الإجراءات الإسرائيلية لتهويد القدس / محمد توفيق الصواف
[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:100%;"][CELL="filter:;"][ALIGN=justify]رمز القدس في الأيديولوجية الصهيونية، وظيفته وأبعاده
على الرغم من حرص مهندسيها والكثير من أتباعها على وصفها بالحركة العلمانية، تضم الصهيونية في تركيبتها عنصراً دينياً. وقد حرصت على إدخال هذا العنصر في نسيجها، ضمن إطار محاولاتها الهادفة إلى تسخير الديانة اليهودية لخدمة أغراضها، على الرغم من تناقض الديني مع العلماني في الكثير من الجوانب. بل بلغ هذا العنصـر من الأهمية، في الأيديولوجية الصهيونية، الحد الذي جعله واحداً من أهم عناصر نسيجها، وذلك لأنه فضلاً عن كونه المصدر الأول للأطروحات الصهيونية على المستويين التاريخي والقومي، يُعدُّ ذا صلة وثيقة بمعظم تلك العناصر، وخصوصاً عنصر الأرض الفلسطينية، بحيث غدا البُعد الأهم لصورتها، في أدبيات الأيديولوجية الصهيونية ووسائل إعلامها، لعدة أسباب، يأتي في مقدمتها أنه كان، وما يزال، مُحَفِزاً قوياً وفعالاً في مجال رفع معدلات الهجرة اليهودية الطوعية إلى فلسطين، قبل قيام إسرائيل وبعده؛ هذا فضلاً عن قدرته، بالنسبة لمن يصدق أساطيره، على نفي الصبغة الاحتلالية عن قيام إسرائيل، وإضفاء (الشرعية) على هجرة اليهود إليها واستيطانهم فيها، من خلال تصوير هذه الهجرة على أنها (عودة ليهود العالم إلى أرض آبائهم وأجدادهم التي طُردوا منها، قبل آلاف السنين على أيدي البابليين ثم الرومان)، كما يحكي تاريخهم الأسطوري..
وعلى هذا، يمكن القول: إن البعد الديني يُعدُّ البعد الأقدم ظهوراً للأرض الفلسطينية، في أدبيات الصهيونية، أما القدس فتُعدُّ العنوان الأبرز والأهم لهذا البعد، بل هي أهم الرموز الزاخرة بالإيحاءات التي تثير في النفسية اليهودية نوازع التعصب الديني بمختلف أشكاله. وقد أدركت الحركة الصهيونية منذ نشوئها مقدار ما يتمتع به هذا الرمز الديني من أهمية، فعملت على استغلاله كعامل جذب ليهود العالم، يدفعهم للانخراط طوعياً في صفوفها، تمهيداً لتجنيدهم بعد ذلك، في خدمة أهدافها الاحتلالية/ الاستيطانية. ومن الأمثلة الواضحة على مدى إدراك الصهيونية لأهمية القدس كعامل جذب لليهود إلى صفوفها، أنها اشتقت تسمية حركتها من اسم "جبل صهيون" الواقع في غرب المدينة.
بعض الملامح العربية للقدس، قبل احتلالها وتهويدها
ً1) الموقع الجغرافي:
تقع القدس على خط العرض (24) شمالاً، وعلى خط الطول (35) شرقاً. وهي منطقة وسط بين أريحا ونهر الأردن والبحر المتوسط، إذ تبعد عن أريحا (30) كم، وعن نهر الأردن (40) كم، وعن ساحل المتوسط (65) كم.
والقدس مدينة جبلية شُيِّدت بأكملها فوق هضبة ذات مرتفعات تعلو نحو (800) م عن سطح البحر. وتحيط بها سلسلة جبلية مشهورة تتألف من مجموعة جبال أهمها: (جبل المشارف) المشهور باسم (جبل المشهد أو سكوبس) من الشمال، و(جبل المكبر) من الجنوب، و(جبل الطور) المشهور باسم (جبل الزيتون) من الشرق، و(جبل صهيون) من الغرب.
ً2) المساحة والسكان:
قبل احتلالها، عام 1948، وتقسيمها إلى شرقية وغربية، كانت المساحة الإجمالية للقدس نحو (31.000) دونم، تشغل منها القدس القديمة وحدها (927) دونماً فقط، بينما تزيد مساحة الغربية عن (30.000) دونم قليلاً.
وحتى عام 1948، كانت غالبية مساحة المدينة بشطريها للعرب، إذ لم يكن لليهود في الشطر الشرقي منها سوى (40) دونماً، أي ما يعادل (4%) تقريباً من مساحته، جزءٌ منها في (الحي اليهودي) يُقدَّر بنحو (15%) فقط من مساحة ذلك الحي الذي كانت مساحته الباقية ملكاً للأوقاف الإسلامية. أما في القدس الغربية، فلم تكن تزيد مساحة الأملاك اليهودية على (5.000) دونم، أي ما يعادل (17%) من مساحتها فقط، أما باقي هذه المساحة وقدره نحو (83%)، فكانت ملكيته للعرب. وقد تغيَّرت هذه النسب إلى النقيض تقريباً، بعد احتلال القدس الغربية عام 1948، ثم الشـرقية عام 1967، كما سيتضح لاحقاً.
ً3) أشهر أبواب القدس القديمة وأحيائها ومقدساتها:
يُحيط بالقدس، من جميع جهاتها، سور يبلغ طوله أربعة كيلومترات، وارتفاعه نحو اثني عشـر متراً. وله سبعة أبواب كبيرة مفتوحة أشهرها: (باب العامود) من الشمال، و(باب المغاربة) من الجنوب، و(باب الأسباط) المشهور باسم (باب سان ستيفان) من الشرق، و(باب الخليل) من الغرب. وثمة باب ثامن مغلق يقع في الجهة الشـرقية من السور، يُدعى (الباب الذهبي). وقد بُني معظم سور القدس، في عصر السلطان العثماني (سليمان القانوني)، خلال مدة زادت على خمس سنين.
وبالإضافة إلى الأحياء التي كانت داخل القدس، اشتُهِر عددٌ من الأحياء خارج سورها، من أهمها:
1) في الشمال والشمال الشرقي: حي الشيخ جراح وباب الساهرة والمصرارة ولفتا.
2) في الغرب: الطالبية ومأمن الله والقطمون.
3) في الشرق: رأس العامود ووادي الجوز.
4) في الجنوب: العقبة والثوري.
أما أشهر الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية واليهودية التي مازال بعضُها موجوداً، في القدس:
1) المقدسات الإسلامية: الحرم القدسي الشريف الذي يقع في الجهة الشرقية الجنوبية من المدينة القديمة، وبضمنه يوجد مسجدا الأقصى وقبة الصخرة، بالإضافة إلى مساجد أخرى كثيرة تقع خارجه، كما كانت تضم القدس أيضاً الكثير من المقابر والزوايا الإسلامية الأثرية.
2) المقدسات المسيحية: أشهرها كنيسة القيامة، وتقع في وسط المدينة القديمة التي يقع فيها ما اشتُهِر بـ (درب الآلام) أيضاً. هذا بالإضافة إلى كنائس أخرى كثيرة وأديرة ومقابر أثرية.
3) المقدسات اليهودية: أشهرها الحائط الغربي للحرم الشريف الذي يُسميه اليهود (حائط المبكى)، ويُسميه المسلمون (حائط البراق)، بالإضافة إلى مقابر وكنس يهودية حديثة، تقع في الحي اليهودي.
وقد غيَّر الإسرائيليون كثيراً من معالم القدس، آنفة الذكر وغيرها، بعد احتلال شطرها الشـرقي عام 1967، وما تلا احتلاله من إعلان ضمه إلى شطرها الغربي المحتل عام 1948، لتوحيد شطريها تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي أعلنها عاصمةً موحدةً له، ثم أكد إعلانه هذا بما عُرِف بـ (قرار ضم القدس) الذي أصدره في نفس العام الذي شن فيه عدوانه على العرب عام 1967.
لمحة موجزة عن قرار ضم القدس عام 1967
كان من نتائج التركيز الصهيوني على القدس أن بدأ الاستيطان فيها، منذ مطلع القرن العشـرين، أي في وقت مبكر بالمقارنة مع بدء الاستيطان في الأراضي الفلسطينية التي تمَّ احتلالها فيما بعد. وكان لتلك المحاولات الاستيطانية المبكرة أهداف عديدة أبرزها:
1) طمس الطابع العربي/الإسلامي للمدينة.
2) تغيير الوضع الديموغرافي فيها، منذ البداية، لصالح اليهود، كي يغدوا أكثرية فيها، ويغدو العرب أقلية.
وقد آتت هذه المحاولات ثمارها المرجوة صهيونياً، حين أصدرت سلطات الانتداب البريطاني قرار ترسيم حدود بلدية القدس مراعيةً فيه ما أسمته "الوجود اليهودي الجغرافي والديني في القدس". وبناء على هذه المراعاة، امتدت حدود هذا الوجود نحو سبعة كيلومترات غرب البلدة القديمة، ومئات الأمتار شرقاً وجنوباً. وحين أعاد البريطانيون ترسيم حدود القدس، بين عامي 1921 و1948، ركَّزوا على توزيع قسمها الغربي كالتالي: (40%) أملاك إسلامية، (26.12%) أملاك يهودية، (13.86%) أملاك مسيحية.
أحدثت هذه النتيجة ردَّ فعل غاضباً من قبل العرب المقدسيين، تمخَّض عنه توترٌ في علاقاتهم مع المستوطنين اليهود الذين هاجروا إليها. ومما زاد هذا التوتر حدَّةً، بشكل ملحوظ، تناغم تقسيم المستعمر البريطاني للقدس مع ما تضمَّنه قرار التقسيم رقم (181) الذي صدر بتاريخ 29/11/1947، بخصوص القدس، فقد جاء فيه:
(تُوضَع القدس تحت إدارة دولية، كمنطقة منفصلة، ويقوم مجلس وصاية بتلك الإدارة نيابة عن الأمم المتحدة, وتشمل حدود القدس القرى والمناطق المحيطة بها وهي: "أبو ديس" من الشرق، و"عين كارم" من الغرب، و"شعفاط" من الشمال، و"بيت لحم" من الجنوب).
وظلَّ التوتر يزداد حدة بين العرب واليهود، في القدس، حتى بلغ ذروته قبيل الإعلان الرسمي عن قيام الكيان الصهيوني عام 1948. وبعد توقُّف الصدام المسلح الذي وقع بين الطرفين آنذاك، تمَّ تقسيمُ المدينة بموجب اتفاقية الهدنة التي وُقِّعَت بين الأردن وذلك الكيان بتاريخ 3/4/1949، والتي نصت على أن يتمَّ التقسيم كما يلي:
القطاع اليهودي: وتعادل مساحته (84.13%) من مساحة القدس.
القطاع العربي: وتعادل مساحته (11.48%) من مساحة القدس.
قطاع هيئة الأمم والأراضي الحرام: وتعادل مساحته (3.49%) من مساحة القدس، أو (4.4%)، حسب مصادر أخرى.
وهكذا احتلت إسرائيل في جولتها الأولى من الصراع مع العرب، حول القدس، الجزء الأكبر منها، إلا أن أطماعها ظلت تحوم حول الجزء المتبقي، محاولةً ابتلاعه، كي تتم لها السيطرة الكاملة على المدينة، لكنها لم تستطع تحقيق تلك الأطماع، إلا بعد عدوان حزيران عام 1967، حين احتلت القسم الشرقي منها.
وخلال فترة ما بين الاحتلالين، أي بين عامي 1948 و1967، قام الإسرائيليون بتدمير الشطر الغربي من القدس الذي احتلوه عام 1948، تدميراً شبه كامل، بعد أن طردوا خارجه أكثر من (98000) نسمة من سكانه الفلسطينيين، كانوا يمثلون الغالبية فيه. وقد غادروه دون أملاكهم بالطبع.
وفور احتلال شطر القدس الشـرقي، بعدوان 1967، بادر عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين إلى إعلان عزم حكومتهم ضمّه إلى سابقه المحتل منذ عام 1948، وتوحيد المدينة تحت السيطرة الإسرائيلية. وكانت ذريعتهم في تسويغ ذلك الضم زعمهم (أن القدس، بقسميها، كانت "مدينة يهودية"، منذ أقدم العصور، وينبغي أن تعود كذلك). وبالفعل، ضَمَّن عددٌ من قادة إسرائيل الأوائل هذا الزعم في تصريحاتهم التي أعقبت عدوان 1967 مباشرة.
فعلى سبيل المثال، بدا هذا الزعم التسويغي واضحاً في التصريح الذي أدلى به (ديفيد بن غوريون)، يوم 12/6/1967، قائلاً:
إن اليهود (قرروا، بشكل نهائي، دمج قطاعي القدس في دولة إسرائيل، وتحويل القدس وضواحيها، عملياً، إلى مدينة يهودية إسرائيلية، إلى أبد الآبدين... تلك المدينة العاصمة الأبدية لشعب خالد، منذ أيام داوود الملك، حتى نهاية جميع الأجيال، إذا وجدت مثل هذه النهاية).
ولا يكاد يختلف تصريح (ليفي إشكول)/أحد رؤساء وزراء إسرائيل السابقين، عما قاله (بن غوريون)، في نفس جلسة الكنيست التي انعقدت يوم 12/6/1967، فقد قال إشكول:
(القدس وُحِّدت، وهذه هي المرة الأولى، منذ قيام الدولة، التي يصلي فيها اليهود بجوار حائط المبكى/بقايا دار قدسنا وماضينا التاريخي، وكذلك يصلون عند قبر أمنا راحيل.....).
وبنفس المعنى والصياغة تقريباً، صرح (موشيه دايان)، في 7/6/1967، أمام (حائط المبكى) قائلاً:
(لقد أعدنا توحيد المدينة المقدسة، وعدنا إلى أكثر أماكننا قدسية، ولن نبارحها أبداً)...
وفي خضم هذه الحمى التي ارتفعت فيها حرارة تأليف الأساطير الصهيونية عن القدس وما يُسمى "حق" اليهود فيها، عقب احتلالها كاملة عام 1967، وما رافق تلك الحمى من محاولات إضفاء الطابع اليهودي على تلك الأساطير، وإعطائها بُعداً دينياً وآخر تاريخياً، لتسويغ ابتلاع شطرها الشـرقي الذي كان ابتلاعه أحد أهم أهداف عدوان 1967؛ في خضم ذلك كله، سارعت حكومة إسرائيل، آنذاك، إلى الإعلان رسمياً عن ضمِّ شرقي القدس المحتل حديثاً إلى غربيِّها المحتل قديماً، واعتبارها بشطريها معاً جزءاً من إسرائيل، يقع ضمن حدودها. وهكذا، وقبل أن تبرد نيران العدوان، أقرَّ الكنيست يوم الثلاثاء 27/6/1967، قرار الضم الذي تم الإعلان عنه في اليوم التالي 28/6/1967، ونشـره في (الوقائع الإسرائيلية/كتاب القوانين) ذي الرقم (499).
