشيخ، فلا يصح، في الطريقة الرفاعية، أن تبتدئ بذكر (لا إله إلا الله) ثم (يا الله) ثم (يا وهاب) في جلسة واحدة، لئلا تعجز الروح عن الارتقاء، فكل مريد له قدر قوة على تحمل أنوار الأسماء، لا يعرف قدرها وعزمها إلاَّ الشيخ وحده. ويقولون: محال انتقال تلميذ المرحلة الابتدائية من مسائل الضرب والجمع والقسمة البسيطة إلى مسائل الهندسة الفراغية والتطبيقية بمفرده ! بل لن يستطيع استيعابها إلاَّ بعد عدة خطوات تعليمية يجتازها ! وكذلك أسماء الذات الإلهية: لكل اسم خدام علويون وسفليون، يختلفون في شدتهم ورحمتهم، وقوتهم وبساطتهم، وخفتهم وثقلهم ! فلا تُذكر الأسماء كلها، في بدء خطوات المريد، لئلا يحضر الخدام جميعهم، فيثقلون على المريد ويزيدونه رهقاً، أو قد يضطرب عقله.
6- كما لا يجوز للمريد قراءة بعض سور القرآن الكريم، كسورة يس، أكثر من مرة، دون علم الشيخ، خشية اجتماع خدام السورة، فتحلق روح القارئ أكثر مما ينبغي لها.
** ** ** ** **
وبعد، فقد قال الرسول ﷺ، وهو أصدق القائلين: «قد تركتكم على المَحَجَّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلاَّ هالك. ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سُنتي وسُنة الخلفاء المهديين، عُضُّوا عليها بالنواجذ» (مسند ابن حنبل 17185، سنن أبي داود 4607، وإسناده صحيح).
والمَحَجَّة: جادة الطريق، أي وسطه، من الحَجّ، وهو القصد. ووصفها ﷺ بالبيضاء لوضوحها. وقال: ليلها كنهارها، أي واضحة جلية لسالكها، لا لبس فيها. والنواجذ: أقصى الأضراس، وهي أربعة في أقصى الأسنان بعد الأرحاء، وتسمى ضرس الحلم، لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل. يعني: عضوا عليها بجميع أضراسكم، لأن من عضَّ بالنواجذ فقد عضَّ بجميع أضراسه. وهذا مثلٌ لشدة التمسك بها، كما يتمسك العاضُّ بجميع أضراسه.
﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ ـ البقرة 286 ـ ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ
لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ ـ آل عمران 8 ـ


نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع د. منذر أبوشعر
 تفضل بزيارتي على موقعي الشخصي

http://drmonther.com
د. منذر أبوشعر غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مفهوم, التصوف, وتطوره


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
نافلة القول في مراتب أهل التصوف د. منذر أبوشعر مدينة د. منذر أبو شعر 8 26 / 07 / 2021 19 : 06 PM
مش..مفهوم..2 محمد جادالله محمد الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 0 19 / 05 / 2014 39 : 08 PM
التصوف أجنحة محبة ـــ ليلى مقدسي ليلى مقدسي الشعرالروحي الصوفي 5 07 / 06 / 2012 30 : 07 PM
التصوف الإسلامي وحلقات الذكر هدى نورالدين الخطيب مناظرات و حوارات مفتوحة 16 05 / 04 / 2010 56 : 01 AM
الشعر الصوفي و أدب التصوف هدى نورالدين الخطيب الشعرالروحي الصوفي 6 25 / 07 / 2009 24 : 05 AM


الساعة الآن 13 : 04 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|