المفاجأة
كعادتها، في كل عصر، مضت المفاجآة مسرعةً، فور ولادتها، لتختبئ في كهف المستقبل، بانتظار أن يحين زمن اللامتوقع لتظهر على الناس ناشرة الدهشة والاستغراب...
ومن هناك، من وراء جبال الغيب الملغز، رأيتها ترقب ما يجري وتبتسم، هازئة بكل توقعات المحللين والمتنبئين.. وحين يجنها الليل بسواده، كانت تعكف على كل المخططات التي وُضعت بعناية فائقة، تقرأها وتحللها، ثم تعد لإفشالها، لا لشيء، سوى لرغبتها في أن تؤكد للجميع، أنها وحدها سيدة كل المواقف، وصانعة المنعطفات الحاسمة في مجريات الأمور.
وذات فرصة، أدركتُها، وهي تتهيأ للانطلاق إلى مخبئها المفضل.. رجوتها أن تسمح لي بمرافقتها، فأبت.. رجوتها ثانية، فاستجابت مشترطة عليَّ ألا أتدخل فيما تفعل، مهما بدا فعلها مستغرَباً لي، فقبلت..
كانت تغذ السير مسرعةً إلى ذلك المخبأ البعيد.. وكنتُ أتبعها لاهثاً لشدة سرعتها، لكنني مصمم على ألا أُفوِّت فرصة المضي معها إلى مخبئها..
حين وصلنا، كانت شمس الحاضر قد بدأت تميل إلى الغياب.. أردتُ أن أسألها مستفسراً عن بعض ما شهدتُه في الطريق، فرفعت سبابتها إلى فمها، آمرة إياي بالصمت، وإلا، فَصَمَتّ.
في صباح اليوم التالي، ومع بداية أولى إشراقات شمسه، رأيتها تنهض ميممة صوب موضع عالٍ تستطيع أن تشرف منه على ما يجري فوق أرض الحاضر..
ها هو شعب يخرج غاضباً ضد الذين جاؤوا غزاة إلى أرضه يريدون اغتصابها..
تجمع أفراده في مظاهرات حاشدة يهتفون فيها ضد الغاصب.. فإذا بزبانية الغازي يهجمون عليهم، يضربون ويقتلون لكنهم يعجزون عن إسكات صوت الحق المنطلق من الحناجر التي تحررت من الخوف، فإذا بالغاصبين يُصَعِّدون من وتيرة قسوتهم.. وبين أخذ وردّ، وإقدام وإحجام، سرعان ما انتقلت المواجهة بين الطرفين إلى صراع دامٍ بين مهاجم غازٍ ومدافع صمم على حماية وطنه.. فكثر القتل وانتشرت رائحة المأساة في كل مكان.
أردتُ أن اسأل المفاجأة، لماذا لا تتدخل، فأشارت علي بالتزام الصمت، وإلا، فصمتّ.
ومضى نهار إثر نهار، ويوم وراء يوم، والمشهد نفسه يتكرر، بزيادة عدد الشهداء أو بنقصه، لا فرق... حتى بدا التعب أخيراً على وجوه الجميع، غزاة ومدافعين، لكن أياً من الطرفين لم ييأس بعد..
إلى أن كان يوم..
خرج الطرفان كعادتهما إلى ساحات التحدي، هؤلاء يهتفون مستبسلين في دفاعهم، وأولئك يَقتلون بقسوة أشد مصممين على عدوانهم.. وأخيراً استبد التعب بالمدافعين، وبدأت علامات اليأس تلوح على وجوههم، بعدما خذلهم الجميع. ثم... انخلع قلبي، وقد رأيتهم يجمعون ما تبقى من عزائمهم وبقايا إرادتهم، وأشلاء أحلامهم مع أشلاء شهدائهم، استعداداً لإعلان الهزيمة، ولتسليم أنفسهم لغزاة وطنهم..
دمعت عيناي، ولم أعد أطيق صبراً على البقاء صامتاً، فالتفتُ إلى المفاجأة أريد الصراخ بوجهها محتجاً وموبخاً لها على مشاركتها العالم كله في خذلان أولئك الأبطال الرائعين، وليحدث ما يحدث..
لكن، وقبل أن أنطق بحرف واحد، رأيتها تغادرني بلمح البصر، راكضةً باتجاه الجموع اليائسة التي كانت تُكفكف دموعها، وما تبقى من دم في قلوبها، وقد أيقنت أنها انهزمت، وضاعت كل تضحياتها هدراً..
دخلَت بين الجموع كشعاع من برق، لتستقر في قلب أحدهم.. كان شاباً صغيراً في عمر الورد.. في عينيه الكثير من التحدي الذي لم أرَ مثله في حياتي، وعلى شفتيه تبرق ابتسامة إصرار من نوع غير مألوف.. وما إن استقرت المفاجأة في قلبه، حتى فتح فمه مطلقاً لصوته العنان.. وهو يصيح بجموع اليائسين:
عودوا.. فإن عدونا قد أثملته الآن نشوةُ انتصاره علينا.. وهذه هي الفرصة الأكثر مناسبة لكي ننقض عليه ونتخلص منه.. عودوا.. فإن الشمس ستظل تشرق علينا، وسيظل الليل والنهار يتواليان في دأبهما الرامي إلى إنهاء أعمارنا، سواء انتصرنا أو انهزمنا.. فلماذا نريد أن ننتظر ساعة موتنا بكآبة، بينما المجال مازال مفتوحاً أمامنا لننتصر أو نموت سريعاً، دون معاناة الكآبة والقهر بانتظار موتنا.. أليس انتظار الموت أسوأ من ملاقاته؟
وكما ينهمر الغيث على أرض ميتة فيحييها، نزلت كلماته على قلوب اليائسين المتعبين، فإذا بها تَعْمُر بالأمل من جديد، وإذا بالقوة تدب في أوصال حركتها، فتموج متحدة على نحو مذهل، لتتجه أمواجها الصاخبة الغاضبة متدافعة نحو العدو الذي كان يجرع كؤوس النصر منتشياً.. وما هي إلا لحظات حتى انقلب كل شيء على أرض الحاضر، رأساً على عقب.. وهنا، في تلك اللحظة بالذات، أطلت المفاجأة برأسها على المشهد، وفركت كفيها ببعضهما منتشية بنجاح ما سعت إليه وحققته، ثم جمعت أذيال ثوبها الطويل، ومضت، كعادتها، تاركة وراءها الدهشة تسكن في عيون الجميع، وفي عينيّ أيضاً اللتين فُوجِئَتا زيادة عن غيرهما حين رأتاها تُلوِّح لي مُودِّعة وهي تبتسم وتغمز لي غمزة ذات معنى...
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|