ومنذ ذلك التاريخ، بذلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة جهوداً كبيرة في سبيل تغيير الطابع العربي/الإسلامي للقدس، ملكيةَ أرضٍ ومعالمَ وسكاناً، عن طريق القيام بممارسات متعددة الأساليب والصور، كان أبرزَها السعيُّ إلى تغيير رجحان الميزان السكاني فيها لصالح اليهود، كي يغدوا غالبية سكانها. ولاشك أن هذه الممارسة كانت الأبشع أيضاً لأن تنفيذها كان يعني المباشرة بطرد أكبر عدد من سكان القدس العرب، وتكثيف مشاريع الاستيطان فيها وحولها، وترغيب اليهود في سكناها، كما أفصح (بن غوريون) صراحةً، أمام الكنيست في جلسته التي انعقدت في 31/7/1967، مقترحاً توسيع أعمال الاستيطان في كلا شطري القدس، بعد إزالة كل الحواجز الموجودة بينهما، وتوفير كل الخدمات اللازمة لإقامة اليهود في كليهما إقامةً مريحة من كل النواحي. لأن تنشيط مشاريع الاستيطان، كما قال، (داخل القدس وضواحيها، هو وحده الذي يكفل إعادة القدس للشعب، إلى الأبد). أي يُثبِّت بقاءها موحَّدة تحت الاحتلال، كما رجَّح المستشار الاستراتيجي لـ (نتنياهو)، في فترة رئاسته للوزارة. وذلك بدعوى أن الإسرائيليين صاروا غالبية سكان القدس، وما عاد ممكناً، بالتالي، إخراجهم منها مجدداً. وهو ما يعني في منظور التفاوض الإسرائيلي، تقليص الخيارات السياسية والضغوط الدولية التي قد تُكرِه إسرائيلَ على الانسحاب من القدس، كلياً أو جزئياً، أو تُكرهها، في أي مفاوضات تسوية مقبلة، مع العرب، على القبول بإعادة تقسيمها إلى شطرين، يكون أحدهما عاصمة للفلسطينيين.
وبالإضافة إلى محاولة تغيير الميزان السكاني، في القدس، لصالح اليهود، قام الإسرائيليون بإجراءات أخرى لتهويد المدينة، نفَّذوها بالتزامن مع جهودهم لتغيير طابعها السكاني، كما يُبيِّن استقراء تواريخ تلك الإجراءات، كتغيير ما كان سائداً فيها من أنظمة وقوانين، وتغيير معالمها العربية الإسلامية والمسيحية، وأسماء مدنها وأحيائها، وغير ذلك مما سيعرض له هذا البحث لاحقاً.
ولتثبيت ما تمَّ القيام به من إجراءات تهويدها، منذ صدور قرار ضمها عام 1967، ولإضفاء لون من "الشرعية" على تلك الإجراءات، أصدر الكنيست، عام 1980، ما عُرِف بـ "قانون القدس" الذي أكد في بنده الأول إعلان القدس بشطريها، عاصمةً موحدة لإسرائيل. فماذا تضمَّن هذا القانون أيضاً، وما أهم أهدافه؟
قانون القدس الصادر عام 1980 وأهدافه
في عام 1980، تقدمت عضو الكنيست (جيئولا كوهين)، من حركة (هَتْحِيَّا)، بمشروع سُمي، "قانون القدس". وفي ذات الوقت، طرح (إمري رون) من حزب (مبام)، مشـروعاً مماثلاً. وبعد مناقشة كلا المشروعين، استُخلِصَ من مضمونيهما ما صار يُعرَف، فيما بعد، بـ "قانون القدس" الذي صادق أعضاء الكنيست على صيغته النهائية، بتاريخ 20/7/1980، بأغلبية (69) صوتاً ضد (15)، وامتناع ثلاثة أعضاء عن التصويت. وقد تضمنت تلك الصيغة، كما نشـرتها صحيفتا (هتسوفيه، 31/7/1980)، و(هآرتس، 1/8/1980)، البنود الأربعة التالية:
1) القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل.
2) تبقى الأماكن المقدسة محفوظة من إلحاق أي ضرر بها، أو أي شيء يسيء إلى حرية وصول أبناء الديانات السماوية إلى أماكنهم المقدسة.
3) تحرص الحكومة الإسرائيلية على تطوير وإنعاش القدس ورفاهية سكانها، عن طريق رصد الطاقات الخاصة، ولاسيما تقديم منحة سنوية خاصة لبلدية القدس تسمى "منحة العاصمة".
4) تُمنح القدس أفضلية خاصة بشأن ما يتعلق بنشاطات الدولة، لتطويرها في المجالات الاقتصادية وغيرها من المجالات الأخرى.
للوهلة الأولى، قد يتراءى للبعض أن الهدف من إصدار هذا القانون، لا يعدو رغبة الإسرائيليين في إعلان القدس الموحدة عاصمة لهم، على نحو رسمي، يمكِّنهم من تثبيت احتلالهم لقسمها الشـرقي، لكن تتبُّع ما تلا إصداره من ممارسات، يُفصحُ عن وجود أهداف أخرى رامَ الإسرائيليون تجسيدها واقعاً، في المستقبل، حالما تسمح الظروف الإقليمية والدولية. ولعل ما يؤكد صحة هذا التصوُّر، معطيات من أهمها:
1) لم تكن إسرائيل بحاجة إلى إصدار القانون المذكور، لإعلان القدس الموحدة عاصمة لها، فقد سبق إعلان ذلك في مناسبات كثيرة، وعلى لسان أكثر من مسؤول إسرائيلي.
2) على الصعيد نفسه، لم تكن إسرائيل بحاجة إلى هذا القانون، لتثبيت احتلالها شرقيَّ القدس، لأن رغبتها في استمرار ذلك الاحتلال، واعتباره "أمراً مفروغاً منه"، قد تمَّ الإفصاح عنها مراراً في تصريحات عدد من كبار مسؤوليها.
3) بالإضافة إلى تلك التصريحات، أكدت إسرائيل، وقبل إصدارها "قانون القدس"، عزمها على التمسك باحتلال القسم الشرقي من المدينة، بأسلوب آخر تمثَّل بإعطائه وضعاً استثنائياً خاصاً، بالنسبة لباقي مناطق الضفة الغربية المحتلة ومدنها، في جميع ما طرحته من مشاريع ومبادرات للتسوية، على اختلاف أشكالها وصيغها. فقد أكد الإسرائيليون، وباستمرار، في كل تلك المشاريع والمبادرات، أن القدس بشطريها، خارج نطاق أي تسوية، لأنها ــ بالاستناد إلى ما تزعمه الذرائع التاريخية الصهيونية ــ كانت، بشطريها معاً، عاصمة إسرائيل في الماضي،"وينبغي أن تعود كذلك".
كل هذه المعطيات وغيرها، يعني أن وراء الإسراع في إصدار قانون القدس أهدافاً أبعد من مجرد إعلان المدينة بشطريها عاصمة لإسرائيل، أو إعلان استمرار احتلال شطرها الشرقي. وأهم هذه الأهداف:
1) التلميح المبكر وغير المباشر عن عزم إسرائيل الاستمرار في احتلال كامل الضفة الغربية أو معظمها، ونفي أي احتمال للانسحاب الكامل منها مستقبلاً. ولعل مما يؤكد صحة هذا الاستنتاج شروعها، فور احتلال شرقي القدس عام 1967، بتنفيذ عدد من المشاريع الاستيطانية المبكرة، داخل المدينة، على حساب القرى والمدن العربية المجاورة لها، ضمن مخطط ما صار يُعرَف بـ "مشروع القدس الكبرى".
2) رغبة إسرائيل في تأكيد عزمها، للعرب والعالم، الاستمرارَ في احتلال القدس وما حولها.
3) دفع أكبر عدد ممكن من سكان القدس العرب إلى مغادرتها، بدفعهم إلى الإحساس باليأس من تحريرها، بعدما أعلنتها إسرائيل رسمياً، وبشطريها، عاصمة دائمة لها.
4) وعلى النقيض من الهدف السابق، يَلُوح هدفٌ ثالث يتمثل في تمني السلطات الإسرائيلية أن يدفع القانون المذكور عدداً كبيراً من يهود إسرائيل، وممن يمكن أن يهاجروا إليها مستقبلاً، للاستيطان في القدس، طمعاً بما نوَّه قانون إعلانها عاصمة موحدة من مغريات، كما نلاحظ في البندين الثالث والرابع خصوصاً. لأن تحقيق هذا الهدف يعني، ولو على المدى البعيد، تغييراً حاسماً في الميزان السكاني، لصالح اليهود، بحيث يغدون أكثرية سكان القدس، في المستقبل.
5) وبالإضافة إلى كل ما سبق، "يُبيح" قانون القدس للسلطات الإسرائيلية، بما تضمنته بنوده آنفة الذكر، إطلاق يدها إطلاقاً تاماً في مجال العمل على تهويد المدينة، دون عوائق تُذكَر، على أساس التذرُّع بأن ما تقوم به سلطاتها وتنفذه، لا يجري فوق أراضٍ محتلة، بل فوق أرض أعلنها القانون المذكور عاصمة لها.
وبعد، فما سبق كان بعضَ الأهداف غير المعلنة التي توخت إسرائيل تحقيقها بإصدار قانون القدس، وليس كل تلك الأهداف التي على الرغم من عدم إفصاح نصِّ القانون عنها صراحة، قُوبل حتى في صيغته المواربة بموجة كبيرة من الاحتجاج، ولاسيما في العالمين العربي والإسلامي. أما بعض الدول التي كان لها سفارات في القدس، كدول أمريكا الجنوبية، فقد عبرت عن احتجاجها على القانون المذكور، بنقيضِ ما توخته حكومة الليكود آنذاك، من إصداره، أي احتجَّت بنقل سفاراتها من القدس الغربية إلى تل أبيب.
لكن كل ما قُوبل به "قانون القدس" الذي سنته إسـرائيل من احتجاجات، لم يثنِها عن المضـي في محاولتها تجسيد مضمونه واقعاً، مؤكدة عزمها على ذلك، بزيادة ممارساتها الرامية إلى تهويد شطري القدس، بسـرعة وبشتى السبل التي تصوَّر فيها الإسرائيليون القدرة على تحقيق كل الأبعاد المرسومة لعملية التهويد والأهداف المتوخاة من تنفيذها مستقبلاً، وفي مقدمتها محاولة خلق حقائق جديدة في المدينة، معالمَ وسكاناً وبيئة، تمنع تقسيمها، مرة أخرى، وهو ما يعني إلغاء أي احتمال لإعادة أو تسليم قسمها الشـرقي، أو أي جزء آخر منها، لسلطة غير إسرائيلية. وكان من أبرز السبل التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، على اختلاف اتجاهاتها، لتهويد القدس:
أولاً، تهويد الأرض بالمصادرات والاستيطان
لما كان الاستيطان هو الوسيلة الأكثر نجاعة في مجال إنجاح مخطط التهويد المطلوب، لأنه يُجسِّد هذا المخطط واقعاً ملموساً على الأرض، فقد أولاه الإسرائيليون أهمية قصوى، منذ أن احتلوا القسم الشـرقي من القدس عام 1967. ولأن تنفيذ مشاريع الاستيطان يستلزم قبلاً الحصول على مساحة الأرض التي سيتمُّ عليها الاستيطان، قام المحتلون، وقبل انصرام حزيران 1967 الذي شنوا فيه عدوانهم، بمصادرة مساحات واسعة من الأراضي العربية، تحت مختلف الحجج والذرائع، ووفقاً لمجموعة من القوانين والقرارات سنَّتها سلطاتهم، عقب احتلالها للقدس العربية مباشرة، وفيما يلي عرضٌ لأبرزها:
بتاريخ 12/6/1967، نُشر في كتاب القوانين رقم (499) قانون السلطة والقضاء المعدَّل الذي يُخوِّل حكومة إسرائيل صلاحية إصدار الأوامر، وتطبيق القوانين والأنظمة الإسرائيلية، على أي منطقة ضمن فلسطين، تُقرِّر حكومة إسرائيل تطبيق قوانينها عليها.
وانطلاقاً من تلك الصلاحية، أقر الكنيست الإسرائيلي بتاريخ 27/6/1967، إدخال تعديل على قانون الإدارة والقضاء، تحت رقم (11/آ) جاء فيه: (إن القانون يسري على كل منطقة من أرض إسرائيل تحددها الحكومة بموجب أمر). وفي الجلسة نفسها، وبعد البند (8) الخاص بإدارة البلديات، أُدخلت على قانون الإدارة والقضاء مادةٌ حملت الرقم "8/آ (آ)"، وقد جاء فيها:
(يحق للوزير، بناءً على رأيه الخاص، ودون إجراء تحقيق، وبموجب المادة الثامنة، توسيع حدود بلدية ما بإعلان إدخال المنطقة المحددة بالقرار 11/آ، في قانون الإدارة والقضاء، لعام 5708 عبري/1948 ميلادي).
وتأسيساً على هذه المادة، أصدر وزير الداخلية الإسرائيلي، بتاريخ 28/6/1967، أمراً منشوراً في مجموعة الأنظمة، العدد (2065)، يقضـي بتوسيع منطقة بلدية القطاع الإسرائيلي من القدس، بحيث يشمل القدس العربية وضواحيها الواقعة بين مطار وقرية قلنديا شمالاً، وحدود الهدنة غرباً، وقرى صور باهر وبيت صفافا جنوباً، وقرى الطور والعيسوية وعناتا والرام شرقاً.
وإضافة إلى التعديلات التي أدخلتها السلطات الإسرائيلية على القوانين سابقة الذكر، والتي سمحت فيها لنفسها، ضمَّ القدس العربية التي احتُلت عام 1967، وضمَّ ضواحٍ وأراض عربية أخرى مع القدس، تُقَدَّر مساحتها جميعاً بنحو (70.000) دونم، فقد قررت تلك السلطات إعادة العمل بجملة من القوانين الأخرى، قديمة العهد، كانت قد سنتها، بعيد الإعلان عن قيام إسرائيل بفترة وجيزة، منها:
1) قانون أملاك الغائبين الذي أُقر العمل به بتاريخ 31/3/1950، لأنه يسمح للسلطات الإسرائيلية، بعد إجراء إحصاء في المناطق التي تزمع ضمها، وضعَ يدها على أموال وأراضي مَن لم يكن موجوداً وقت إجراء الإحصاء من العرب في تلك المناطق، ومنعه من العودة إلى بلاده.
2) قانون المناطق المحلية أو المناطق المغلقة لأسباب أمنية الذي يحق لوزير الدفاع الإسرائيلي، بموجبه، متذرعاً بالأسباب الأمنية، إغلاقَ أي مساحات من الأراضي، ثم مصادرتها فيما بعد.
3) قانون الاستملاك للمصلحة العامة الذي يحق للسلطات الإسرائيلية، بموجبه، أن تضع يدها على أي أراضٍ أو عقارات، تحت ستار المصلحة العامة.
4) قانون تنظيم الاستيلاء على عقارات في ساعة الطوارئ، الصادر عام 1949 تحت الرقم (5710)، والذي يعطي حكومة إسرائيل صلاحية الاستيلاء على أي عقار، في حال الاعتقاد بضرورتـه لحماية البلاد، والمحافظة على الأمن العام، وتوفير التموين الحيوي، أو الخدمات العمومية الحيوية، أو استيعاب المهاجرين الجدد، أو إنعاش الجنود المسـرحين وعجزة الحرب.
