قراءة عابرة لنص "المفاجأة" للأديب محمد توفيق الصواف
في قراءة عجلى لهذا النص؛ نجد أن عتبته "المفاجأة"؛ تفصح عن بعض أوجه تشكلاتها في شديد اختصار لتقول إنها؛ خبر مرفوع بالضمة؛ لمبتدأ محذوف تقديره هذه، وأنها كلمة مفرد مؤنث، أصلها الإسم (مفاجئ) في صورة مفرد مذكر، جدرها (فجء)، جدعها (مفاجئ) وتحليلها (أل+ مفاجئ + ة)، وأنها عاطفة؛ شعور بالدهشة أو التعجب أو الذهول تحدث نمطا فريدا من تعبيرات الوجه اللاإرادية المتسائلة عن الحدث المستجد غير العادي؛ سواء أكان وقعه إيجابيا أو سلبيا.
وبجهد المقلّ في نظرته الاستغوارية الكاشفة للسر المخبوء وراء العتبة؛ نسائل النص عن كنه هذه الأخيرة المتموقع بين ثناياه؛ ونتساءل إلى أي حد استطاعت تحقيق عنصر الدهشة خاصيتها؟ ونطرح فرضية تطويرها للحدث المعتاد المعاش قهرا أو رضى إلى نقيض غير المتوقع، فيفاجئنا استهلاله بلفظة أحادية شبيهة بها في وحدانيتها، مفصولة بعلامة ترقيم، يميزها ارتباطها بأداة؛ ظاهرة مسبوقة؛ تشكل مع ما يلحقها من لفظ تشبيها تاما؛ يوحي بأن هناك أمرا ما غير متقبل، ويخبرنا أن المُعنى بها نصا؛ والمؤنسنة بحرف إبداع، ليست مولودا بكرا لا مثيل له؛ وإنما هي مـتجذرة حاضرة في كل عصر تشترك مع سابقتها في المواراة عن الأنظار فور ولادتها؛ مواراة تنفي الإجهاض والوأد؛ لتنمو وتتشبع من فيض الحاضر المرفوض؛ في كهف المستقبل المرتجى؛ فتحقق في الوقت المناسب عنصر كينونتها وماهيتها المتجلية في اللامتوقع بصيغة الدهشة؛ والمُحدِثِ في الحسبان المدروس والمُتنبَأ به المحسوس؛ زلزالا غير مستساغ؛ يؤكد قصور عقل وفهم الورى في إدراك ما سطره الغيب؛ اللغز المبهم؛ المتحكم في الخلائق والذي يقبر كل مخطط دنيء. ويبقى الفارق بين "المفاجأة" وبني جنسها في كل عصر؛ متمثلا في استقلالها وفردانية نوعها المحتكمين بالإطار الزمكاني لظهورها.
