رد: الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني (دراسة )
[align=justify]
رابعاً – الانتفاضة وصورة الشهيد:
في الاقتراب من الفعل، ومن فاعلية العطاء المشتعل على مدار أيام الانتفاضة، كانت الشهادة وما زالت بصمة لا تماثلها بصمة في الوجد والارتفاع ومعانقة الأرض حتى آخر نفس، إضافة إلى كونها الدليل والهادي إلى الحرية والخلاص من الاحتلال. وطبيعي أن الدم المنبثق من جرح كل شهيد، إنما يعبّر عن شدة الإيمان بالحق العربي الفلسطيني، وعن شدة الحب والتعلق بكل حبة تراب. فكيف تعامل الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني مع كل ذلك؟؟..
نقرأ في "دم الانتفاضة "للشاعر محمد آل رضوان: "المجد المجد / لهذا الدمْ / يتفجَّرُ من شريانك فمْ / يصرخ والصرخة مفزعة / في وجه المحتل المجرم" ثم "هذا دمنا / يتفجر قنبلة حارقة / تعلن أنَّا لن نستسلم / هذا دمنا / يروي عنا / ما لا يدرك أو لا يفهمْ / هذا دمنا / وعد عهد / رضعته الأرض المهد الأمْ.." حيث التحول إلى صورة نابضة بكل الانفتاح والتوجه نحو غد يمكن أن يرسم بالشكل الذي يقرره الشعب الفلسطيني. والدم في هذه الحالة صوت الحق وصرخة الإيمان بكل التاريخ والجذور والعمق والامتداد. كما كان هذا الدم سياجاً ومتراساً يشكل حالة قصوى من حالات الصمود والتماسك والثبات..وكان وعداً وعهداً، وانطلاقاً نحو الأرض التي تنتقل من كونها الأم، إلى حالة الرضيع الذي يأخذ في معانقة الدم القادم من جراح الشهداء.. وعلى هذا تكون الصورة نبضاً لا يتوقف، وانفتاحاً لا يعرف غير تقديم العطاء..
في "الصهيل" عند الشاعر عبد الناصر صالح نقرأ: "دمي سال على وجه التراب / ولم يزل هناك ترتوي الأشجار منه / تحتمي به الطيور من مخاوف الدمار والحريق"بينما في "قصيدة بأحرف حجرية"لحسين مهنا:"فافتح صنابير الدماء / قرنفل الشرفات أضجره انتظار العيد / والجّوريّ يقتله الضجر / لك ما تشاء / فشدّ هذا الكون من قرنيه / أطلع فجرك الورديّ / من دمك الزكيّ.. وبالحجرْ.."حيث الدم في متابعة ارتسام الصورة المليئة بنبض العطاء والإبداع، وحيث الدم في متابعة ارتسام الفجر الواعد القادم، وحيث الدم في متابعة ارتسام درب لا يعرف التراجع أو الانكسار..
طبيعي أن الدم في كل الحالات شهادة وشهيد، وأرض تفتح ذراعيها لمعانقة كل عاشق يأتيها محملاً بصلاة الوجد والترحال فيها. هنا نقرأ في "صورة" للشاعر يوسف المحمود كيف اندفع الشاهد / الشهيد في حكاية ة حبه حتى النهاية ة حيث: "صادته أنياب الرصاصة فابتسمْ / ما قال آهْ / لمّا تفجر في دمهْ / شوك الألمْ / حضن الترابَ / وقبّل الأرض الحبيبةَ / ثم غنى / للبيادر / والسهول / وللروابي والقممْ.." فانفجار اللحظة لا يسجل أي انحناء في وتيرة واشتداد الخط الذي يرتسم بمد واحد، حيث اصطدام الرصاصة بالجسد، وبابتسامة تستطيع أن تسقط أي هجوم، لذلك كان امتناع الآه ووقوفها في حالة التلاشي، مع تفجّر شوك الألم داخل الدم. وكل ذلك في تواليه، لم يكن صورة، بقدر ما كان حقيقة ملموسة يعيشها الإنسان الذي انفتح على هذا الجرح فجأة، ولحظة وقوعه بين أنياب الرصاصة. وكان متوقعاً في مسار الصورة أن نرى إلى سقوط الجسد بعد أن نزف ما نزف من دم، وبعد أن عانى ما عانى من عذاب، ولكننا – هنا – نقع على تسارع في مسار الحدث يمسح مرحلة، وينقلنا مباشرة إلى مرحلة نهائية تحمل الكثير من الامتداد.