واضح من خلال استعراض جملة القوانين السابقة، والتعديلات التي أُدخلت عليها وعلى أخرى سبق ذكرها، أنها وتعديلاتها جميعاً، ما هي، في الحقيقة، إلا مجموعة ذرائع حاكتها السلطات الإسرائيلية، بوحي من رغبتها في ضم المناطق العربية المحتلة وتهويدها. وما تسميتها بالقوانين إلا محاولة لإضفاء لون من "الشـرعية" على ممارسات التهويد التي تبيحها وتنفيذ قرارات الضم التي أريد لها أن تبدو للإسرائيليين والعالم قانونية! الأمر الذي يُطلِق يد السلطات الإسرائيلية في عمليات الضم والتهويد إلى أقصـى الحدود. وهذا ما حصل فعلاً، كما يُبين رصدُ عمليات المصادرة والاستيطان في القدس العربية، منذ عام 1967.
فبعد الإعلان عن العمل بـ "قانون الغائبين"، قامت سلطات الاحتلال، في 25/7/1967، بإجراء إحصاء عام لعرب القدس الشرقية المحتلة، سجلت خلاله أسماء جميع الموجودين منهم حتى ذلك التاريخ، أما غير الموجودين، فعدتهم غائبين، وقررت حرمانهم من العودة إلى بلادهم، سواء كان سببُ غيابهم، أثناء الإحصاء، طلبَ العلم أو العمل أو الزيارة. ولا يقل عدد أولئك العرب عن /100/ ألف عربي.
وعملاً بقانون الغائبين نفسه، أعلنت إسرائيل وضع يدها على أموال من صنَّفتهم غائبين من عرب القدس، ومصادرة أملاكهم وأراضيهم. وكانت نتيجة ذلك مصادرتها مساحات كبيرة، داخل سور القدس العربية وخارجه؛ لتسير، بعد ذلك، عمليتا المصادرة والاستيطان، جنباً إلى جنب، في مناطق القدس وما حولها، على الرغم من كل قرارات الشرعية الدولية التي صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي داعيةً إسرائيل إلى وقف عمليات المصادرة والاستيطان، مطالبة إياها بتفكيك ما نفذَّته منها، ومنددة باستمرارها الذي عدَّته عائقاً أمام تحقيق السلام العادل والشامل، كما تؤكد نصوص تلك القرارات التي سأعرض أهمها تالياً.
قرارات الأمم المتحدة المناهضة لمصادرة الأراضي العربية المحتلة واستيطانها:
1) قرار الجمعية العام رقم 36/15
بتاريخ 28/10/1981، صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 36/15 الذي يعدُّ أي تغيير في منطقة القدس غير شرعي وضد القانون الدولي. كما يعدُّ أعمال الاستيطان عائقاً أمام تحقيق السلام العادل والشامل.
2) قرارات مجلس الأمن ضد عمليات المصادرة والاستيطان:
أما مجلس الأمن الدولي، فقد أصدر جملة من القرارات التي تُحظِّر على إسرائيل الاستمرار في الاستيطان، وتدعوها إلى الانسحاب من الأراضي التي تُقيم المستوطنات عليها، إلى حدود ما قبل الخامس من حزيران 1967. وفيما يلي أهم القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن بهذا الشأن:
1) القرار (242)، 22/11/1967، يدعو إسرائيل للانسحاب إلى حدود ما قبل حزيران 1967.
2) القرار (252)، 21/5/1969، يدعو إسرائيل إلى إلغاء جميع إجراءاتها التعسفية لتغيير وضع المدينة.
3) القرار (267)، 3/7/1969، يدعو إسرائيل مجدداً إلى إلغاء جميع إجراءاتها غير القانونية في القدس.
4) القرار (298)، 25/9/1971، مجلس الأمن يأسف لعدم احترام إسرائيل لقرارات الأمم المتحدة الخاصة بإجراءاتها لتغيير معالم القدس.
5) القرار (446)، 16/4/1979، أصدره المجلس على شكل بيان يندد بالممارسات الإسرائيلية، بإقامة المستوطنات على الأراضي الفلسطينية، وخاصة في القدس.
6) القرار (465)، 1980، يطالب إسرائيل بتفكيك المستوطنات التي أقامتها والتوقف عن تخطيط المستوطنات وبنائها، في الأراضي المحتلة بما فيها القدس.
7) القرار (476)، 30/6/1980، يُعلن بطلان الإجراءات الإسرائيلية لتغيير طابع مدينة القدس.
8) القرار (478)، 20/8/1980 الذي يرفض الاعتراف بالقانون الإسرائيلي بشأن القدس، ويدعو الدول الأعضاء، في المنظمة الدولية، إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية الموجودة في المدينة.
لكن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة رفضت الانصياع إلى أيٍّ من القرارات السابقة الصادرة عن الأمم المتحدة وأصرت، وما تزال، على الاستمرار في عمليتي المصادرة والاستيطان، ضاربة بتلك القرارات ومتخذيها عرض الحائط. وفيما يلي بيان بالمساحات التي صادرتها السلطات الإسرائيلية من أراضي القدس وضواحيها تحديداً، خلال نصف القرن الماضي، وبالنسبة للقدس الشـرقية، خلال الثلث الأخير من ذلك القرن، كنموذج على ممارسة المصادرات التي اتبعَتْها.
ً1) المصادرات:
1) في عام 1968، صادرت السلطات الإسرائيلية (4000) دونم خارج أسوار القدس العربية. ومنطقة كان مقاماً عليها (595) عقاراً عربياً تضم (1048) شقة سكنية، و(437) مخزناً ومتجراً، وزاويتين إسلاميتين وموقعين لمسجدين داخل السور، في القسم الجنوبي من باب السلسلة حيث (حي المغاربة، وحي الشرف، وسوق الباشورة، وسوق الحصر).
2) وفي عامي 1969 و1970، صادرت سلطات الاحتلال نحو (12.000) دونم، قسمٌ منها يقع في أراضي القدس والباقي انتُزع من ثماني قرى عربية مجاورة لها هي: (الرام وقلنديا وبيت حنينا/شمالاً، والنبي صموئيل وبيت إكسا/غرباً، وبيت صفافا وشرفات وصور باهر/جنوباً)، وأزالت ما عليها من مساكن عربية).
3) وما بين 1971 و1972، صادرت سلطات الاحتلال /5000/ دونم من قريتي عناتا والعيزيرية الواقعتين شرقي القدس، وأقامت فوق المساحة التي صادرتها منهما أحياء سكنية للمستوطنين.
4) في خريف عام 1971، أغلقت إسرائيل، سبعين ألف دونم تمتد من أطراف بلدة بيت ساحور في الجنوب، مروراً بالخان الأحمر على طريق القدس/أريحا في الشـرق، حتى قرية عناتا شمال القدس. كما صادرت أراضي عربية أخرى داخل مدينة القدس تقدر بحوالى (18.000) دونم، منها (3500) دونم في المنطقة الحرام التي تمتد بين جبل سكوبس وحي الشيخ جراح.
5) وفي الأعوام 1973 و1974 و1975، أعلنت سلطات الاحتلال مصادرة سبعين الألف دونم السالفة الذكر التي كانت قد أغلقتها عام 1971، لتقيم عليها مدينة صناعية. كما صادرت أيضاً /1630/ دونماً من أراضي قرية النبي صموئيل لتقيم عليها أحياء يهودية.
6) وفي صيف 1976، أعلنت إغلاق /750/ دونماً من أراضي قرية العيزرية جنوب شرقي القدس. وحوالى /1000/ دونم في قرية أبو ديس على طريق القدس/أريحا. كما أغلقت مساحة من الأراضي على جبل جيلا قرب بيت جالا.
7) وفي 1978، أغلقت نحو /4650/ دونماً من أراضي قرية عناتا، لتوسيع مستوطنة (معاليه أدوميم).
8) وحتى أوائل 1979، بلغ مجموع الأراضي المصادرة من القدس والقرى العربية المجاورة لها /97864/ دونماً.
9) وفي عام 1980، صودر ألف دونم من أراضي قرية العيسوية، ضمت إلى المنطقة المخصصة لإقامة (معاليه أدوميم).
10) ومنذ مطلع عام 1981 ولغاية شهر حزيران 1982، تمت مصادرة المساحات التالية من الأراضي العربية الواقعة في منطقة القدس:
- /1150/ دونماً من قرية الجيب الواقعة شمال غرب القدس.
- /500/ دونم من أراضي قريتي الجيب ودير دبوان، لإقامة مستوطنة (جفعات زئيف). ثم /600/ دونم أخرى من قرية بدّو لتوسيع المستوطنة المذكورة.
- /11000/ دونم من قريتي العيزرية وأبو ديس، و/350/ دونماً من الخان الأحمر، لتوسيع مستوطنة معاليه أدوميم. و/450/ دونماً من النبي صموئيل لتوسيع مستوطنة النبي صموئيل.
- /4000/ دونم من قرية عناتا لتوسيع مستوطنة عنتيم.
- /22000/ دونم من معسكر اللنبي لإقامة مبانٍ جديدة للهستدروت في القدس.
- بضعة آلاف من الدونمات جنوب رام الله بين حي النبي يعقوب وجفعات زئيف لبناء مساكن وأحياء في القدس.
- /20/ دونماً من جبل المكبر، استولت عليها شركات بناء إسرائيلية.
- /4000/ دونم من قرية بتير العربية، لإقامة مركز بلدي يدعى بيتار.
11) في أواخر عام 1982، صادرت سلطات الاحتلال سبعة آلاف دونم من الأراضي الواقعة إلى الشـرق من قرية العيسوية المجاورة للقدس. وكانت قد صادرت أيضاً حوالى خمسة آلاف دونم من هذه القرية وقرية الطور المجاورة.
12) ومن بداية 1983 حتى 31/3/1983، تمت المصادرات التالية: /137/ دونماً من قرية قلنديا، /30/ دونماً داخل مدينة القدس، /2000/ دونم في شمال شرق القدس، /5000/ دونم من قرية بيت حنينا. كما صودرت مساحة جديدة من أراضي قرية بتير العربية، أُضيفت إلى مستوطنة بيتار التي سبق ذكرها.
وقد استمرت عمليات مصادرات الأراضي في القدس، بشطريها إلى يومنا هذا، حتى تقلصت جداً المساحة التي صارت تخص العرب اليوم، بينما اتسعت حصة اليهود أضعافاً، كما يبدو من الجدول الإحصائي التالي الذي يُبيِّن مساحة الأملاك الفلسطينية المصادرة بالدونم في القدس، بين عام 1948 حتى نهاية القرن الماضي تقريباً.
الأملاك الفلسطينية السنة
1948 1967 1997
قبل المصادرة 13.212 68.950
بعد المصادرة 3.020 6.000
مجمل مساحة المدينة (حسب التعريف الإسرائيلي) 20.331 108.000 126.000
ً2) الاستيطان:
سبقت الإشارة إلى أن مصادرة الأراضي هي الخطوة الأولى لتمكين سلطات الاحتلال من تنفيذ المشاريع الاستيطانية التي خططت لتنفيذها، داخل مدينة القدس وما حولها من قرى عربية مجاورة.
وفي الواقع، تزامنت عمليتا المصادرة والاستيطان، منذ بدء احتلال القدس العربية عام 1967، بغية الإسراع في تغيير حقائق المدينة المكانية والسكانية، تغييراً يمنع إعادة تقسيمها من جديد. وهذا ما يفسـر زخم عمليات الاستيطان وكثافتها في منطقة القدس، وزخم محاولات توطين اليهود فيها وتشجيعهم على سكناها، بشتى الوسائل والإغراءات. وحسب إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني المتَضَمَّنَة في كتابه الصادر في كانون الأول 1999، (أُقيم في محافظة القدس حتى عام 1997، حوالى "40" مستوطنة، على مساحة قدرها نحو (74.000) دونم. أكبرها مساحة هي "معاليه أدوميم" التي أُنشئت عام 1975).
ومن خلال دراسة تموضع المستوطنات الصهيونية داخل القدس وما حولها، يتبيَّن أن المخطط الاستيطاني الصهيوني قد هَدَفَ إلى عزل القدس، مدينة وسكاناً، عن سائر مدن الضفة الغربية المحتلة وسكانها، عن طريق تسويرها بنطاقين من المستوطنات، الأول يحاصر المدينة وضواحيها بإقامة مجموعة من الأحياء والضواحي اليهودية الجديدة على أنقاض ما كان قائماً من أحياء وضواحٍ عربية، الأمر الذي يؤدي إلى عزل عرب القدس وتفتيتهم ومنع التواصل بينهم، والثاني الذي بدأ تنفيذُه ضمن إطار ما عُرف باسم (مشروع القدس الكبرى)، يؤدي بالإضافة إلى زيادة حصار المدينة وعزل سكانها العرب عن الضفة الغربية وعربها، إلى قضم مساحات جديدة من أراضي القرى والمدن العربية المجاورة للقدس. وفيما يلي بيان كيف توزعَت عمليات الاستيطان ضمن كلا النطاقين.
عمليات الاستيطان ضمن النطاق الأول
ضمن هذا النطاق، تمَّ إنشاء العديد من الأحياء والضواحي اليهودية الجديدة التي روعي في بنائها أن تأتي مطوِّقةً لسكان القدس العرب، وحصرهم ضمن إطار من الأبنية اليهودية. ومن أهم الأحياء والضواحي التي أقيمت، بعد عام 1967 ورُوعِيَ في توزيعها أن تكون مساعِدَةً على تحقيق هذا الهدف:
1) (رامات إشكول)، وهي ضاحية سكنية تقع غرب القدس، بوشر بإقامتها عام 1968.
2) (جلات دفنا)، وهي تشكل امتداداً لـ (رامات إشكول) من الناحية الشكلية.
3) (سنهدريا)، وهي تشكل امتداداً آخر لـ (رامات إشكول) أيضاً، تقوم على قسم من الأراضي المصادرة من شعفاط، إلى الشمال الشرقي من القدس.
4) (النبي يعقوب)، أقيمت عام 1970، في الجانب الشمالي الشرقي من طريق القدس ـ رام الله.
5) (التلة الفرنسية)، أنشئت عام 1968، على جزء من أراضي (شعفاط والعيسوية وعناتا) لإقامة اتصال بين جبل (سكوبس) و(رامات إشكول).
6) (كتلة الجامعة العبرية)، أقيمت فوق جبل الزيتون، على المنطقة المحيطة بالجامعة القديمة، لتضم عمارات سكن للأساتذة والطلاب، بالإضافة إلى كلياتها ومكتبتها التي شُيِّدت على (20.000) م2.
7) (تلبيوت همزراحي)، وهي ضاحية تمتد من شرق طريق الخليل ـ بيت لحم على أراضي جبل المكبر وصور باهر.
8) (راموت)، أنشئت عام 1970، في مكان مجاور لمنطقة النبي صموئيل، على أراضٍ من (بيت اكسا، لفتا، بيت حنينا).
9) (جيلو) "شرفات"، أقيمت عام 1971، وتمتد من المنفذ الجنوبي للقدس الشرقية إلى الجهة الجنوبية من القدس الغربية.
10) (جفعات همفتار)، أقيمت على أراضي تل الذخيرة في منطقة الشيخ جراح.
11) (عطروت)، وهي منطقة صناعية أقيمت بالقرب من مطار قلنديا شمال غرب القدس، وخارج نطاق المنطقة التي تقرر ضمها.
12) (بسجات زئيف)، وهو حي جديد وكبير يقع في شمال شرق القدس، بين التلة الفرنسية وحي النبي يعقوب. ذكرت معريف، في أيار 1984، أنه يتسع، حسبما خُطِّطَ له، إلى /12.000/ وحدة سكنية.
