المترجم
المترجم
إلينا ألكسييفا
ولدت الأديبة إيلينا ألكسييفا عام 1975 في العاصمة صوفيا، أنهت دراستها العليا في العلاقات الاقتصادية الدولية في جامعة الاقتصاد في صوفيا، حازت على شهادة الدكتوراه في السيميائية في جامعة بلغاريا الجديدة حيث تعمل كأستاذ محاضر ومترجم للغة الإنجليزية. صدر لها ديوان شعر بعنوان "مشنقة للقلب" عام 1994، "وجه للملاك الجلاد" عام 1996. ورواية "السلّم الأزرق" عام 2000 وغيرها من المجموعات القصصية والروايات. حازت على جائزة الآداب لسلسلة مكتبات "هليكون" عام 2006. ترجمت أعمالها للعديد من اللغات الأجنبية.
ЕЛЕНА АЛЕКСИЕВА
ПРЕВОДАЧЪТ
شعر برائحة العفونة والتلف حين دخل الغرفة للمرّة الأولى. رأى صدعًا عميقًا واسعًا يمتدّ في السقف، يتوجّه طوليًا نحو أحد الجدران. شعر بالغثيان، كيف يمكنه البقاء في هذا المكان طوال يومين؟ لو كان على علمٍ بأنّه سيعمل في مثل هذه الظروف الصعبة لرفض، وعليه ربّما المطالبة برفع أجره، لكنّه بات الآن غير قادر على القيام بأيّ شيء، لأنّهم دفعوا له أجره مقدّمًا وهو رحّب بالمال، مع أنّه عادة لا يستعجل الأمور بهذه الطريقة.
نظر إلى الأدوات المتراكمة فوق مسطّح ضيّق من الخشب المضغوط، مرتكزًا تحت نافذة صغيرة، من المتوقّع أن يراقب من خلالها الصالة. بدت الأضواء الحمراء والخضراء دون حياة، ومن حوله طبقة كثيفة من الغبار، تغطّي نقوش وعلامات الشركات المحفورة على العلب الفضية السوداء، حتّى الرؤوس الدقيقة للبراغي التي مكّنت هذا المركّب المفبرك العجيب من الصمود والبقاء كوحدة متكاملة، فقدت جاذبيتها ولمعانها وقد دفنت تحت قبَعاتها المغبرّة. الميكرفون الرفيع ذو الساق الدقيقة الملتفّة المنتهي بكرة سوداء ملفّعة بنسيج إسفنجي، كوردة عجيبة مذهلة، يبدو وحيدًا دون معنى. مدّ يده ليقوّم اعوجاجه، لكنّه عدل عن ذلك لتخفيف العبء عن نفسه، وتركه في هيأته المنحنية الغارقة في السوداوية. أعجبته حالة السبات الكئيبة للأجهزة على أيّة حال. الكوابل تلتفّ حول نفسها وتمتدّ، دون أن يتبيّن أين تبدأ وأين تنتهي، أيّ كابل يلتقي ويتوافق مع الآخر، وفي أيّ منها يسري التيار الكهربائي. تذكّر كيف حصل على هدية في صغره، عبارة عن كتاب للصغار يوضّح عمل التيار الكهربائي، وفي تلك اللوحات الملوّنة القبيحة، رُسمت الإلكترونات كحبيبات بازيلاء كبيرة، بعيون وأفواه وأنوف وأيدي، وحين يجري التيار الكهربائي تمسك حبّات البازيلاء بأيديها، وحين ينقطع تتحرّر الأيدي. تصوّرها بنفس الطريقة، منغلقة تلتفّ وتدور تحت الغلاف الجلدي الأسود للكوابل، لكنّ الإلكترونات تبدو الآن نائمة، واضعة أيديها الصغيرة على بطونها المستديرة، وشفاهها مرتخية ورموشها نادرة، تاركة ظلّها فوق وجناتها. ظلال يمكن رؤيتها تحت المجهر فقط.