في التسارع لا نرى مرحلة الترنّح، التشنج، ثم الوقوع على الأرض، بل ننتقل مباشرة إلى مرحلة "حضن التراب" لنعايش قفزة زمنية تصل بنا إلى غايةتين: آنية، وبعيدة، فالشهيد / أو القادم نحو الشهادة / يذهب في عناق الأرض ويذوب حباً في مثل هذا العناق، ثم يفتح كل جوانب الغناء ليكون مع شمس البيادر والسهول والروابي والقمم. في الصورة الآنية: يكون العناق ملاذاً ودفءاً. وفي الصورة البعيدة: نكون أمام الشمس التي ستملأ الأرض حرية.
مثل هذه الوتيرة تنفتح على وتيرة أخرى عند عبد الناصر صالح في قصيدة "هل غادر الشعراء"حيث: "يتسابق الشهداء / يلتحمون بالرمل القديم يسافرون لعرسهمْ / يتعانقون بمهرجان المسك والحنّاء / كم حلموا بعيد الأرض / واحتفلوا بأسماء الجبالْ.." و"للشهداء لون الزعتر البريّ / والحنّاء / أقمار تحلّق في السماء / وراية للمجد / تخفق في فضاء القلب / تعطي الانتفاضة بعدها الشعبي / تحفر فوق سطح الأرض تاريخ الغضب" وعند الشاعر فتحي القاسم في "مشاهد أزلية" حيث: "دمه سراج في الليالي المظلمهْ / نهر جرى / يمحو الأسى / ويفك أسر العاشقين بفيضه / ويروّي أقداس الثرى.."..
إن الشهيد الذي يلتحم بالرمل القديم، ويسافر لعرسه، ويعيش حالة عناق مع غيره من الشهداء في مهرجان المسك والحناء، هو الشهيد ذاته الذي ينبعث دمه سراجاً في الليالي المظلمة. وطبيعي أن تأخذ الصورة كثيراً من حيز التداخل والتشابك،لنكون أمام شهيد يمتد في كل صباحات الوطن القادمة، وهو ما جعله بلون الزعتر البريّ والحناء، وعلى شكل قمر يحلق في السماء، وراية للمجد.. وهكذا.. وصولاً إلى صورة يمكن أن تتطابق مع صورة الفرح والشمس، ويمكن أن تلتقي مع كل صورة نابضة بالوعد..
خامساً – الانتفاضة وصورة الحجر:
في قاموس الانتفاضة، وخارج حيّز المعاني العادية المتعارف عليها، أخذ الحجر طلقته الجديدة، وطاقته الاستثنائية من خلال شحنه بلغة العطاء اليومي في فصل الانتفاضة الطويل. وكان طبيعياً في هذه الحالة، أن تمتد صورة الحجر في تعدد الألوان، وتوزع الخطوط. فالحجر لا يمكن أن يكون حجراً عرفته الأيام الماضية، أو استوعبته مساحته العادية في التاريخ الطويل. ولكنه في زاوية المعرفة الجديدة، ينتقل ليكون فعلاً يصعد من خلال الفعل، وحركة تتألق من خلال المد الثوري. وهنا يصبح الحجر"حجراً "آخر في معنى جديد تماماً..