وثمة مستوطنات أخرى أُنشئت بالتزامن مع السابق ذكرها أو بعدها، أثار إنشاؤها احتجاجات عربية ودولية كثيرة، ذهبت كلها أدراج الرياح، إذ استمرت الحكومات الإسرائيلية مُصرَّة على إنشاء المزيد منها، وبشكل علني، في أغلب الأحيان، معللة ما تفعله ومسوغة له بأنها تبني في المدينة التي أعلنتها عاصمة لها، والتي كانت، كما ظلت تزعم، "عاصمة اليهود" منذ أقدم العصور.
وهنا، تجدر الإشارة إلى نمط آخر من أنماط الاستيطان الإسرائيلي في القدس، تمت ممارسته في وقت مبكر من عمر الاحتلال، واستمر يُمارَسُ فيها إلى الآن، ويتمثَّل في توسيع و/أو إعادة بناء عدد من الأحياء اليهودية القديمة، كالحي اليهودي الذي يقع داخل أسوار البلدة القديمة. ويبدو أن الإسرائيليين أَولَوا هذا النمط الاستيطاني عناية زائدة، بعدما وجدوه أقلَّ إثارة للضجيج والتنديد العربيين وللتحفظ الدولي، مما أثارته وما تزال تثيره إقامة مستوطنات حديثة على أراضٍ عربية مصادَرَة، تتباين في طابعها وتخطيطها كلِّياً، عمَّا عليه الأحياء السكنية القديمة، سواء داخل مدينة القدس أو في ضواحيها.
عمليات الاستيطان ضمن النطاق الثاني
بدايةً، تجدر الإشارة إلى أن السلطات الإسرائيلية شرعت في تنفيذ المخططات الخاصة بهذا النطاق، عقب صعود الليكود إلى الحكم، عام 1977، مراعية أن يكون هذا النطاق الاستيطاني محيطاً بالنطاق الأول، بغية تشديد الخناق أكثر على عرب القدس ببناء مستوطنات جديدة تعجُّ بمستوطنين جدد وأكثر عدداً. وبالفعل، نفَّذت الحكومات الإسرائيلية، خلال العقود الثلاثة الماضية، عدداً كبيراً من المستوطنات، ضمن هذا النطاق، أهمها:
1) (معاليه أدوميم)، تُعدُّ أكبر المستوطنات الواقعة في محيط ما يُعرَفُ بالقدس الكبرى، ومن أقدمها، فقد تم البدء بإنشائها، عام 1974. وكانت في الأصل، مجرد منطقة صناعية كبيرة، تقع إلى الشـرق من القدس، في منطقة الخان الأحمر، على طريق القدس ـ أريحا. وظلت كذلك حتى تموز 1978، حين صادقت اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان على تحويل (معاليه أدوميم/ب) التي تقع على بعد /10/ كم من شرقي القدس، بالقرب من قرية العيزرية، إلى مدينة، تقع في محيط تلك المنطقة الصناعية مع مستوطنتي (متسفي يريحو)، و(فار). وقد بدأ العمل بإقامة المباني في (معاليه أدوميم/ب)، في تشـرين الثاني 1978، وفق مخطط يقضـي بأن تضم سبعة آلاف وحدة سكنية. ثم تَمَّ توسيعها بإغلاق نحو /4650/ دونماً من أراضي قرية عناتا عام 1978 نفسه، وألف دونم صودرت من أراضي قرية العيسوية عام 1980. ثم استمرت السلطات الإسرائيلية في توسيعها، على مراحل، حتى فترة قريبة.
2) (متسفي يريحو)، أقيمت في أيار 1978، بين الخان الأحمر وأريحا على بعد ثمانية كيلومترات شرقي الخان الأحمر. أي في محيط المنطقة الصناعية (معاليه أدوميم).
3) (فار)، تقع إلى الشرق من (معاليه أدوميم)، وفي محيطها أيضاً، وإقامتها معاصرة لإقامة سابقتها.
4) (جفعون)، أُعلن عن قيامها في أواخر عام 1975، ضمن مشـروع لتوسيع القدس. وهي مستوطنة على شكل ضاحية تبعد /10/ كم عن غربي مطار قلنديا، عند مفترق الطرق الواصلة بين قلنديا ورام الله واللطرون.
5) (جفعات حداشا)، وتدعى أيضاً (متسفي جفعون). أقيمت في كانون الأول عام 1980، على مساحة من الأرض المصادرة من (قرى الجيب، بدو، بيت أجزا) العربية. ثم تمَّ توسيعها مجدداً على حساب قريتي (بدو وبيت أجزا)، بمصادرة مساحات جديدة منهما.
4) (جفعات زئيف)، تم بناؤها في 24/6/1981، وهي تقع إلى شمال القدس بجوار مستوطنة جفعون، على أراضي قريتي (الجيب، ودير دبوان) العربيتين وجزء من أراضي قرية (بدو).
5) (عنتوت/أو عنتيم)، قرب قرية عناتا، بين مستوطنتي النبي يعقوب وميشور أدوميم. وقد تم تدشينها بتاريخ 30/9/1982. وأعطيت الرقم /103/ بين مستوطنات الضفة الغربية.
6) (بيتار)، أقيمت عام 1982 على أراضي قرية بتير العربية لتصل بين القدس وكتلة غوش عتسيون.
7) (أفرات)، أعلن عن قيامها في أواخر عام 1975، على أراضي بيت ساحور وبيت لحم والقرى المجاورة لهما، على أن تتحول إلى مدينة أو ضاحية من ضواحي القدس، وهو ما تمَّ لاحقاً.
8) (رامات هكدرون)، تقع جنوب القدس. وقد وافقت اللجنة الوزارية على تحويلها إلى مستوطنة مدنية، في أوائل أيار 1983.
9) (جفعات هارادار)، أقامها مستثمرون خاصون لصالح اتحاد الفلاحين.
10) (نيئوت أدوميم)، تقع قرب معاليه أدوميم، وقد اشتركت في إقامتها الوكالة اليهودية مع نواة استيطانية مستقلة.
11) (أدام)، أقرت اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان إقامتها بتاريخ 10/4/1984، وتقع شمال شرقي القدس.
12) (عمير حانيم)، أقام نواتها مستوطنون من حركة شاحاك، وتقع قرب القدس، وقد تم استيطانها في أواسط حزيران 1983.
13) (ليف شومرون)، تقع في منطقة القدس، أعلن عن قيامها في أيار 1983.
14) (راموت بنيامين)، إلى الشمال الغربي من القدس.
لمحة عن مشروع "القدس الكبرى" وتطوره
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن ما سبق ذكره من مستوطنات أقيمت، أو مازالت قيد الإقامة، في إطار النطاق الثاني حول القدس، مجرد جزء من مخطط أشمل وأوسع يسمى مشـروع القدس الكبرى. وكان هذا المشـروع الرامي إلى توسيع حدود القدس على مساحة واسعة من الأراضي العربية المجاورة لها قد قُدِّمَت له تصورات ومخططات عديدة، كان أولها الذي طرحه (متتياهو دروبلس) رئيس جناح الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية، في آذار عام 1969.
ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت الصحف الإسرائيلية تتحدث عن قيام طاقم التخطيط التابع لجناح الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية بوضع مخططات جديدة لمشـروع القدس الكبرى، مشيرة إلى أنه، بصيغته الجديدة، يتجاوز في حدوده وأبعاده وأغراضه، المشاريع الاستيطانية السابقة له، والتي وضعت تحت عنوان "القدس الكبرى" نفسه. بدليل أن مساحة ما يسمى "مشـروع القدس الكبرى"، لم تكن تتجاوز، حسبما كان متعارفاً عليه في الأوساط الاستيطانية الصهيونية، مئة ألف دونم، من الأراضي العربية المصادَرة والتابعة للقدس العربية وبعض القرى المحيطة بها.
وهذا ما تؤكده صيغة المشـروع الإسرائيلية الأولى، كما نقلها (روحي الخطيب)، في كتابه (تهويد القدس). فحسب تلك الصيغة، كانت حدود "القدس الكبرى" كالتالي: (رام الله والبيرة وما حولهما في الشمال، وبيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور وما حولها في الجنوب، وأبو ديس والعيزرية والطور وعناتا والرام في الشرق). أما ما صار يُعرَف بـ "مشروع القدس الكبرى الجديد"، فتُبيِّنُ حدوده المتَصَوَّرَة أنه يقوم على أضعاف المساحة التي كانت تتطلبها صيغته الأولى آنفة الذكر. لأنه وفقَ صيغته التوسعية المعدَّلة، صار (يمتد من مستوطنة "بيت إيل" شمالي رام الله شمالاً، إلى كتلة مستوطنات "غوش عتسيون" الواقعة جنوبي بيت لحم جنوباً، ومن باب الواد في منتصف الطريق بين القدس ويافا غرباً، حتى الخان الأحمر في منتصف طريق القدس ـ أريحا شرقاً).
وبهدف دفع مشروع القدس الكبرى الجديد إلى تحقيق المزيد من المخططات المرسومة له، أنشأ الإسرائيليون ما أسموه "مجلس القدس الكبرى"، وذلك بمبادرة من دروبلس نفسه ورئاسة زئيف بن يوسف مساعده في رئاسة قسم الاستيطان. ولم يتردد دروبلس في الإفصاح عن الهدفين الرئيسين للمشـروع الجديد، فبيَّنَ أنهما يرميان إلى:
1) كبح توسُّع السكان العرب على أراضي الدولة حول القدس العربية، و(إقامة أحياء سكنية ومستوطنات قروية يهودية على هذه الأراضي).
2) مضاعفة عدد السكان اليهود في منطقة القدس وما حولها.
وبعد، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره عن مشاريع الاستيطان الإسرائيلية التي نُفِّذت في القدس، وما تزال، تجدر الإشارة إلى شروع السلطات الإسرائيلية، منذ ثمانينيات القرن الماضي، بالتخطيط لشبكة طرق تصل مستوطنات القدس وضواحيها مع بعضها من جهة، ومع باقي مدن الضفة الغربية المحتلة من جهة أخرى. وقد تمَّ، في غضون السنين الماضية، تنفيذ جانب كبير من تلك الشبكة الطرقية التي طرأت على أجزاء منها تعديلات هامة، بعد الشروع في إقامة جدار الفصل العنصري على أراضي الضفة الغربية.
ثانياً، تهويد الغالبية السكانية في القدس:
حتى وقوع شطرها الغربي تحت الاحتلال الإسرائيلي، عام 1948، كانت غالبية سكان القدس من العرب المسلمين والمسيحيين الذين ظلوا يُشكِّلون نحو (58.4%) من مجموع سكانها، بينما لم تزد نسبة اليهود فيها، قبل 1948، على (41.6%)، على الرغم من كل موجات الهجرة اليهودية إليها، منذ عام 1918، حين لم يكن عدد اليهود فيها يتجاوز، في ذلك العام (10.000) يهودي، أي ما لا يزيد على (25%) من مجموع مسلميها ومسيحييها.
وبسبب تشجيع الحكومات الإسرائيلية لليهود على السكن في القدس، لتغيير الميزان السكاني فيها لصالحهم، زاد عددهم كثيراً، ليصل عشية عدوان حزيران 1967 إلى نحو (190.000) يهودي، أي ما يعادل (70%) من سكانها الذين قلَّ عدد المسلمين والمسيحيين العرب فيها إلى (80.000)، أي ما يعادل (30%) فقط.
ثم عادت هذه النسب لتتغير من جديد، بعد احتلال الشطر الشـرقي من القدس بعدوان 1967، جرَّاء تدفق أعداد كبيرة من اليهود للاستيطان في شطريها الشـرقي والغربي معاً، مقابل تهجير عدد كبير أيضاً من سكانها العرب، بوسائل شتى، سنعرض لأبرزها لاحقاً.
ونتيجة لهذه التغيرات، تحوَّل الميزان السكاني لصالح اليهود، في القدس، عام 1967 نفسه، إذ صار عدد العرب، آنذاك، (71.300) عربي فقط، مقابل نحو (196.500) يهودي. ثم اختل الميزان أكثر لصالح اليهود، في إحصاءات 1972، فصار عدد العرب (83.536)، مقابل (230.325) يهودياً. وفي إحصاء عام 1975، صار عدد العرب في القدس (96.100)، مقابل (259.400) يهودي. ومازال الخلل في ميزان القدس السكاني يتزايد لصالح اليهود إلى اليوم، بسبب استمرار جهود طرد العرب وتوطين اليهود.
وفي الواقع، بذلت إسرائيل، بعد احتلالها للقدس العربية عام 1967، جهوداً مكثفة لتفريغها من سكانها العرب. وقد تجلت تلك الجهود على شكل سلسلة من الممارسات والإجراءات الإرهابية والتعسفية كان أولها القيام بإحصاء عام لعرب القدس بتاريخ 25/7/1967، وكل من لم يكن موجوداً منهم أثناء القيام بالإحصاء منعته السلطات الإسرائيلية من العودة إلى بلده وعَدَّته غائباً ووضعت يدها على ممتلكاته. وحسب تقرير أعدَّه "الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني" ونشـره في حزيران 2000، بلغت مساحة الأراضي التي صادرتها إسرائيل من القدس والمناطق المحيطة بها، في الضفة الغربية، ما يقارب (85%) من إجمالي مساحة تلك المناطق.
وبالتزامن مع تلك المصادرات وبعدها، بدأت عمليات المصادرة الواسعة للأراضي والعقارات والمساكن والمتاجر، داخل المدينة القديمة نفسها، وإخلاء أصحابها منها، تحت ذرائع مختلفة، وقوانين تصدرها سلطات الاحتلال، أقل ما يمكن أن تُوصَف به أنها عنصرية الطابع استيطانية/إحلالية الهدف. وفيما يلي إطلالة على أبرز الإجراءات التي استندت إلى ذرائع غير قانونية، أو إلى قوانين ذرائعية:
1) مصادرة الأملاك الشخصية، منذ الأيام الأولى التي تلت عدوان 1967. من ذلك مثلاً، إصدار الحاكم العسكري الإسرائيلي، يوم 25/6/1967، أمراً بمصادرة (17) عقاراً ومتجراً ومكاناً دينياً، في باب السلسلة وحي الواد، بذريعة إقامة قوات الأمن في المساحة المصادَرة التي سرعان ما نُقلت ملكيتها إلى حكومة الاحتلال، لتُسلِّمها عام 1991، إلى عدد من المستوطنين للإقامة فيها.
2) الاستيلاء بالاحتيال على بعض عقارات المقدسيين العرب، عبر عقود إيجار بين أصحاب تلك العقارات ومستأجرين ثانويين أو وهميين، كما فعلوا في أماكن مثل (عقبة الخالدية والسرايا والسعدية).
3) رفض سلطات الاحتلال تسجيل آلاف المقدسيين العرب المولودين في القدس، وعدم الاعتراف بهم كمواطنين. وكذلك رفضها الاعتراف بمواطنية من لا يحملون "هوية القدس" التي أصدرتها تلك السلطات، واعتبارهم غائبين يحق لها مصادرة ممتلكاتهم، أو وضع يدها على تلك الأملاك ثم تأجيرها لمستوطنين يرفضون فيما بعد مغادرتها، وتؤيدهم المحاكم الإسرائيلية على البقاء فيها دون تعويض لأصحابها. وأحياناً كان المستوطنون يقتحمون بعض العقارات الفارغة، أو المتنازَع عليها بين أصحابها أنفسهم بسبب الميراث مثلاً، أو بينهم وبين سلطات الاحتلال، أو أي جهة أخرى، بهدف خلق واقع جديد، سرعان ما تقرُّه المحاكم الإسرائيلية، حين لجوء أصحاب الحق إليها لاحقاً، في الأغلب الأعم.