جلس على الكرسيّ الخشبيّ غير المريح ونظر من خلال النافذة. الصالة تجثم صامتة في شبه العتمة، وبان أثر الظهور الغامقة في صفوف المقاعد. إضافة لذلك، رفعت منصّة مهيبة للخطيب على خشبة في منطقة سويّة في العمق. تدرك البقعة الباهتة لشاشة العرض البيضاء، كيف ستنير أجسام الإضاءة خلال دقائق، ستفتح الأبواب وسيدخل الجمهور بجماعات صغيرة، اثنان وثلاثة بوجلٍ في البداية، ثمّ سترتفع وتائر الوافدين باحثين بضجّة عن مقاعدهم. يبحثون بين أرقام المقاعد، يتبادلون الحديث بصخب ويُسمع صوت صرير المقاعد عند جلوسهم، تتراجع موجات أحاديثيهم الثنائيّة حتّى تنقطع تمامًا. يصعد الخطيب إلى المنصّة ويسمع صوت صرير الباب المزعج، وسط الصمت الصاعد المخيّم خلف المتأخّرين. يعرف جيّدًا المراسم أفضل بكثير ممّا يعرف نفسه، فقد شهدها في يقظته لمئات المرّات، وشهدها أكثر من ذلك في أحلامه أيضًا. لكنّه دومًا يتفاعل مع خطاب الرجل الاحتفاليّ، الذي يستثيره بمظهره المغرور البريء. يتوقّع دومًا اقتحام زرافات من النساء المتبرّجات باكسسوارات وأقنعة وباروكات ملوّنة فاقعة، وعازفون إيقاعيّون، يرتدون ملابس ذهبية حمراء، لإحياء حفل موسيقيّ باهر. لكن حتّى وإن حدث كلّ هذا أمامه، لن يسمع نبرة أو صوت واحد، قبل أن يشغّل الميكروفون أمامه.
جلس في نور المكان الباهت صامتًا بانتظار البدء بالترجمة، متعلّقًا بحديث الخطيب كما تتعلّق الدمية بمالك ووليّ أمر خيوطها، لكن الخيوط التي تمثّل الحركة، تشدّ وعيه وملكة نطقه، بدلا من شدّ يديه ورسغيه. كان متعلّقًا به حتّى قبل أن يراه، ويبقى على وفائه له وقتًا طويلا بعد ذلك. تداخلت حياتهما كفرعي نهر ممتلئ لفترة من الزمن بسبب هذه العلاقة العضوية، يسيران بنفس الاتجاه وبسرعة متماثلة، متسلّحان بصخب واحد، ليشكّلا دوّامة ثقافية متجانسة، يتفكّران ذات الوقت، ثمّ ينطقان نفس الكلمات، وهكذا ما أن ينتهي الأول حتّى يقدّم للآخر حبل الأفكار لمتابعة الحديث. تتدفّق المعلومات إلى رأسه، واضحة ثابتة غير مشروطة، ويقوم هو على الفور بتقطيعها لثوانٍ بل ولأجزاء من الثانية، يجد المرادفات لكلّ دفقة صوت واستراحة، يعمل على تركيبها ثانية، يرتقي بها قطعة قطعة، حتى جوهر الفكرة الشفّاف، ليصرّح بها بصوته وسط الشرفة المغلقة غير المريحة، كأنّه يتحّدق وحيدًا مع نفسه. ثمّ يفرغ رأسه تمامًا، الأفكار الغريبة تمسح أفكاره الخاصّة وتستقرّ في وعيه، وبعد تكرارها تستمرّ تدور في مخيّلته وضيعة، عديم الأهمية كبقايا تحطّم مركب.
