غارقاً في صفحة الكترونية هي كرّاسة خواطري... وكأني بها ورقة امتحان يتأملها تلميذ كسول
حائراً فيها!
كيف أملؤها؟ و بمَ أملؤها؟
أي سواد ذاك الذي هو جدير بأن أسكبه في بياضها فيتحوّلَ حروفاً وكلمات وجملاً..؟
دواتي الأدبية فارغة من الحبر... جفت منذ زمن، ما عادت تسقيها تلك الينابيع الوفيرة، بل ربما هي حولت مجراها حتى لا تصل إلى دواتي ... هو زمن قحط وتحوّل أدبيّ.
زمن كهذا أعماني عن الاستقاء من ينابيع الأدب، والتي ما هي إلا موضوعات الحياة التي تحيط بنا.
السواد الوحيد الذي يمكنني الاعتماد عليه والذي في أي وقت جئته أجده يفيض غزارة ويزداد، هو سواد نفسي، ذاك السواد الذي غازله شعاع القمر ذات يوم...
لا أرى في الشمس ما يشدني إليها، بل إن فيض شعاعها يزيدها احتجاباً عني ويزيدني هرباً منها، لا تمثل الشمس في نظري سوى حالة واحدة، زهو الانتصار... الذي قد ينحدر بها إلى الطغيان أحياناً إذا استحالت عنيفة كما هي شمس أيامنا هذه.
أما القمر ... فهو بلطفه ، و رقّته، و التمتع بإدامة النظر إليه دون خشية الأذى... والمنازل التي قدرها الله في خلقه وتحدث عنها في كتابه العزيز، يمثل أقرب مكونات الطبيعة للنفس البشرية.
ويطيب لي.. بين الفينة والأخرى، أن أخطف نظرة إليه..
رنوت إلى القمر العزيز وأنا خارج المنزل ، وجدته نصف بدر، وكأنما قد شطره إبداع الخالق إلى وجهي الصراع الأزلي اللذين يتسمّيان بثنائيات عديدة: الأبيض والأسود ، الضوء والظلام، الخير والشر، لكنها جميعاً تنتهي عند معنى واحد.
لو قُدِّر لنا .. أن نكون أقماراً... وتكون لنا أطوار ومنازل ومراتب... فكيف بنا الحال؟ هل تتوالى علينا أحوال الخير والشر بالترتيب، أم أن كلاً منا سينفرد بالمرتبة التي تناسب هواه، فلو ترى بيننا الهلالَ الذي يطغى فيه الشر على الخير... والأحدبَ الذي تنقلب فيه الآية... والبدرَ الذي يمثل اكتمال الفضائل ومحاسن الأخلاق... أو المحاقَ، حين لا ترى إلا السواد... طغيانَ الفساد الكامل... والذي ما يلبث أن يقيم بيننا زمناً قصيراً حتى ينبلج نور القمر من جديد.
لو رأيت كل ذلك... فهل سيخضع الإنسان للقانون الدوري الطبيعي الذي خلق عليه القمر فلا يلبث على حال من تلك الأحوال إلا زمناً محدداً؟
لا أظن... فهو بعيد كل البعد عن ذلك، ويحلو له أن يلتزم لبوساً واحداً... وما أحلاه لو وافق هواه!
دمت أيها القمر! دمت الملهم الساطع لأمثالي من الفقراء إلى البلاغة، والأدب، واستقرار النفوس.