4) الاستيلاء على مناطق الأملاك العامة في القدس، ولاسيما أملاك الوقف الإسلامي. وقد تكرر ذلك كثيراً في مناطق مختلفة من القدس القديمة.
5) مضايقة المستوطنين لعرب القدس بالاعتداء عليهم بالضرب أو إلقاء القاذورات أمام بيوتهم، وأحياناً بالقتل العمد تمهيداً للاستيلاء على بيوتهم، دون أن ينال أولئك المعتدين عقابٌ رادع.
6) منع المقدسيين العرب، ومثلهم كل عرب الضفة الغربية، من ترميم بيوتهم أو توسيعها أو تحسينها، إلا في حالات قليلة، وبعد إجراءات قانونية وإدارية طويلة وشاقة جداً. والمبادرة إلى هدم الكثير من بيوت العرب بحجة أنها بنيت دون ترخيص أو بشكل مخالف لقوانين البناء في المدينة. ويشمل ذلك حتى البيوت التي تمَّ تهديمها أثناء أي عدوان إسرائيلي أو بسببه. ذلك أن أي عقار من هذا النوع، بيتاً كان أو محلاً تجارياً أو حتى مسجداً أو كنيسة، تتم إزالته وتجريف بقاياه، قبل إعلان الاستيلاء عليه من قبل سلطة الاحتلال.
7) إزالة مبان عربية بحجة الكشف عن آثار يهودية قديمة، من ذلك مثلاً، قيام سلطات الاحتلال، بعد أربعة أيام من دخولها القدس القديمة، بإزالة (135) دار سكن في حي المغاربة المجاور لحائط المبكى، بالإضافة إلى مسجد الحي وعدد كبير من متاجره ومخازنه، بحجة الكشف عن ذلك الحائط.
8) إزالة المباني التي ينسفها الجيش الإسرائيلي كعقوبة لأسر الفدائيين الذين نفذوا عمليات ضد إسرائيل.
9) إزالة مبان عربية كثيرة بذريعة الأسباب الأمنية، وأحياناً قد تدخل الأسباب السياسية أيضاً.
10) وكأن كل الإجراءات السابقة لم تكن كافيةً لتفريغ المدينة من العرب، في نظر إسرائيل، فأقدمت على تنفيذ سياسة الإبعاد الجماعي الذي شمل، بصورة أساسية، القيادات السياسية والدينية، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من مثقفي القدس وخبرائها الفنيين والمهنيين بينهم: أطباء ومهندسون ومحامون ومعلمون وصحفيون وصناعيون وأصحاب مهن وأصحاب خبرات فنية.
وفي المحصلة، أثمرت هذه الإجراءات وغيرها، مما لا يتسع المجال لعرضه، إلى إجبار نحو (70.000) عربي مقدسي على ترك مدينتهم، ومصادرة أملاكهم فيها. وقد تمت عمليات النزوح هذه، على فترات زمنية امتدت، كما ورد في بعض المصادر الفلسطينية، طيلة الفترة الواقعة بين عدوان 1967 ونهاية القرن الماضي تقريباً.
وكما هو واضح، توخَّت سلطات الاحتلال أن تؤدي هذه الإجراءات إلى إضعاف روح المقاومة بين عرب القدس، والضغط عليهم، بتجريدهم من أصحاب الخبرة والثقافة والقادرين على القيادة. كما توخت أن تؤدي أعمال الطرد والإبعاد إلى بثِّ الرعب في نفوسهم، فيكفوا عن معارضة ما تنفذه من إجراءات لتهويد مدينتهم، فإن أبوا إلا معارضتها ومقاومتها، لجأت إلى تهديدهم بالسجن، أو إلى سجنهم فعلاً. لكن ما توخته لم يتحقق معظمه.
فصحيح أن مجمل الممارسات السابقة قد أدت إلى إخلال في ميزان القدس السكاني لصالح اليهود، لكنه ظل إخلالاً نسبياً إذا ما قيس بما كانت السلطات الإسرائيلية تتوخاه وتأمله، مما دفعها إلى ابتكار ألوان أخرى من الإجراءات التعسفية بحق المقدسيين الباقين في مدينتهم، استهدف بعضها شلَّ اقتصادهم وتقويضه لربطه، في النهاية، بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي. وطال بعضُها الآخر قوانين الأحوال الشخصية والمدنية والشـرعية التي تمَّ إلغاء بعضها وتغيير أخرى. كما شملت إجراءات التهويد مناهج التعليم العربي، فاستبدلت بمناهج إسرائيلية مصمَّمَة لفصم عرى الارتباط بين طلبة القدس العرب وثقافتهم الأصيلة وتراثهم وتاريخهم القومي. وفي الإطار نفسه، جرت محاولات تطويق الثقافة العربية، وفرْضِ قيودٍ شديدة على نشاط رجال الدين الإسلامي والمسيحي، بالإضافة إلى إغلاق المؤسسات الدينية على اختلافها. هذا كله ناهيك عن المضايقات الاقتصادية ومضايقات السكن التي كان أبرزها منع عرب القدس من شراء أو استئجار المساكن التي أقيمت على الأراضي التي صُودرت منهم.
لكن، وبخلاف كلِّ توقعاتها، فوجئت السلطات الإسرائيلية بأن كل إجراءاتها السابقة، وكلَّ ضغوط العزل التي مارستها على عرب القدس لم تُؤَدِّ إلى الانخفاض الذي كانت تأمله في عددهم، خصوصاً بعدما حاولت قطع غالبية قنوات التواصل والاتصال بينهم وبين عرب الضفة الغربية المحتلة. فحسب ما ذكرته المصادر الإحصائية الإسرائيلية نفسها، ازداد سكان القدس العرب، منذ احتلالها حتى الآن، وإن لم يكن بنفس نسبة زيادة اليهود فيها. فضمن استعراض ديموغرافي قام به البروفيسور (ع. شملتس)، من المكتب المركزي للإحصاء في إسرائيل، أشار إلى أن عدد السكان المسلمين في القدس كان في العام 1967 حوالى /58.000/ نسمة، وقفز خلال عشر سنوات فقط ليصل إلى /90.000/ نسمة، في عام 1977.
والواقع، ثمة تخوفٌ مزمن في الدوائر الإسرائيلية، ليس من ازدياد النسبة الطبيعية لعرب القدس، عن طريق التكاثر فحسب، بل من ازدياد إقبال المواطنين العرب، في مختلف أنحاء الضفة الغربية، على السكن في شرقي القدس. وتقول صحيفة معريف إن السلطات الإسرائيلية تشعر بعجزها عن وضع حد لهذا الإقبال، وتضيف معريف أيضاً أنه تبيَّن من معطيات مختلفة، وتقديرات عناصر تعمل في المنطقة، أن عدد المواطنين العرب في شرقي القدس، والذين هم ليسوا مقدسيين بالأساس يتراوح ما بين /20.000 و 25.000/ نسمة.
وهناك مشكلة أخرى تتناولها المصادر الإسرائيلية بالكثير من الاهتمام، هي مسألة نتائج محاولات الاندماج بين العرب واليهود في القدس، والهادفة إلى تذويب الأقلية العربية التي ترفض مغادرتها. فضمن محاضرة ألقاها البروفيسور (أ. وينفرود) من جامعة بن غوريون في بئر السبع، قال إن (الاندماج بين سكان القدس، في غضون عشرة أعوام مرت على ضمها، هو اندماج محدود جداً وغير عميق... وحتى في الأحياء المختلطة بين اليهود والعرب لم تتولد علاقات جوار بين الطرفين، وكذلك في مجالات العمل).
على أي حال، يبدو أن السلطات الإسرائيلية تشعر بقلق متزايد من إقبال العرب على السكن في القدس، وتمسك عربها الأصليين بالبقاء فيها، على الرغم من كل المضايقات التي يتعرّضون لها، وكل ممارسات الإرهاب النفسي والجسدي التي تُطبَّق عليهم يومياً. وما يقلقها في موقفهم هذا، أنها ترى في إصرارهم على التمسك بأرضهم ومدينتهم، مع كل ما تعرضوا له، فشلاً ذريعاً لكل إجراءاتها الرامية إلى تفريغ القدس منهم.
ثالثاً، محاولات تغيير معالم المدينة:
كان لابد للمشاريع الاستيطانية التي نفذتها سلطات الاحتلال أن تؤدي إلى إحداث تغييرات كبيرة في معالم القدس كلها، لأن تنفيذ غالبية تلك المشاريع لم يكن ممكناً إلا بعد هدم العديد من الأحياء العربية القديمة وإزالتها مع ما كان قائماً فيها من بيوت ومتاجر صادرتها السلطات الإسرائيلية من أصحابها العرب. بل لم تتورع تلك السلطات حتى عن هدم دور العبادة أحياناً، وفي مقدمتها المساجد التي لم ترعَ حرمتَها، ضاربة عرض الحائط بكل قرارات مجلس الأمن التي صدرت ضد هذا النوع من الممارسات، ولاسيما القرارات (252) و(267) و(298) و(476) التي سبقت الإشارة إليها.
ومن المفترَضِ ألاّ يغيب عن البال هنا أن التغييرات التي طرأت على معالم القدس، منذ احتلالها، لم تكن خارجة عن نطاق الأهداف المتوخاة من وراء تنفيذ المشاريع الاستيطانية عموماً، في سائر مدن فلسطين المحتلة وقراها، والتي في مقدمتها السعي إلى طمس الطابع العربي/الإسلامي لهذه المدن، ولاسيما القدس، طمساً يهيئها للتحوُّل إلى القبول، على نحو من الأنحاء، بالطابع اليهودي المزمع إسباغه عليها، ضمن إجراءات التهويد التي صارت اعتيادية، لتكرارها نفسها في كل مدينة أو قرية فلسطينية احتلتها إسرائيل، منذ إنشائها.
ويضاف إلى هذا الهدف، ما سبق ذكره من سعي السلطات الإسرائيلية، بعد احتلالها شرقي القدس عام 1967، إلى تثبيت توحيده بشطرها الغربي المحتل منذ عام 1948، لتوهُّمها أن تغيير المعالم العربية والإسلامية لكلا الشطرين، تغييراً تاماً، يمكن أن يلغي أي إمكانية محتملة في المستقبل لإعادة تقسيم المدينة، الأمر الذي يلغي بدوره أي إمكانية لتحوُّل السلطة، على أي جزء من أجزائها، إلى أي سلطة أخرى غير إسرائيلية. وذلك على خلفية الاعتقاد بأنها بعد توحيدها، يمكن أن تغدو، كما هو مخطط لها صهيونياً، مدينة يهودية إسرائيلية، على نحو ما وصفها بن غوريون عقب عدوان 1967، مما يجعل الإصرار الإسرائيلي على استثنائها، في أي مفاوضات تسوية مستقبلية بين العرب وإسرائيل، أمراً ممكناً، في ضوء الحقائق المكانية والسكانية المستحدَثة فيها، بفعل إجراءات التهويد التي تمت، وما زالت مستمرة.
وبعد، فلإيضاح الكيفية التي انتهجتها إسرائيل، لتجسيد جملة هذه التصورات وأهدافها واقعاً، ربما من الضروري تقديم لمحة، ولو سريعة، عمَّا نفَّذته سلطاتها من تغييرات طالت معظم معالم القدس العربية، منذ احتلالها عام 1967، وفيما يلي عرض موجز لأهم تلك التغييرات وأبرزها:
1) على صعيد إعادة تعمير الحي اليهودي الذي يقع داخل أسوار القدس العربية القديمة، وإلى الجنوب منها، بدأت سلطات الاحتلال، عقب انتهاء الحرب مباشرة، بإخلاء العرب من سكان هذا الحي، وكان عددهم يبلغ، آنذاك، قرابة /6500/ عربي، لتضع يدها على منازلهم وممتلكاتهم، تمهيداً لهدمها.
ثم طُرح بعد ذلك مشروعُ مخططٍ لتوسيع الحي المذكور، ما لبث أن تمَّ تنفيذه فعلاً، على حساب أحياء عربية مجاورة له، أهمها حي المغاربة الملاصق للحرم الشريف إذ يقع في الزاوية الجنوبية الغربية منه. فقد تعرَّض هذا الحي لعمليات هدم كثيرة شملت مبانيه العربية القديمة التي كان بينها:
ـ /125/ مسكناً كان يقطنها /650/ عربياً.
ـ مسجدان من أملاك الأوقاف الإسلامية كانا فيه.
ـ عدد من المدارس أشهرهما المدرستان الأفضلية والفخرية.
ـ عدد من الزوايا أشهرها زاوية المغاربة.
ولم يكن حي المغاربة الوحيد الذي تعرَّض لعمليات هدم وتهجير كهذه، بغية توسيع الحي اليهودي، ليشتمل، في النهاية، على /630/ وحدة سكنية مع فنادق وملاعب ومرافق عامة أخرى، بل تعرَّضت للهدم والإزالة، الجزئية أو الكلية، أحياء عربية أخرى مجاورة أبرزها: حي باب السلسلة وحي الباشورة.
2) التغييرات التي طرأت على معالم القدس العربية، في إطار مشروع المركز التجاري الواقع إلى الشمال الغربي من القدس القديمة، على مساحة من الأرض تبلغ /2700/ دونم، تضم حي باب الساهرة، وحي باب العامود، وجزءاً من حي الشيخ جراح، وأجزاء من أحياء المصرارة وسعد وسعيد. وهذه كلها كانت أحياء مكتظة بالسكان العرب ومنازلهم ومدارسهم ومتاجرهم، وفيها الكثير من المعالم السياحية. ولاهتمام السلطات الإسرائيلية بهذا المركز سببان رئيسان:
أ) الإمعان في تغيير المعالم العربية للقدس.
ب) تقديرُ السلطات الإسرائيلية أن هذا المركز بشكله المزمع أن يبدو عليه، بعد إتمام تنفيذه، سيُشكِّل حلقةً في حصار سكان القدس العرب، وعازلاً بين أحيائها العربية، كما سيُسهِّل من جهة أخرى، عملية توحيد شطريها، لامتداده، حسبما يبدو في مخططه، إلى الجهة الغربية من القدس العربية القديمة، ليخلق التحاماً بينها وبين القدس الغربية بواسطة مشروع قطاع ماميلا قرب بوابة يافا.
3) قطاع "ماميلا" الذي تمَّ البدء بتنفيذ مشروعه، منذ عام 1967، على مساحة من الأراضي تبلغ (120) دونماً، تقع بين سور البلدة القديمة شرقاً وشارع الملك داوود غرباً، وبين شارع سليمان وساحة "الجيش الإسرائيلي" شمالاً، وشارع راؤول ولنبرغ وامتداده حتى قلعة داوود جنوباً..