أحيانًا يستدير أحدٌ ما في الصالة، وينظر من خلال النافذة نحوه، في البداية كان يشعر بالضيق ويغضب، يشعر بأنّ اللفتة علامة على عدم إتقانه لعمله، يحسّ وكأنّه سلعة معروضة خلف فترينا، وتمتلكه رغبة بمدّ لسانه، أن يكون فظًا فهو لا يملك سوى هذه النافذة، وفي الوقت نفسه قادر على تثبيت ونقض حقيقة عزلته، لأنّ النافذة ملكه بالكامل، ينظر من خلالها وقتما يشاء دون رادع، ويتعامل في الوقت نفسه بألم وعدوانية، مع كلّ الذين يحاولون استراق النظر إليه، يعتبر ذلك دعوة لخوض معركة، دون أن يمتلك الحقّ بالردّ على ذلك. تعوّد مع مرور الوقت على تلك الممارسات الفضولية المسيئة. يشعر أحيانًا بالراحة لتخلّيه عن مشاعر الوحدة، يحاول أن يتخيّل السبب الذي حثّ الشخص الذي يضع جهاز الترجمة المحمّل بسمّاعات مثيرة للضحك ببروزها حول الأذن للنظر إليه، كأنّه يسأل أو يتّهم، هل يدرك بأنّه يفعل ذلك؟
والآن، ينفتح باب الصالة، وفي عمق بقعة الضوء على الأرض يتحرّك ظلّ رجل، دام للحظة ثمّ اختفى في حزمة الضوء القوية، دخل الجمهور إلى الصالة وضغط الرجل على زرّ أحمر صغير كما أشار عليه المعنيون. أضاءت الأجهزة للحظة بكلّ طاقتها وارتدّت مؤشّرات الأجهزة، ثمّ عادت إلى الوراء قليلا وانطفأت معظم المجسّات الإلكترونية. امتدّت يده وأضاء لمبة الغاز النيوني فوق النافذة. ومض الضوء للحظة ثمّ غمر فضاء الحجرة بوهج المشافي. وضع السمّاعات على أذنيه، تشدّ أطرافها قليلا بطانة إسفنجية، ينظر من خلال زجاج النافذة أمامه. يملأ ضجيج السماعة رأسه كهالة لوهلة من الزمن، تُدخلُ هذه الفكرة السرور إلى ذاته، وفي الواقع لا وجود لأيّة فكرة بديلة. يشغّل الخطيب الميكرفون أمامه، ويتدفّق ضجيج الصالة إلى عمق دماغه، وهذه إشارة ليشغّل هو الآخر الميكرفون أمامه.
البداية دائمًا صعبة. من الضروري مرور بعض الوقت، ليتمكّن من إدراك وتيرة الحديث، والتأقلم مع النطق وطريقة الإلقاء، ليتقن النبرة المناسبة والمريحة في صوته الذاتي، لحمايته من التأويلات الصوتية الزائدة، وإتاحة المجال لرفع نبرة الحديث أو إبطائها عند الضرورة. بعد خمس دقائق، شعر المترجم كأنّه قارب خرج إلى عمق مياه البحر بسلام بعد أن تراجع القلق والتوتّر. وعيه بجهل الحضور لهويته، يتيح له مزيدًا من هامش الحرية، وإذا دعت الحاجة، يمكنه إخبار الحضور في الأسفل بكلّ ما يخطر بباله، يمكنه حتّى شتمهم. يمكنه أن يتفوّه بكلمات نابية، أو التحدّث بإسهاب عن الكتاب المزيّن بصور الإلكترونات، فالصالة باتت ملكه. شعر بتقمّصه لفكرة عليا إلهية، وإذا قرّر لحظة الصمت والتوقّف عن الترجمة، عندها سيحوّل الحضور في الأسفل لأشباه بناة برج بابل وهو وحده المخلّص، هو همزة الوصل ما بين المتحدّث والمستمع والقادر على تحويل الخطيب إلى شخصية مميّزة، والآخرين لمجرّد حضور ومستمعين دون حول أو قوّة.
هذه المرّة لا تختلف أبدًا عن سابقاتها، بل تمكّن من إدراك وتيرة الحديث بسرعة أكبر، واستعاد هدوءه تدريجيًا. ما يزال يستمع لكلمات المحاضر، يستوعبها في وعيه محاولا فهم كنهها، سواءً وافق على مضمونها أو رفضها، وبعد قليل ستتم أتمتة كلّ هذا وسيغلق تقنيات الفهم، ليبدأ استخدام وعيه بصورة جلية، كأنّه جهاز تقليدي للترجمة، وكان على وشك التوقّف عن القلق بشأنه الخاصّ. يشعر بالسعادة دومًا حين يلغي نفسه، يفعل ذلك بارتياح ويبدو مسرورًا لإتقانه هذه الخاصية ولإدراكه إمكانية إصابته بالجنون إن أحجم. رأسه ويده اليمنى يشكّلان هيكلية غريزية خاصّة، حتّى أنّه لم يشعر كيف ضغط على زرّ وقف عمل الميكرفون لنيل قسط من الراحة، وكيف في الأثناء ينظّف حنجرته من الشوائب، أو يبتلع ما تجمّع في فمه من لعاب. كان الوضع أفضل حين توفّر اللعاب في فمه بكثرة لترطيب جوفه ولسانه، الأمر الذي يتيح له لحظات من الراحة، وبالتالي دقّة فريدة في تنفيذ مهامه. لكنّ الأمر اختلف حين تقدّم في السنّ، وأخذ لسانه يجفّ ويلتصق في جوف فمه العلوي. أخذ يشرب الماء من كأس على جرعات صغيرة في بداية المطاف، ثمّ ارتفعت وتائر شرب الماء، وحين ينتهي مخزون الماء أمامه، يدرك بأنّ مهمته قد شارفت على الانتهاء. ينظر من حوله غاضبًا ولا ماء أمامه!