في "رباعيات الحجر" للشاعر عدوان علي الصالح، نقف على امتدادات وصور حيث: "حجر أخضرْ / يقذفه طفل / في وجه العسكرْ / حجر أخضر" ثم "حجر أسود / في يد طفل دوماً يتجدد / حجر أسود / يرفع هامة شعب / والشعب على الظلم تمرد" و"حجر أحمر / هو دم الشهداء تخثر / حجر أحمر / يسعى للفجر ولكنّ / الفجر تأخرْ" ثم "حجر أبيض / هو قلب صغير / بالحرية ينبض / حجر أبيض / لو يوماً يستشهد حامله / لا بدّ غداً ينهض" فماذا نقرأ؟؟
/ في الحالة الأولى، هناك حجر أخضر، لونه يشبه لون الزعتر، وهو حجر يحاول أن يزرع مساحات الضوء والخير في قادم الأيام، هو حجر مقاوم، حجر يضرب الاحتلال، يهاجم الظلمة، ولكنه بطبيعته مفتوح على الوعد بالأيام الخيّرة الجميلة المشرقة.. لذلك كان مثل هذا الحجر، حجر الأمل والتفاؤل، إلى جانب كونه حجر المقاومة والتحدي.
/ في الحالة الثانية، هناك حجر أسود، يعمل على مهاجمة العدو باستمرار، وطبيعي أنه حجر العذابات والليالي القاسية والهموم، وتهديم البيوت، وما إلى ذلك. مثل هذا الحجر مشحون بالكثير من الضغط والألم. وهو لا يتوقف عم محاولة كسر القيود.
/ في الحالة الثالثة، هناك حجر أحمر، يطل من دم الشهداء، يتلون بدم الشهداء، وينطلق مباشرة نحو الفجر والشمس القادمة.. مثل هذا الحجر مشحون بكل صور الشهادة والشهداء، بكل الدموع، بكل التطلعات والأماني.. وهو حجر يمضي إلى النصر الأكيد.
/ في الحالة الرابعة، هناك حجر أبيض، هو قلب طفل فلسطيني ينبض بنداء الحرية، بنداء الخلاص، بالبحث الدائم عن ضوء الشمس. لذلك كان مثل هذا الحجر سعياً دائماً نحو الخلاص، وسعياً دائماً نحو الحرية. وطبيعي أن الشهادة طريق الحرية، وأن دم الشهيد شمس الخلاص.
/ في الحالة الخامسة، وهي الحالة الجامعة الشاملة، يأتي الأخضر والأسود والأحمر والأبيض، لتشكيل علم فلسطين، وهو العلم الذي يعني الحرية والخلاص والوصول إلى شاطئ الأمان. وطبيعي أن تجتمع الحالات الأربعة السابقة في رسم هذه الحالة التي تصل بنا إلى ارتفاع علم فلسطين ليرفرف عالياً..
في مثل هذه الصورة نقرأ لحسين مهنا "قصيدة بأحرف حجرية" حيث: " حجر يواجه قنبلهْ / عنق تقاوم مقصلهْ" ولسميح فرج قصيدة "الطالب في الصف الشارع" حيث: "هو قرص الشمس عنيد / نحن بلغنا منزلة يوماً / وبلغنا / بالحجر السحري منازلْ" وهذا يؤدي في كل الحالات إلى صورة متكاملة من الوصول إلى صعود الحجر في الطريق إلى الحرية. والحجر هنا يخرج من معناه الآني، معناه الجامد، ليأخذ كل معاني النبض والعطاء.
بعد قراءة المحاور السابقة، تصل قصيدة الانتفاضة إلى رسم صورة كلية تشمل الغد والنهوض، والطفولة، والشهيد، والحجر وهو ما يعطي مسحاً شاملاً، وتناولاً وافياً، لموضوعات يومية عاشتها الانتفاضة وعايشتها، ورسمت كل صورها وخطوطها وألوانها. وفي مثل هذه الحالة من المسح، يتضح أن الشعر لم يكن بعيداً عن أرض الحياة اليومية، ونبض الشارع المنتفض، بل كان، كما ظهر، أقرب ما يكون إلى حركة وموضوع. وبذلك استطاعت قصيدة الانتفاضة أن تغطي موضوعة عريضة مليئة بالحركة والحيوية والفعل والتفاعل، وأن تتطلع بكل الوعي إلى الأيام القادمة.فالشعر في هذه الحالة، كان مرآة تصور وتحفظ ملامح وتفاصيل المقاومة والتحدي، كما كان نظرة دائمة ومستمرة إلى المستقبل المشرق.
[/align]
|