ويذكر الصحفي الإسرائيلي (طوبيا مندلسون)، أن (هذا القطاع يعد جغرافياً جزءاً من مركز "العاصمة" القدس). ثم يذكر في وصفه أنه خُطِّط ليكون محاطاً من جميع جهاته بأهم أحياء المدينة القديمة، وبالأسواق والفنادق. فمن الشمال، يلتحم بالمركز التجاري، بينما يحدُّه من الجنوب، جزءٌ من الحديقة العامة، الأمر الذي يعني وقوعه بين شطرَي المدينة الغربي والشـرقي، وهو موقعٌ يُسهِّل توحيدهما، عن طريق ربطِ المركز التجاري في القدس القديمة بنظيره في القدس الغربية. وفوق كل هذا، يزخر قطاع ماميلا بالمعالم الأثرية كبرج داوود، وبوابة يافا، وسور البلدة القديم، وبرك ماميلا والسلطان، وكنيسة نوتردام، وغيرها من الآثار والمعالم التي تُضفي على تخطيطه وتنفيذه أهمية بالغة، ولاسيما من الناحيتين التجارية والسياحية، فضلاً عن أهميته الاستيطانية.
4) تنفيذ مشروع الحديقة العامة التي تحيط بسور البلدة القديمة من الشـرق والجنوب، وما أدى إليه من تغييرات في معالم القدس. وهو مشـروع وُضع بعد الاحتلال عام 1967 مباشرة؛ ولأجله، تمَّ إخلاء السكان العرب من عدة أحياء واقعة بجوار السور، وخاصة عين الحلوة وقسم كبير من سلوان، كما مسَّ تنفيذه حرمة المقابر الإسلامية، في القدس الشرقية، لأن جزءاً منه قد نُفِّذَ على أنقاض تلك المقابر.
5) تهويد الأحياء العربية بمباني المستوطنين، وهو ما يُعدُّ من أقدم ممارسات الاحتلال، بعد 1967، وخصوصاً في القدس التي طال التهويد عدداً كبيراً من أحيائها، حاول الإسرائيليون محوَ ملامحها العربية والإسلامية، بمواصلة عمليات الهدم والإزالة لمساكنها ومتاجرها وعقاراتها ذات الطابع العربي، كما فعلوا في حي الشرف مثلاً، حيث هدموا /1024/ مسكناً من مساكن سكانه العرب، و/425/ متجراً، وخمسة مساجد، منها مسجد عثمان بن عفان والمسجد العمري، وأربع مدارس كانت موجودة فيه، منها المدرسة الطشتمرية، كما يذكر عارف العارف في أوراقه، ليقيموا فوق أنقاض هذه الأبنية على اختلافها، وما ضمُّوه إليها من أراضي الأوقاف الإسلامية التي صادروها، مباني ومنشآت جديدة لليهود المتوخى توطينهم في ذلك الحي العربي.
6) ولإنشاء ساحة واسعة أمام "حائط المبكى" المعروف عند العرب باسم "حائط البراق"، جرت الكثير من المصادرات وأعمال الهدم للمنازل العربية. كما تم في إطار هذا المشروع نسف مسجدين قرب الحائط، وتحويل مسجدين آخرين إلى كنيسين يهوديين.
7) وتبقى الجريمة الأكبر، في إطار تغيير معالم القدس العربية، المحاولات الإسرائيلية المتكررة لإزالة المسجد الأقصى، سواء بتكرار محاولات إحراقه، أو باستمرار الحفريات التي تتم تحت جدرانه، ويصفها الإسرائيليون بالحفريات الأثرية، ليخفوا هدفها الحقيقي وهو إزالة الأقصى، وليُسوغوا استمرارها بالزعم أنها مجرد "تنقيب علمي" عن آثار هيكل سليمان الذي تزعم الحاخامية اليهودية/الصهيونية أنه موجود تحت بناء الأقصى ومسجد قبة الصخرة.
وفي الواقع، بدأ السعي الإسرائيلي لإزالة الأقصى، منذ بدء احتلال القدس، حين باشرت عدة فرق آثارية إسرائيلية بالحفر تحت المسجد، سراً في البداية، ثم علناً بعدما شاع الأمر. ومع أن ردود الفعل العربية والإسلامية على هذه الجريمة، كانت قوية جداً وكثيرة جداً، لم تفلح في وقف تلك الحفريات، حتى الآن، كما لم تفلح في حرفها عن هدفها الحقيقي غير المعلن، والمتمثل بتصديع جدران الأقصى ومسجد القبة كي ينهارا، في النهاية، ويزول بزوالهما أبرز وأعظم الآثار الإسلامية في القدس العربية، وبهذا تتحقق أحلام العنصريـة الصهيونية وخيالاتها النابعة من هستيريا ضرورة تهويد القدس، والملتحمة في مظهرها الخارجي بهستيريا البحث عن أي جذور لليهود في القدس. ويبدو أن الآثار المدمرة لهذه الهستيريا لم تقف عند حدود السعي إلى إزالة الأقصـى، بل طالت بعض ما حوله من مساجد ومدارس أيضاً، هدمها الإسرائيليون، من أشهرها، مدرسة بنات الأقصى ومسجد البراق.
8) ومن جملة الإجراءات الأخرى في مجال تغيير المعالم نقل المؤسسات الحكومية الإسرائيلية الرسمية إلى القدس الشرقية بعد صدور قانون القدس عام 1980 الذي أعلن القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل. ومن أولى المؤسسات التي تمَّ نقلها، وزارة البناء والإسكان التي قام وزيرها، آنذاك، (دافيد ليفي) بتدشين المبنى الجديد لوزارته يوم 31/12/1981، في حي الشيخ جراح الذي نُقِلَ إليه نفسه مكتب رئيس وزراء إسرائيل أيضاً.
9) تغيير أسماء الأماكن والساحات والشوارع العربية، في القدس بشطريها، بأسماء عبرية، كأسلوب آخر اعتمدته إسرائيل، في إطار سعيها الدؤوب لتغيير معالم هذه المدينة. والأمثلة على هذا الأسلوب كثيرة جداً منها، على سبيل المثال، إطلاق اسم:
أ) (جفعات همفتار) على تل الشـرفة الذي يضم القسم الشـرقي من هضبة الشيخ جراح، خارج السور.
ب) (شارع المظليين) على طريق سليمان القانوني الممتد من باب العامود حتى ساحة اللنبي.
ج) (رحوف هجاي) على (طريق الواد) الممتد داخل السور من باب العامود حتى مثلث شارع السلسلة.
د) (حباد) على (سوق الحصر).
هـ) (ديرخ شاعَر هيرؤت) على (طريق المجاهدين) الواقع داخل السور.
و) (حي شابيرا) على (التلة الفرنسية).
ز) (ميدان عودة صهيون) على (ساحة باب الخليل).
ح) (عقبة الشاعر يهودا هاليفي) على (عقبة بومدين) الواقعة ما بين حائط البراق والحي اليهودي.
وبعد، يبدو جلياً أن الهدف الحقيقي، من مجمل ما سبقت الإشارة إليه من ممارسات إسرائيل الساعية إلى طمس معالم القدس وطابعها العربي، بغية تحويلها إلى مدينة يهودية صِرف، هو الحيلولة دون إعادتها إلى أصحابها العرب، تحت أي ظرف مستقبلي، وفي إطار أي خطة محتملة للتسوية. ولتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، لم تقتصر إجراءات تهويد القدس على تغيير معالم بيئتها المكانية والسكانية وأسماء شوارعها وأحيائها، بل تجاوزت تلك الإجراءات هذا الخط الأحمر إلى أحمرَ آخر أبعد منه، أي إلى محاولة خلق إمكانيات تُساعد على إحداث تغييرات كبيرة في أوضاع عرب القدس، عن طريق تغيير أوضاعهم الاقتصادية والقضائية والتعليمية والثقافية، على أمل أن تدفعهم تلك التغييرات إلى هَجرِ مدينتهم إن أمكن، فإن لم يهجروها، عليهم أن يخوضوا صراعاً دائماً في مواجهة محاولات تذويب هويتهم العربية، وطمس طابعها القومي الخاص وتدمير استقلاليتها ومصادرة حريات أبنائها، وغير ذلك من محاولات لن تتوقف إسرائيل عن القيام بها، لتضمن استمرار الحيلولة دون أي محاولة عربية فعلية قد تُسفر، في النهاية، عن إعادة تقسيم المدينة، أو إزالة السلطة الإسرائيلية عن أي جزء من أجزائها، فيما لو صمد سكانها العرب في وجه كل محاولات التضييق الإسرائيلية عليهم لتهجيرهم من مدينتهم. ومن أبرز هذه المحاولات الهادفة إلى جعل حياة العرب في القدس لا تُطاق، إجراءات تهويد طالت، عقب 1967، مجالات حيوية من أبرزها: الاقتصاد والقضاء والتعليم والثقافة.
رابعاً، إجراءات تهويد القدس اقتصادياً:
عززت التجربة الاحتلالية، ما قرَّ في وَهْمِ الإسرائيليين أصلاً، من أن الوسيلة الأكثر نجاحاً لتهويد أي مدينة عربية يتم احتلالها، هي توسيع القاعدة الاقتصادية الإسرائيلية فيها، مع ضرورة التزامن بين تنشيط جملة المرافق المرتبطة بهذه القاعدة، وضرب استقلالية قاعدة الاقتصاد العربي في هذه المدينة المحتلة أو تلك، وتدمير بُناهُ بشتى الوسائل والسبل، تمهيداً لربطه مع ما يمثله من قطاعات عمالية ومهنية وتجارية، بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي. هكذا فعلت إسرائيل في المدن العربية التي احتلتها، ولم تكن القدس استثناء، لذلك خضع اقتصادها العربي لنفس السلسلة من الإجراءات، فتمَّ إدخال تعديلات على بعض ما ساد فيها من قوانين وأنظمة اقتصادية، قبل احتلالها، كما تمَّ سَنُّ عددٍ من القوانين والأنظمة الجديدة الهادفة إلى إنجاز تهويد اقتصادي شامل، توضح اللمحة التالية أبرز إجراءات تنفيذه التي تمت على مرحلتين، أولاهما نُفِّذت في القدس الغربية التي احتُلَت عام 1948، والثانية في القدس الشـرقية بعد احتلالها عام 1967.
المرحلة الأولى: بدايات تهويد اقتصاد القدس الغربية:
من اللافت للانتباه أن بداية تهويد اقتصاد القدس الغربية بدأ في مرحلة مبكرة جداً، رافق بدايات الاستيطان اليهودي فيها، منذ أوائل القرن الماضي، واستُكمِل على مراحل امتدت إلى ما بعد وقوعها تحت نير الاحتلال الكامل، عام 1948. وفيما يلي إطلالة سريعة على البدايات الأولى لتهويد اقتصادها.
1) في عام 1904، تم إنشاء مؤسسة الهستدروت الصهيونية (نقابة العمال)، في القدس، وأول مصرف صهيوني فيها.
2) وبعد تزايد الدعم الأوروبي للمنظمة الصهيونية، ازداد تدفق الأموال الأوروبية والأمريكية، فضلاً عن الأموال اليهودية إلى فلسطين عموماً، لاستثمارها في وضع قاعدة الكيان الصهيوني المزمع إقامته على أرضها، وكانت حصة القدس من تلك الأموال هي الأكبر نسبياً. يدلُّ على ذلك إقامة العديد من المؤسسات الاقتصادية والإدارية الصهيونية فيها، لجعلها مركزاً سياسياً واقتصادياً وإدارياً للحركة الصهيونية ونشاطاتها. ومن أبرز تلك المؤسسات التي اتخذت من القدس مقراً لها، في وقت مبكر جداً من القرن الماضي: (الوكالة اليهودية، اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية، الصندوق التأسيسي "كيرن هايّسود"، الصندوق القومي اليهودي "كيرن هكَّيّميت"، الحاخامية الرئيسة).
3) تقديم الدعم المالي بوفرة لمشروعات اقتصادية صغيرة ومتوسطة يقوم بها مستوطنون لتشجيعهم.
4) بناء العديد من الأحياء الجديدة لاستيعاب مهاجرين يهود جدد، خلال الفترة بين عامي 1921/ 1948، بكل ما يمكن أن تشتمل عليه هذه الأحياء من متاجر ومؤسسات اقتصادية محدودة، تُنافِس الاقتصاد العربي في القدس، وتُشكِّل طوقاً حول مؤسساته ونشاطاته، لإحكام حصارها بالمستوطنات اليهودية وخنقها اقتصادياً.
المرحلة الثانية: تهويد اقتصاد القدس الشرقية:
تمَّ الشروع في عملية تهويد اقتصاد القدس الشـرقية، فور استكمال احتلالها، وقد شملت عملية التهويد كل مرافق هذا الاقتصاد، كما تُبين المعطيات التالية:
1) فور إتمام عملية الاحتلال، أصدرت السلطات الإسرائيلية أمراً باستبدال العملة الأردنية التي كانت متداولة في القدس الشرقية بالعملة الإسرائيلية، تلاه أمرٌ آخر بإغلاق المصارف العربية فيها ومصادرة أموالها.
2) بتاريخ 29/6/1967، تمَّ رفع الحظر عن التجارة بين شطري المدينة المحتلة، بعدما زال سبب فرضه وهو اختلاف العملة المتداولة فيهما. ولتسريع إزالته، أقيمت مراكزُ خاصة، في سائر أنحاء القدس، مهمتها تحويل الدنانير الأردنية إلى ليرات إسرائيلية.
3) فُرِضَ على سكان القدس العرب إعادة تسجيل أنفسهم وتراخيص عملهم وشركاتهم، في الدوائر الرسمية الإسرائيلية، بموجب "قانون التنظيمات القانونية والإدارية" الذي أقره الكنيست بتاريخ 23/8/1984.
4) بعد الاحتلال مباشرة، أعلنت السلطات الإسرائيلية إغلاق "مكتب خدمات الشؤون الاجتماعية العربي"، ونقل مهامه والإشراف عليه إلى مكتب الخدمات الإسرائيلي.
5) وفي إطار عزل اقتصاد القدس العربي عن سائر الضفة الغربية المحتلة، بغية الإسراع في هدم بنيته المستقلة عن الاقتصاد الإسرائيلي، قررت سلطات الاحتلال منعَ دخول الإنتاج العربي الزراعي والصناعي إلى القدس، إلا بضرائب عالية. بل ألغت أيضاً التخفيض الذي كان ممنوحاً لعرب القدس، في مجال دفع الضرائـب، وطالبتهم، ابتداء من السنة المالية الجديدة لعام 1971، بدفع الضريبة المالية كاملة.
6) وفي محاولة منها لزيادة خنق الاقتصاد العربي، في القدس، تمهيداً لربطه بالاقتصاد الإسرائيلي، نفذَّت السلطات الإسرائيلية خطوات عزل ثلاث ساهمت أكثر فأكثر، في عزل القدس وسكانها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، عن باقي مدن الضفة الغربية وقراها، وهذه الخطوات هي:
أ) شقُّ عدد من الطرق التي تسمح بالوصول إلى القدس، دون المرور بالأراضي العربية في الضفة الغربية.
ب) إقامة مراكز حدود عسكرية وجمركية وشُرَطِيَّة على الطرق والمنافذ المؤدية إلى القدس.
ج) إعلانُ القدس منطقةً أجنبية بالنسبة لباقي مدن الضفة وقراها، يستلزم دخولها تصاريح عسكرية لا تمنح إلا بصعوبة كبيرة.
8) وإمعاناً في القضاء على كل مظاهر استقلالية الاقتصاد العربي والمؤسسات التي تمثله أو ترمز إليه، في القدس، حاولت إسرائيل، في وقت مبكر من عمر احتلالها، الاستيلاء على شركة كهرباء القدس العربية، وإلحاقها بشركة الكهرباء الإسرائيلية القطرية، لأن لشركة الأولى تُعدُّ، من وجهة النظر الإسرائيلية، مؤسسة اقتصادية عربية مستقلة ينبغي تصفيتها وإلحاقها، كغيرها، بالمؤسسات الاقتصادية الإسرائيلية.
