مع موجة التجديد في الشعر ، ظهرت مجموعة من الإشكاليات الأساسية والمحورية في العمل الشعري ، وكان المظهر الإيقاعي من أساس هذه الإشكاليات التي وقف عندها المهتمون والنقاد حتى يسهل تحديد مجال مظاهر اشتغال الإيقاع في النص الحديث وكيفية رصده وتحليله ..
فجاءت أغلب الدراسات متناقضة مختلفة في رصد الإيقاع وتحديده في الشعري الحديث .. إذ نجد من اقتصر على الوزن و القافية ..في تشكيل الإيقاع وهناك من اعتبر الوزن مختلفا عن الإيقاع فتعداه إلى التوزيع الهندسي الذي يتحقق من الإيقاع البصري والكاليغرافي ، ومن تكرار تيمات وعلامات معينة ، وكذا استعمال صيغ تركيبية تنغيمية محدده .. دون أخرى .. في فضاء النص ..
دراسات منفتحة في الرؤية ، وفي مجال توسيع مكامن الإيقاع جعل الأمر ملتبسا على القارئ العادي ، وجعل الإيقاع شاملا لمكونات أخرى تركيبية أسلوبية دلالية رمزية .. إذ قد يكمن في اللفظ ، في الجملة ، في تكرار الأصوات ، في التوازن .. بل و في الاختلاف نفسه ..
يقول د . محمد شكري عياد .." إذا كانت الدراسات والأبحاث الحالية لم تكشف بعد ، وبكيفية شمولية عن كل مظاهر اشتغال الإيقاع في النصوص الجديدة ، فإذا كان ذلك راجع إلى تقصير في التحليل والدراسة والمتابعة ، وليس إلى غياب الإيقاع فيها بالضرورة ، لأن الفيصل في وجود الإيقاع أو عدمه هو إحساسنا به ، وإذا عجز التحليل عن إظهار الإيقاع حيث نحس وجوده ، فهذا عيب التحليل .. لا عيب الإيقاع .. " -1-
الإيقاع إحساس عميق يتسم بالانفتاح والتنوع ويمنح القصيدة روحا تفعيلية بعيدة كل البعد عن التقنين والجمود والتقليد .. ليضفي نفَس المغامرة والحرية في أبعاد اللغة ومضامينها ..من خلال عناصر إيقاعية جديدة متنوعة اكتسبت مشروعيتها واستقلاليتها بعيدا عن القالب الوزني الجامد ، والضوابط العروضية الصارمة ..
وهذا ما نجده في بعض الأشعار الحديثة وهي لا تخضع لأي نموذج عروضي أو إيقاعي مسبق ، توظف التكرار والتوازي ، وتحاول خلق إيقاع داخلي خاص ، من خلال استغلال التوازنات والتقابلات الصوتية التركيبية والدلالية .. التي اكتسبت صفة الاستقلالية عن الوزن ، وأصبحت هي المهيمنة في بناء الإيقاع الذي اتسع مفهومه ليشمل سلسلة من العناصر اللسانية التي تساهم في بناء السطر الشعري ...
"وإلى جانب الإيقاع الذي ينتج عن المد في الكلمات ، يظهر الإيقاع الذي يأتي من نبرات الجمل ، بالإضافة إلى الإيقاع الهارموني ، الجناسات ...( إلخ ) ، وآصبح من الخطأ القول بأن الشعر لا يقوم سوى بالتلاؤم مع شكل وزني معين " -2-
ما يميز القصيدة المعاصرة هو انزياحها عن ذاك التشكيل البصري الموحد وذاك البناء التناظري في صدر وعجز .. إلى صياغة فضاء بصري جديد يتطلب من القارئ أحيانا ، استقراء عناصره وبنياته لفهم دلالات النص ، نص ينظمه نسق داخلي ، يعتمد - غالبا - على الانسياب والاسترسال الدلالي النظمي .. والتفعيلي ..
إن إشكالية البنية الإيقاعية إشكالية ذات مجال واسع ورحب ، كلي ودينامي ، تتشكل في النص وبالنص ، ولا تشتغل إلا ضمن علاقة تفاعل مع العناصر الداخلية ، وتتعدد وتختلف باختلاف دلالات النصوص ، وهي غير قابلة للإدراك خارج فضاء النص ولا مستقلة عنه ...
إضافة إلى أن هاجس البحث عن نظام إيقاعي جديد للقصيدة العربية المعاصرة ، شكل المحور الأساس في مشروع الحداثة العربية المعاصرة ، على اعتبار أن البنية الإيقاعية تشير إلى إشكالية كبيرة عميقة .. إلى حساسية ما .. إلى أسلوب مختلف في التحليل والتناول والقراءة .. فهي بهذا تعبير عن قيمة فنية ، ولا يمكن بأي حال تجاوز هذه البنية وهذه الإشكالية على اعتبار أنها تجاوزت ذاك النظام من التقاليد الصارمة والقوالب الجامدة ..
إذا ، فالإشكالية الإيقاعية .. تنطوي على مجموعة من التساؤلات الكثيرة المفتوحة والمتجددة بتجدد النص الشعري .. وتجدد الإبداع الشعري ..سأحاول في الدراسات القادمة - إن شاء الله - الوقوف عند أهم مظاهرها في الشعر الحديث وتحديد ثوابتها ، وإلقاء الضوء على عناصر التجديد الإيقاعي في القصيدة المعاصرة ...
/////////////////////
د. محمد شكري عياد : موسيقى الشعر العربي ، دار المعرفة - القاهرة - ط1 - 1978 ص 77
رومان جاكبسون : ضمن نظرية المنهج الشكلي - نصوص الشكلانيين الروس - ت- إبراهيم الخطيب ، مؤسسة الأبحاث العربية ط1 -1982-ص-55