والجميل المفاجئ في "المفاجأة " النص؛ ذاك التناص المعنوي الذي يمتح من الذكر الحكيم ما يؤثث به أركانه ليزيده بهاء، والذي يتقاطع مع سورة "الكهف" في عدة محطات؛ ابتداء من اسمها "الكهف"؛ وهو مخبأ "المفاجأة" عند ولادتها على ضوء أحداث الحاضر هروبا من محدثاته المعاشة، كما هو مخبأ أهل الكهف؛ الفتية الذين هربوا من الكفار الذين افتروا على الله كذبا، داعين الله الرحمة والرشد؛ فكان وعد الله نشر الرحمة وتهييء المرفق الملائم لهم، وكذلك اختباء المفاجأة كان لغرض الرحمة بالمستضعفين في الأرض وتهيئتها لتظهر في الوقت المناسب على الحالة التي تجعلها مكتملة لتزرع الرعب في الظالم، ويلوذ كل جبار بالفرار من هولها. مرورا بتلك الفرصة التي أضاع فيها فتى كليم الله غذاءهما، وكانت المبتغى من التعقب؛ الذي أوصل موسى إلى الخضر الرجل العالم؛ والتي تتعالق مع فرصة الكاتب في تعقب البطلة في قوله: "وذات فرصة أدركتها"؛ والإدراك يسبقه تعقب كما حال موسى. وانتهاء بالحوار الضمني الذي أثث به الكاتب نصه متناصا مع قصة القرآن في قوله تعالى: "قَالَ لَهُ مُوسَىى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قال إنك لن تستطيع معي صبرا، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا، قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا، قال فإن اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا"(1)، المتعالق بقول الكاتب: "رجوتها أن تسمح لي بمرافقتها، فأبت.. رجوتها ثانية، فاستجابت مشترطة عليّ ألا أتدخل فيما تفعل، مهما بدا فعلها مستغرَبا لي، فقبلت..". ولم يكتف الأديب المبدع بهذا الحد بل تجاوزه إلى مجاراة الأدب اللائق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والتلطف في طلب الرفقة ثم قبول الشرط الملزم لها. ومنه إلى سؤال كل من موسى عليه السلام والكاتب في قصته عن سبب ما شهداه في طريقيهما، والردع الهادئ الزاجر من مرافقيهما بسبب عدم الصبر على الأحداث المثيرة المتتالية. وفي مغادرة بطلة النص للكاتب ذات إلحاح بالمساءلة المحرجة كما مغادرة الخضر لموسى عليه السلام لنفس السبب، استدعاء الكاتب الضمني أيضا في ذكاء مبهر لنص قرآني ثاني؛ و"قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"(2)،
وبيت القصيد في هذه الآية؛ هو السر الذي وضعه الله في أضعف خلقه؛ وهو ما أنكره القوم من بني إسرائيل على نبيهم "أشمويل" إذ "قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ"؛ حيث إن طالوت من سبط أدنى أسباط بني إسرائيل، ومن قبيلة أدنى قبائل سبطه، ومن بيت أدنى بيوت قبيلته؛ بمعنى أنه لم يكن من سبط النبوة الذي ينزل فيه الوحي، ولا من سبط الخلافة الذي تكون فيه الخلافة؛ ورغم ذلك اختير ملكا، ومعنى الملك في الآية هو الإمرة على الجيش التي طلبها بنو إسرائيل لما كتب عليهم القتال؛ حين رفعت التوراة وطرد الكفار أهل الإيمان من ديارهم وأبنائهم. والمشترك بين النص القرآني والنص الأدبي؛ متمثل في كون طالوت أدنى مكانة اجتماعية من قوم إسرائيل لكن زاده الله بسطة في العلم والجسم، وكذا اختيار بطلة النص لشاب صغير في عمر الورد لكن في عينيه الكثير من التحدي والإصرار الغير مسبوقين، وكلاهما اختيرا ليقودا معركة غير متكافئة كان النصر فيها ابتداء للعدى، ونجحا في المهمة المسندة إليهما، وفي تحقيق النصر غير المتوقع في نهاية المعركة؛ وهنا يتجلى عنصر الدهشة والذهول الذي تحمله "المفاجأة" بطلة النص، في سرد راق يندرج ضمن مجال سياسي واقعي، بأسلوب ذي جمالية مؤثرة آسرة؛ له من الدهشة نصيب، قوامه السهل الممتنع؛ على بساطة عباراته يوظف محسنات بلاغية تكثف المعنى، و يملك قوة مسيطرة تفرضها سلاسة السرد والعبارة الوازنة المختارة بعناية؛ على القارئ لتتبع أحداثه دون توقف إلى بلوغ خلاصة قلبت موازين القوة بطعم النجاح المشتهى.
---------------------------
(1)- الكهف، (65-69)، ورش
(2)- البقرة، (245)، ورش.
فشكرا للأديب المقتدر محمد توفيق الصواف الذي طوع العبارة لتؤدي حق القص المكتمل الماتع الممتع.