بالطبع، كان من البديهي أن تؤدي هذه السلسلة من الإجراءات وغيرها، في المجال الاقتصادي، إلى ما يشبه الشلل الكامل للاقتصاد العربي في مدينة القدس؛ ليس لأنها دمرت استقلاليته فحسب، بل لأنها صادرت حرية نشاطه، وسرقت منه أسواقه المحلية أيضاً، الأمر الذي أدى، بعد حين، إلى هجرة بعض المهنيين والعمال العرب من القدس إلى ضفة الأردن الشرقية، وهجرة آخرين منهم إلى بلدان عربية أخرى. وقد جاءت هجرة هؤلاء وأولئك محققِّة، عن غير قصد منهم، واحداً من أهم أهداف مخطط إسرائيل الصهيوني/العنصري ممثلاً بسعيها المحموم إلى تفريغ القدس من سكانها العرب.
خامساً، تهويد القضائين الرسمي المدني والشرعي الإسلامي:
ربما يُعدُّ هذا الإجراء، حتى من وجهة النظر الإسرائيلية، من أقسـى الإجراءات التي تمَّ اتخاذها، في إطار التضييق على عرب القدس، بغية دفعهم إلى ترك مدينتهم، لأن محاولة السلطات الإسرائيلية تهويد القضاء في القدس، بصورتيه الرسمية والشـرعية، يُعدُّ تدخلاً في جملة قوانين الأحوال الشخصية والمدنية لسكانها العرب، مسلمين ومسيحيين، على السواء، وكذلك تُفسّـَر المحاولة الإسرائيلية لإلغاء دور المحاكم الشـرعية الإسلامية بالذات. أما الأهداف التي رجت إسرائيل تحقيقها، من وراء هذا الإجراء، فكثيرة أبرزها:
أ) إضعاف الرابطة بين عرب القدس من جهة، وبينهم وبين مدينتهم من جهة أخرى.
ب) دفع المقدسيين، مسلمين ومسيحيين، إلى الإحساس بالإحباط التام واليأس والشعور بالعزلة وفقدان الهوية العربية، في آن واحد معاً، أملاً في دفعهم إلى الرحيل عن القدس.
ج) تشديد الحصار على مَن ظلَّ يأبى الرحيل من عرب القدس، والضغط عليهم، في المجال القضائي الذي يُعدُّ من أكثر ميادين الحياة حساسية، على أمل أن يرحلوا عن القدس، عاجلاً أو مستقبلاً، بعدما يرون أن الضغط والحصار، في هذا المجال، قد أديَّا إلى تعطيل حرياتهم الطبيعية، وإلغاء خصوصيتهم الدينية، وطمس هويتهم العربية طمساً شبه تام.
ولتحقيق هذه الأهداف، بشكل رئيس، وغيرها، اتخذت سلطات الاحتلال جملة إجراءات ترمي جميعها إلى تدمير العمل بقوانين القضائين الرسمي المدني والشـرعي الإسلامي، ومن أهم هذه الإجراءات:
1) استناداً إلى قانون السلطة والقضاء المعدَّل القاضي بتخويل حكومة إسرائيل تطبيق قوانينها وأنظمتها على أي منطقة ضمن فلسطين، والصادر بتاريخ 12/6/1967، أصدرت إسرائيل الأمر المنشور في "مجموعة الأنظمة"، العدد (2064)، والقاضي بتطبيق القانون الإسرائيلي والسلطة الإدارية الإسرائيلية على منطقة القدس كلها.
2) تأسيساً على تعديل القانون الآنف، قرَّرت إسرائيل، بتاريخ 28/6/1967، إلغاء العمل بالقوانين الأردنية المحلية، في القدس، واستبدالها بالقوانين الإسرائيلية، على أن يجري العمل بها، ابتداء من يوم 30/6/1967.
3) بعد الاحتلال مباشرة، نُقِلَ مقرُّ محكمة الاستئناف العليا من مدينة القدس إلى رام الله، ودمجت محاكم البداية والصلح بالمحاكم الإسرائيلية، لذا صار لزاماً على المواطنين العرب مراجعتها. ولما رفض المحامون والقضاة العرب الظهور أمام تلك المحاكم، أوعزت السلطات الإسرائيلية إلى أجهزتها بعدم تنفيذ قرارات المحاكم العربية.
4) حتى القضاء الشرعي الإسلامي لم يسلم من تدخل السلطات الإسرائيلية، فقد تمَّ تجميد تنفيذ أحكام المحاكم الشرعية، في القدس، والضغط على مسلميها لمراجعة محكمة يافا الشرعية التي تعمل بموجب القوانين الإسرائيلية أو في إطارها، وعلى نحو محدود جداً، بموجب قوانين الشرع الإسلامي.
5) فصلُ جميع القضاة العرب في الضفة الغربية، بما فيها القدس، والطلب ممن يرغب العودةَ إلى مزاولة عمله منهم، تقديم طلب بذلك إلى وزارة العدل الإسرائيلية.
6) ولما احتج عرب القدس على هذه الإجراءات غير العادلة، تجاهلت السلطات الإسرائيلية احتجاجهم، وأصرت على إجراءاتها في هذا المجال. كما شمل تجاهلها قرارات وأعمال المحاكم الشرعية الإسلامية، بما فيها: شهادات الزواج، وقرارات الطلاق والإرث والوصاية والوقف وغيرها، مما يتعلق بالأحوال الشخصية والمدنية للسكان العرب، الأمر الذي أدى إلى تعقيدات وإشكالات إنسانية كثيرة.
سادساً، تهويد التعليم العربي:
من أبرز ألوان العنف والإرهاب اللذين مارستهما إسرائيل وما تزال ضد العرب في أراضيهم المحتلة، منذ عام 1948 إلى الآن، ذلك الذي مارسته في مجال التعليم والثقافة، حيث يبرز بشكل صارخ الاضطهاد الفكري والثقافي والتعليمي دليلاً لا لبس فيه على عنصرية إسرائيل وقسوتها البالغة ضد العرب الذين حوَّلت حياتهم، تحت نير احتلالها، إلى جحيم لا يطاق، بغية دفعهم إلى الرحيل عن وطنهم فراراً من هذا الجحيم. وفيما يلي إطلالة على أبرز الإجراءات التي اتبعتها لتهويد التعليم العربي، في القدس الغربية أولاً، ثم في الشرقية التي احتلتها عام 1967.
أ) تهويد التعليم في القدس الغربية المحتلة 1948
منذ أن دخل الاحتلال القدس الغربية، عام 1948، سارعت سلطاته إلى تغيير البرامج التعليمية، في المدارس العربية، بمراحلها كافة، وذلك بسبب اختلاف التوجهات والأهداف والقيم والمثل والحقائق المتضمَّنَة في الكتب العربية، وبين أهداف الاحتلال الإسرائيلي.
ومن منطلق هذا الخلاف الذي مازال مستمراً، أخضعت وزارة المعارف الإسرائيلية لسيطرتها التعليمَ في الأراضي العربية المحتلة عام 1948، منذ أن أصدرت قانون التعليم الإلزامي عام 1949، ثم قانون التعليم الرسمي عام 1953. وقد شملت هذه السيطرة مناهج المدارس العربية وكتب التدريس فيها وإدارتها ومصادر تمويلها. وهو ما يعني أن كتب التدريس في مدارس التعليم العربية الحكومية في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية المحتلة قد أعدها وأشرف على تأليفها مختصون صهاينة، فكان طبيعياً أن يكون مضمونها منسجماً مع توجهات الصهيونية وتطلعاتها وأهدافها، ومضاداً لأهداف القومية العربية أو القيم الإسلامية.
ب) تهويد التعليم في القدس الشرقية المحتلة 1967
مباشرةً، بعد احتلالهم القدس الشرقية، وضع الإسرائيليون يدهم على ما كان فيها من مدارس حكومية عربية، لم يكن يتجاوز عددها، آنذاك، ثلاثين مدرسة. كما استبدلوا بمناهج التدريس العربية المعتمدة فيها مناهجهم التدريسية المليئة بالكثير من مصطلحات الصهيونية ومقولاتها من مثل: "أرض الميعاد"، و"تحرير فلسطين من العرب" وغيرهما من المقولات الهادفة إلى إيهام طلابهم بأن فلسطين هي "أرض اليهود"، منذ القدم، وأن "العربَ دخلاءُ عليها، متخلفون، وأعداء للحضارة"، وقد عاد اليهود الصهاينة إلى "أرض الأجداد" ليكونوا "طليعة القيام برسالة حضارية في المنطقة". بل إن تمادي سلطات الاحتلال في سعيها إلى طمس أي أثر للطابعين العربي والإسلامي في مناهج التدريس التي فرضتها على المدارس العربية، في سائر مدن الضفة الغربية المحتلَّة، وبضمنها القدس، ذهبت إلى حدِّ إلغاء بعض مواد التدريس العربية من تلك المناهج، إلغاء تاماً، لتحلَّ مكانها أخرى صهيونية المضمون، إسرائيلية الأهداف، عبرية اللغة. وفيما يلي إطلالة على نماذج لتلك المواد ومضامينها.
أولى المواد التي ألغتها سلطات الاحتلال، من مناهج التدريس العربية، في القدس وغيرها من مدن الضفة، كانت مادة "المجتمع العربي" التي أحلت محلها مادتي "مدنيات إسرائيل" و"المجتمع الإسرائيلي"، بكل ما تتضمنانه من حديث لا يهم الطالب العربي مطلقاً، لتمحوره حول تأسيس إسرائيل ونظام الحكم فيها، وحول أحزابها ومؤسساتها.
كما اتبعت نفس الإجراء في مادة "التاريخ" أيضاً، حتى صار ما يدرسه الطالب العربي، في هذه المادة، محض تزوير صهيوني لتاريخ المنطقة وشعوبها ككل، وليس لتاريخ فلسطين فقط. وهذه حقيقة يؤكدها أي استعراض عابر لأي كتاب تاريخ مدرسي إسرائيلي. فعلى سبيل المثال، يعالج كتاب التاريخ المقرر على طلاب الصف السابع الإسرائيلي، موضوعات تخصُّ الشعوب القديمة التي عاشت، في حوض البحر المتوسط، فيأتي على ذكر البابليين والآشوريين والفرس وأبناء إسرائيل والإغريق والرومان، لكنه يخلو من أي إشارة للعرب، تفيد أنهم كانوا ذات يوم من الشعوب القديمة التي عاشت في هذه المنطقة، وكأنما لم يكن لهم أي وجود فيها، طيلة القرون الماضية! أو كأن الذين يشكِّلون غالبية سكانها، في العصر الراهن، ليسوا عرباً، أو ليسوا بشراً بل مخلوقات هبطت فجأةً من كوكب آخر، في غفلة عن المؤرخين الصهاينة طبعاً، واختارت العيش في هذه البقعة، دون غيرها، لسبب غير واضح!
وبشكل عام، تُبيِّن معطيات استقراء مناهج التاريخ التي تُدرس للطلاب العرب، في مختلف مراحل دراستهم، في المدارس العربية الخاضعة للاحتلال، أنهم يتعلمون في هذه المناهج (60%) عن التاريخ العام، و(21%) عن تاريخ اليهود، و(19%) فقط عن تاريخ العرب. ولكن حتى هذه النسبة الضئيلة لما يتعلمونه عن تاريخهم، مليئة بالتزوير والافتراءات التي يأتي في مقدمتها خلو جميع تلك المناهج من أي ذكر لتاريخ فلسطين وشعبها!
ولاستكمال عملية التزوير والتشويه هذه، لابد من مقارنة ما تتضمنه مناهج التاريخ التي تُدرَّس للطلاب العرب، مع مناهج التاريخ المخصصة للطلاب الإسرائيليين. ففي هذه الأخيرة نجد أن (55%) منها مخصص لتاريخ اليهود والصهيونية، و(45%) للتاريخ العام، و(1.5%) فقط لتاريخ العرب الذين تُقدمهم هذه المناهج للطالب الإسرائيلي في صورة مشوهة تماماً، وضمن وقائع تاريخية مزورة في غالبيتها، إذ تصورهم (قتلة أطفال) و(مخربين) و(همج لا يفهمون إلا لغة القوة).
وبهدف تفتيت الوحدة الثقافية والقومية للشعب العربي الفلسطيني، أعدت سلطات الاحتلال مناهج تاريخ خاصة للدروز، تُبرزهم وكأنهم (طائفة دينية قومية) منفصلة عن القومية العربية وعن الإسلام في آن واحد. وقد شرعت في تدريس هذه المناهج لهم ابتداء من العام الدراسي 1974 – 1975.
أما في "كتب الجغرافيا" المقررة للمرحلة الثانوية، فيجد الطلاب العرب المضطرون لدراستها، في مدارسهم الخاضعة للهيمنة الإسرائيلية، كلَّ ما لا يهمهم عن الاستيطان والمستوطنات والكيبوتسات والموشافات والمدن ومدن التطوير الإسرائيلية، مع خرائط تشير إلى مواقع كل تلك النماذج الاستيطانية وعددها. لكنه لا يجد في هذا الكتاب، أي ذكر أو نموذج لقرية عربية في فلسطين، بطولها وعرضها!
وحتى في "كتاب البيولوجيا" للصف السابع، يقرأ الطلاب العرب في مدارسهم المستولى عليها إسرائيلياً، موضوعاً عن المياه وأهميتها بالنسبة لجسم الإنسان، يستهله مؤلفه برواية عن مجموعة من جنود (البالماخ) يتناولون طعامهم في جو الصحراء الحار، أما العرب أهل الصحراء الحقيقيون، في هذه المنطقة، فلا أثر لهم في الكتاب!
ولأن مواد المناهج الإسرائيلية كلها مؤلفة بالعبرية أصلاً، كان من قبيل تحصيل الحاصل أن يضطر الطلاب الفلسطينيون لتعلُّم العبرية وإتقانها بدلاً من إتقان العربية/لغتهم الأم، ليتمكنوا من متابعة دراستهم، في سائر مراحلها. ولا قيمة لغوية أو علمية خاصة للكتب العربية المقررة عليهم فقط، لأن غالبيتها كتب عبرية بالأساس تُرجِمَت إلى العربية، كما يعترف (يوعاد أليعيزر) رئيس منظمة (اندماج) الإسرائيلية التي تعنى بالتعليم المدني المختلط، وبالتالي، لا تختلف مضامينها عن الكتب التي يدرسونها بالعبرية مباشرة، من ناحية كونها مجرد (كتب دراسية اُعدَّت وقولبت خصيصاً لتلائم المدارس العبرية وطلابها الإسرائيليين).
ونظراً لعدم تآلف الطلاب العرب مع هذه الكتب، سواء درسوها مترجمةً إلى العربية أو بالعبرية، لعدم ملاءمة مضامينها لهم، كما يعترف (يوعاد) نفسه، فقد أضرَّ إكراههم على دراستها بقدرتهم على التفوق، كما يقول، وحرمهم بالتالي، من إمكانية متابعة تحصيلهم العالي.