يتحدّث المحاضر بسرعة أكبر من المعتاد، وهذا أفضل برأيه. ينزلق صوت المترجم في الأثر الذي تركه المحاضر، محافظًا على مسافة ثابتة من نصف جملة. أحيانًا يترك مسافة لجملة كاملة، أو يترجم بالتزامن مع سماع عبارة المحاضر دون أن تضارب، لأنّ الصوت في السمّاعة يكبت حتّى أفكاره الخاصّة. يستمتع بصوته الاعتيادي غير الاحتفالي المنطلق بحرية ما يسمح له بالإبقاء على وعيه الباطني صامتًا، أن يتحدّث دون أن يتفوّه بكلمة واحدة لذاته. ينظر إلى الصالة وفي الواقع لا يرى شيئًا، وتبقى نظراته مثبّتة في نقطة ثابتة في الهواء، يمكن القول بأنّها جزيء ولسبب ما غير واضح تختلف عن الجزيئات الأخرى. يتشتّت ذهنه أحيانًا، ويبدأ بتفحّص الغرفة. كانوا قد أخبروه بأنّه سيعمل في حجرة، لكنّها في الواقع تبدو كبيرة وخالية من سبل الراحة، المتوفّرة عادة في الحجرات ذات الجدران الخشبية المعزولة الصوت، وأرضها مغطّاة بطبقة من الموكيت. الغرفة وسخة ومهملة، وشاهد إلى جوار الجدار وليس بعيدًا عن كرسيه كومة من علب الكرتون والبلاستيك ملقاة كيفما اتفق. شعر بإمكانية سقوطها إذا حاول أن يصلح من جلسته، للحصول على مزيد من الراحة، وكومة العلب مغطّاة بطبقة من الغبار على ارتفاع إصبعين، وعلى الموكيت تحت قدميه آثارٌ من الطين. فجأة أحسّ بأنّ شيئًا ما صغير الحجم ثقيل وبارد قد أصابه في رقبته، جفل وتشنّج، إنّها قطرة من الماء، نظر إلى أعلى ورأى حول الشقّ المتواجد فوق رأسه تمامًا في السقف، كيف تشكّلت بقعة رطبة مبتلّة ومن طرفها لاحت قطرة أخرى، كانت على وشك السقوط فوقه مجدّدًا. شعر بتقزّز مرعب. الله وحده يعرف ما يتواجد في الطابق العلويّ، دورة مياه على سبيل المثال! حاول أن يزيح نفسه قليلا لكنّ صناديق الكرتون مالت موشكة على الانهيار، شعر بالغثيان واضطر تدريجيًا للتوقّف عن التفكير بالبقعة المتواجدة فوق رأسه والتركيز على المحاضر، ولدهشته الكبيرة سرّع الأخير من وتيرة حديثه، وأدرك المترجم بأنّه بات من الصعب مجاراته ومتابعة كلماته منذ عدّة دقائق.