وبالتأكيد، لم تكن هذه النتيجة السلبية السببَ الوحيد لنفور الطلاب العرب من المناهج التي فَرَضَت إسرائيل دراستها عليهم، بعد احتلالها لبلادهم، فثمة أسباب أخرى كثيرة لنفورهم الذي لم يكن، بدوره، السبب الوحيد لانزعاج إسرائيل من عجزِ مناهجها عن تهيئة أولئك الطلاب نفسياً للقبول باستمرارية احتلالها لأراضيهم، بل كان السبب الأهم لانزعاجها اكتشافها أن إكراه الطلاب العرب على دراسة تلك المناهج قد أدى إلى نقيضِ ما رجته، أي إلى زيادة رغبتهم في التحرر من نير احتلالها.
على أي حال، لم يكن تغيير مناهج التدريس العربية الأسلوبَ الوحيد الذي اتبعته إسرائيل، لتهويد التعليم العربي، في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية المحتلة، بل اتبعت سلطات الاحتلال أساليب أخرى، في هذا المجال، كان من أبرزها تضييق الخناق على المعلمين العرب، باعتقال بعضهم، وإبعاد آخرين منهم لاستبدالهم بمعلمين ينفذون سياستها، أو بمعلمين غير أكفاء، لإضعاف المستوى الثقافي والتعليمي في أوساط الطلبة العرب.
وبالطبع، قوبلت هذه الإجراءات وأمثالها برفض شعبي واسع، واجهته سلطات الاحتلال بإجراءات قمعية ضد جميع المعلمين والطلبة العرب، لكن إجراءاتها تلك لم تستطع وقفَ تحديهم لها، بأساليب غير مباشرة، كان من أبرزها انصـراف كثيرين من طلاب القدس عن المدارس الحكومية إلى المدارس الخاصة والطائفية، لأن إسرائيل لم تفرض عليها مناهجها التدريسية، منذ بداية الاحتلال، بل سمحت لها بالاستمرار في تدريس المنهاج الأردني، بعد إجراء تعديلات كثيرة عليه. وللاستفادة من هذا الامتياز التي تمتعت بها المدارس الخاصة، نقل كثيرون من مواطني القدس العرب أولادهم إليها، على الرغم من رقة أوضاعهم المالية، فضلاً عن أن طاقتها لا تستوعبهم جميعاً، وهو أمر بديهي لأن عددها، آنذاك، كان أربع عشرة مدرسة فقط، أي أقل من نصف عدد المدارس الحكومية.
وفي محاولة منها للالتفاف على ردِّ الفعل العربي هذا الذي أدى إلى تضخم أعداد التلاميذ العرب، في المدارس الخاصة، وفي كلِّ المراحل الدراسية، أصدرت سلطات الاحتلال، سنة 1969، قانوناً أسمته (قانون الإشراف على المدارس)، نُشر في مجلة القوانين الإسرائيلية، العدد رقم /654/ بتاريخ 17/7/1969، وتقرَّر العمل بموجبه اعتباراً من 17/1/1970. والقانون، في مجمله، مجرد حلقة من حلقات سياسة تهويد القدس، لأنه يستهدف الإشراف الكامل على جميع مدارس القدس، حتى الطائفية والخاصة منها، كما يفرض عليها وعلى أعضاء الجهاز التعليمي فيها، الحصول على رخص إسرائيلية تجيز لهم ولها الاستمرار بممارسة المهنة، كما يفرض عليهم القبول بإشراف إسرائيل الكامل على مصادر تمويل هذه المدارس، والقبول بما تطلبه وزارة المعارف الإسرائيلية من تعديل على المناهج الأردنية التي كانت تُدرَّس في مدارس القدس وغيرها من مدن الضفة، قبل الاحتلال.
وقد تمَّ التعديل فعلاً... ومن خلال استقراء متمعن للتعديلات التي أدخلها الإسرائيليون على مناهج المدارس الخاصة في القدس، يتبيَّن أن الهدف الرئيس لتلك التعديلات، كان طمس الهوية القومية للطلبة العرب وسلخهم عن تراثهم وتاريخهم. وهذا معطى يؤكده استعراض ما تمَّ حذفه من "الكتب العربية المعدلة"، في إطار ما سُمي "عملية تنقية الكتب العربية". فقد حُذف من تلك "الكتب المعدلة" جميع الفصول التي تتحدث عن الاستعمار وأثره على الوطن العربي، وعن كفاح الشعوب عموماً، والعربية خصوصاً، ضد الاستعمار. كما استبدلوا كلمة فلسطين بكلمة إسرائيل. وفي مادة الأدب العربي، طال الحذفُ كلَّ القصائد التي تتحدث عن فلسطين واللاجئين، من مثل قصيدتي (يافا) للجواهري، و(الحبشـي الذبيح) لإبراهيم طوقان وغيرهما.
ونتيجة لتغيير مناهج المدارس الحكومية العربية والتعديلات التي أجرتها سلطات الاحتلال على مناهج المدارس الطائفية والخاصة، لقي الطلاب العرب عنتاً شديداً، وفشل كثيرون منهم في اجتياز امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة، مما زاد انصرافهم عن دراسة المناهج الإسرائيلية ونفورهم منها. فما كان من سلطات الاحتلال، وضمن مناورة مفضوحة، إلا أن أعلنت، خلال العام الدراسي 1976/1977، تراجعها عن تطبيق المنهاج الإسرائيلي على جميع مراحل الدراسة، واكتفت بالمرحلة الابتدائية، سامحةً لما يليها من مراحل بتدريس المنهاج الأردني المعدَّل. ولم يكن هذا التصـرف دليل حسن نية إسرائيلية تجاه العرب، بل كان مجرد مناورة، لأن الطلبة العرب الذين سينهون دراستهم الابتدائية، وفق المنهاج الإسرائيلي، سيواجهون منهاجاً مختلفاً، في المراحل الأعلى، مما سيؤدي إلى إخفاقهم، ومن ثمَّ اضطرارهم إلى التوجه طوعاً للمدارس الإسرائيلية.
وبعد، فكما هو واضح من استقراء مجموع الإجراءات السابقة أن السلطات الإسرائيلية سعت، من وراء محاولاتها لتهويد التعليم العربي، إلى استبعاد كل ما يحتاجه المواطن العربي في القدس قومياً، لفصم عرى ارتباطه بأرضه وشعبه وتاريخه وتراثه وثقافته العربية الأصيلة، تمهيداً لإزالة خصوصية شخصيته العربية الأصيلة. لكن، وكما أثبتت النتائج، أخفقت كل هذه الإجراءات في النيل من صمود الإنسان العربي وقدرته على مواجهة المتغيرات التي فرضها الاحتلال على أسلوب حياته، ولاسيما في مجال تربيته لأجياله القادمة.
سابعاً، تهويد الثقافة
المقصود بمصطلح الثقافة، في هذا السياق، الأدب والفن والصحافة والتراث، وكل نشاط إنساني مماثل يساهم في التعبير عن حياة الشعوب التي تنتجه، بإيجابياتها وسلبياتها، بأي شكل فني سواء كان مقالة أو قصة أو قصيدة أو مسرحية أو فيلماً سينمائياً أو ما شابه. وفي كل وقائع التاريخ الإنساني، تبدو ثقافة الشعب الذي يتعرض لهجوم عسكري يفضي إلى احتلال وطنه، هي الحصن الأخير والأكثر مناعة، ببقائه قد يستطيع ذلك الشعب إعادة بناء جيل جديد يصنع التحرير، وبسقوطه ربما يفقد الأمل بالخلاص. ولذلك يركز كل الغزاة على إسقاط حصن الثقافة في البلد الذي يجتاحونه بجيوشهم، لإطالة أمد بقائهم فيه، فإن عجزوا، اضطروا لمغادرته سريعاً. ومن هذا المنطلق سعت قوات الاحتلال الإسرائيلي في وقت مبكر إلى القضاء على معظم معالم الثقافة العربية في كل مدن وقرى فلسطين، منذ 1948، وفي مقدمتها القدس بشطريها. وستُلقي اللمحة التالية بقعة ضوء على اثنين من أبرز الإجراءات التي اتبعتها إسرائيل، لتقويض حصن الثقافة العربية، وإحلال ثقافة الخضوع مكانها، وكيف فشلت في هذا المجال بالذات فشلاً ذريعاً.
1) إجراءات الحصار الثقافي
كانت أبرز مظاهر هذا الحصار وما تزال، الرقابة الشديدة على الكتب التي تُنشَر داخل فلسطين المحتلة بالعربية، أو تلك التي يتم إدخالها من الأقطار العربية والمؤلَّفة بأقلام أدباء عرب غير فلسطينيين، أو حتى بأقلام أدباء غير عرب. فمن المأثور في هذا المجال، قيام سلطات الاحتلال بمنع أي كتاب يمكن أن تشتَمَّ منه عداء ضد الاحتلال أو تحريضاً على مقاومته وترغيباً في التحرر منه، ولو بشكل غير مباشر. والذريعة التي تُسوِّغ بها منع أي كتاب من هذا النوع صاغتها بعبارة باتت مأثورة لكثرة تردادها واستخدامها، وهي (كتاب تحريضي). بالمقابل، تسمح سلطات الاحتلال بدخول أي كتاب، وبأي لغة، إذا كان ينشر ثقافة المهادنة والاستسلام، أو ثقافة الانحلال الخلقي والإباحية وما شابه.
وحسب العديد من المعطيات، يبدو نصيب مدينة القدس وسكانها العرب، هو الأوفر في مجال التعرض لهذا الحصار الثقافي، خوفاً من أن يتمكن كتابٌ ما من تحريض على ثورة أو ترغيب في تحرير.
2) اضطهاد الأدباء الفلسطينيين بالملاحقة والنفي والسجن والإقامة الجبرية
وهو أسلوب شائع في كل تجارب الاستعمار، ولاسيما الاستيطاني الذي يخطط لعدم مغادرة البلد الذي احتله، لأنه يجد في الأدباء والصحفيين والفنانين ورجال الفكر والكلمة عموماً، أعداء حقيقيين له، يحاربونه بالكلمة والصورة، فيعمد إلى القسوة البالغة في معاملتهم لإجبارهم على الصمت اختياراً خوفاً منه، أو غصباً بكمِّ أفواههم بطرق لا شرعية في أغلب الأحيان.
وبالعودة إلى سجل الاحتلال الإسرائيلي وممارساته في هذا المجال، سيجده من أكثر المستعمرين قسوة وغلظة في التعامل مع الأدباء والصحفيين والفنانين الفلسطينيين. فقد تعرض أكثرهم لتجربة السجن والإقامة الجبرية لمدد طويلة، أو للنفي والإبعاد. كما تعرضت كتبهم للمصادرة ومنع التداول، كما تعرضت الصحف والمجلات الفلسطينية، في الأراضي المحتلة، على قلتها، للإغلاق والمصادرة ودفع الغرامات الباهظة.
لكن، يتضح من استقراء نتائج هذه الإجراءات التي مارستها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على المثقفين الفلسطينيين، أنها لم تُؤتِ أُكلها المرجوة، بأن تُثمر تهويداً للثقافة العربية في مدن فلسطين وقراها، بل ربما من المثير للدهشة أن نجد الثمرة التي طرحتها تلك الإجراءات كانت على النقيض، إذ استطاعت الثقافة العربية التأثير بشكل واضح في المثقفين الإسرائيليين الذين لم يُخفِ بعضهم إعجابه بإبداعات بعض الأدباء الفلسطينيين. والمثال الأكثر بروزاً على هذه النتيجة الشاعر محمود درويش الذي لم تُترجَم بعض أشعاره إلى العبرية فحسب، بل تم إدخال بعضها في بعض كتب التدريس الإسرائيلية أيضاً. [/ALIGN][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;"][CELL="filter:;"][ALIGN=justify]مصادر البحث ومراجعه:
كتب:
1) جواد الحمد، (القدس عبر التاريخ.... العربي الدائم واليهودي الطارئ)، إصدار مركز دراسات الشرق الأوسط، عمّان، 2000.
2) حبيب قهوجي/إشراف، (إستراتيجية الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة)، منشورات الطلائع بالتعاون مع مؤسسة الأرض، الطبعة الأولى، 1978.
3) روحي الخطيب، (تهويد القدس)، الكتاب الأول.
4) روحي الخطيب، (تهويد القدس)، الكتاب الثاني.
5) عبد العزيز محمد عوض، (الأطماع الصهيونية في القدس)، الموسوعة الفلسطينية، المجلد /6/، 1990.
6) كتاب "القدس 1998"، إصدار الجهاز الفلسطيني للإحصاء المركزي، كانون الأول 1999.
7) محاضر الكنيست 1966/1967، مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية بالأهرام، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، القاهرة، 1971.
8) مصطفى مراد الدباغ، (بلادنا فلسطين)، الجزء العاشر، القسم الثاني.
9) موطي غولان، (القدس في نظر الصهيونية)، ترجمة: جواد الحصري، رام الله، منشورات وزارة الإعلام الفلسطينية، 1996.
10) Bachi Roberto, The Population of Israel, The Hebrew University of Jerusalem, Jerusalem 1977.
صحف ومجلات عربية وإسرائيلية:
1) الاتحاد الحيفاوية، 21/1/1985.
2) الاتحاد الحيفاوية، 5/3/1985.
3) الأرض، العدد /2/، 7/10/1980.
4) الأرض، العدد /3 و 4/، 7/11/1980.
5) الأرض، العدد /7/، 21/12/1980.
6) الأرض، العدد /2/، 7/10/1982.
7) الأرض، العدد/2/، 7/10/1982.
8) الأرض، العدد/11/، 21/2/1983.
9) الأرض، العدد /19/، 21/6/1983.
10) الأرض، العدد /8/، 7/1/1984.
11) الأرض، العدد/8/، 7/1/1984.
12) الأرض، العدد/18/، 7/6/1984.
13) الأرض، العدد /3/، 21/10/1985
14) الأرض، العدد /11/، 1/11/2008.
15) الأسبوع العربي، 2/5/1982.
16) الأسبوع العربي، 3/5/1982
17) تشرين، 29/1/1983.
18) دافار، 9/5/1975.
19) دافار، 1/8/1980
20) دافار، 1/1/1981.
21) دافار، 6/2/1983
23) الدستور، 25/11/1971.
24) الدستور، 26/6/1979.
25) الدستور، 22/5/1981.
26) الدستور، 7/9/1981.
27) السفير، 17/4/1982.
28) عل همشمار، 6/7/1978.
29) عل همشمار، 27/5/1980.
30) عل همشمار، 26/1/1981.
31) الفجر، 17/10/1975.
32) فلسطين، (هـ - ع – ع)، أيار، /1981/.
33) القدس، 17/3/1970، تصدر داخل فلسطين المحتلة.
34) القدس، 16/3/1981، تصدر داخل فلسطين المحتلة.
35) معريف، 9/2/1982.
36) معريف، 18/8/1983.
37) معريف، 30/5/1984.
38) هآرتس، 19/5/1978.
39) هآرتس، 24/10/1978.
40) هآرتس، 19/11/1978.
41) هآرتس، 30/11/1978.
42) هآرتس، 14/1/1980.
43) هآرتس، 21/1/1980.
44) هآرتس، 1/8/1980.
45) هآرتس، 25/2/1981.
46) هآرتس، 6/3/1981.
47) هآرتس، 6/8/1981.
48) هآرتس، 4/1/1982.
49) هآرتس، 13/2/1982.
50) هآرتس، 3/6/1984.
51) هتسوفيه، 31/7/1980.
52) هتسوفيه، 31/7/1980
53) هتسوفيه، 6/1/1982.
54) يديعوت أحرونوت، 6/6/1977.
[/ALIGN][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|