تتدحرجُ الكلماتُ بنبرة وعيد تجاهه، وهو يحاول جاهدًا التقاطها دون أن يسمح لها بالتراكم. في البداية نجح في هذا المسعى، لكنّه وبعد فترة وجيزة، فقد القدرة على السيطرة الذاتية، وأخذ يذوب ويتراجع شيئًا فشيئًا أمام الذعر الذي تملّكه. يتحدّثُ المحاضرُ بسرعة فائضة، باتت تتطلّب منه عدم التنفّس كي يتمكّن من متابعة الترجمة الحثيثة. تراجعت فترات ملء الصدر حتّى الحشاشة بالهواء، ومع ذلك فشل بفتح رئتيه بالكامل، لأنّ وتيرة الكلام لا تسمح بذلك. شعر بالغباء وهو يكافح للحصول على الأوكسجين كالغريق، وفي رقبته تتساقط قطرات الماء اللعينة، رغم أنّه فقد القدرة على استشعارها، مع إدراكه المطلق بقدرته على التوقّف فورًا والهرب من الغرفة، والاختفاء في باطن شخصيته المجهولة. لكن شيئًا ما في أعماقه حال دون القيام بذلك، يدرك بأنّه مجبر على الترجمة حتى النهاية، ليس بسبب مشاعر الكرامة المهنيّة المفرغة، وليس لأنّه يعدّ أفضل المترجمين، لكن بفضل عناده الكبير وإصراره على مواجهة التحدّي الذي أعلنه شخص غير معروف، وعلى الأغلب لن يرى وجهه ولن يعرف اسمه يومًا ما، يا له من رجل سافل وحقير! ألا يعلم بوجود مترجم في أعلى الصالة؟ يستحيل أن يجهل هذه الحقيقة فالآخرون جميعهم على علم بذلك.
فجأة، تذكّر أمر النافذة الصغيرة أمامه، نعم النافذة متواجدة ليس بهدف معالجة رهاب ضيق المكان فقط، بل لتقديم إشارة عند الضرورة. انتهز لحظة تهيّأ له خلالها أنّ المحاضر قد ألقى بنظرة إليه، وسرعان ما أشار له بيده راجيًا أن يبطئ من وتيرة حديثه. كأنّ المحاضر قد رماه بنظرات عابثة ومجدّدًا رفع من وتائر سرعة حديثه. شعر بالغضب لأنّ الوقت لم يعد مناسبًا للمزاح، ربّما لم يره البتّة، وتهيّأ للمترجم أن الخطيب قد وجّه بنظراته نحوه. انحنى تجاه النافذة وأشار للمحاضر ثانية كي يبطئ من حديثه والآن، لا بدّ أنّ المحاضر قد رآه لا محالة، حتّى أنّه بادله نظرة متفهّمة ثقيلة ومطوّلة، دون أن يتوقّف عن الحديث المتسارع. ارتجف المترجم وصفر الهواء في أذنه وحنجرته بصوت خفيض، أمّا الدماء فقد انحسرت منذ وقت طويل من يديه وقدميه المتجمدة، وأخذت تغلي نابضة ككتلة نارٍ في رأسه. تتوفّر لديه إمكانية واحدة فقط وهي الأكثر بؤسًا، مرادفة للانكسار والهزيمة، أن يرجو عبر الميكرفون أيّ شخص من الجمهور، الذهاب والطلب من المحاضر إبطاء وتيرة وسرعة حديثه.
لم يتعرّض لمثل هذا الموقف أبدًا من قبل. تخيّل كيف وعلى حين غرّة ستتردّد همهمته المكتومة، في كلّ الآذان، وفي كلّ زوج من الآذان على حدة. سيتردّد رجاؤه الوضيع طالبًا الرحمة وكلّ الرؤوس ستستدير نحوه، حشدٌ كبيرٌ من الوجوه المستنكرة ستتوجّه نحو النافذة الصغيرة، لتطمره بعلامات التعجّب والأسى، وهو لا يستحقّ هذا العقاب ولا يقوى على تحمّله.
لم يبق أمامه الآن سوى الاسترخاء في مقعده حتّى نهاية المحاضرة، تهيّأ له بأنّ ساعات طويلة قد انقضت والألم يعصر حنجرته، أمّا لسانه الجافّ فيتلوّى ملتصقًا في جوف فمه. يلثغ أحيانًا، ثمّ يتأتئ ويتلكّأ دون أن يتوقّف عن الترجمة. يفشل بممارسة نعمة الاسترخاء رغم محاولاته المتكرّرة، يستدعي السكينة والهدوء لكنّه في الواقع يجلس منكمشًا مرتجفًا على المقعد الصلب، أعصابه متوتّرة لأقصى مدى، وكم يرغب في تلك اللحظة بتفجيرها وتمزّقها، أن يتصاعد منها الدخان، كما يحدث خلال التماس الكهربائيّ، لينهار أخيرًا حرًا فوق الأرض المتّسخة، طبلتا أذنيه تنبض بألم رهيب وقد أصيبت بلوثة من حدّة الصوت، فقد الإحساس بأذنيه المضغوطتين بالسمّاعات بإحكام، وشيءٌ ما داخلهما في عمق الدماغ يحترق مجروحًا.
امتدّت يده ببطء نحو الزرّ المزيّن برسم مكبّر الصوت وأداره قليلا، ثمّ أعاد الكرّة ثانية، استقرّ المؤشّرُ الأبيض عند نقطة الصفر رافضّة التحرّك ثانية. تراجع للحظة فيض الكلام، والأصوات المتراكمة في رأسه، كأنّها قد خرجت من أذنيه عبر السمّاعات والكوابل عائدة إلى الميكرفون تجاه المحاضر، إلى حنجرته اللعينة، التي لا تعرف الكلل، وفوق الأوراق المتناثرة أمامه. تجمّد المترجم، جسده مفرغ وغارق في الصمت. سالت الدموعُ على خدّه، انحدرت بأخاديد غير منتظمة، لتسقط في حجره وعندها استجمع المحاضر صوته من مكانٍ قصيّ وقذف به بسرعة فائقة، ليخترق كيانه أسرع وأسرع بألف مرّة من ذي قبل. اخترقه الصوت من كافّة مسام جلده ومن كلّ فتحات جسده، مزّقه تاركًا من خلفه صوته الخاصّ واستمرّ المترجم.
حديثه مضطرب يخرج من فمه مكبوتًا كأصمّ يحتضر متحشرجًا، تتوه منه الكلمات، تختفي حتّى البديهية منها، تهرب منه، يعجز عن تذكّرها وكأنّ معجمه قد جفّ، يبحث عن المفردات كضرير، يتخبّط في الجمل ومقاطعها المختلفة ويترجمها بمعانٍ أخرى يجهل مغزاها. وحين يفشل بإيجاد الكلمة المناسبة، يتفوّه بأول كلمة تخطر بباله أو يستخدم كلمة أخرى ما، يركّبها للتوّ، لتبدو قريبة من الكلمة الحقيقية التي قد نسيها تمامًا. ينسابُ سائلٌ ساخنٌ ولزجٌ من أذنيه دون أن يشعر به، تلوّنَ طوقُ قميصه بالأحمر. يترجم متلكّئًا في الحديث، وقد أصيب بهستيرية، ولا يتوقّفُ أبدًا فهذه مهنته، ولا يمكنهم أبدًا فهم شيء ما بدونه، سيبقون منغلقين في لغاتهم الخاصّة، وسيأسون وقد يقضون أجلهم، هذا لا يعنيه بالطبع لكنّ الترجمة مهنته فضلا عن أنّهم قد دفعوا أجره مقدّمًا. يدركون جيّدًا عدم قدرتهم على المضيّ بدونه، هو وحده يمتلك المفتاح والخبر الطيّب، تاركين أنفسهم تحت رحمته، تاركين أنفسهم..
لم يتغيّر شيئًا وبقي الوضعُ على هذا المنوال، لم يتغيّر شيئًا، الأمور دومًا على هذا الحال، إنّه مجرّد امتحان صغير ولا شيء سوى ذلك. كيف حدث كلّ هذا؟ أهو الذي يفتقد الإرادة؟ آ، آ، آ. بل يمتلك، يمتلك الإرادة في أقل تقدير، فلتذهب الفكرة إلى الجحيم، المهمّ ألا يتوقّف، ألا يتوقّف، آه، غنّ لي، أريد أن أسمعك تغنّي وحيدًا في هذه الخلية ذات القضبان الفضّية، وحيدًا في هذه الخلية شبه المدمّرة، المطر يهطل، يهطل في كلّ مكان، أحدهم فتح خزّان دورة المياه، حسنًا، هذا غير مهمّ، إنّه مجرّد امتحان صغير للغاية، امتحان. من..أهو؟ آ، آ، آ. هو الذي يفتقد للإرادة، بلى. يمتلك إرادة قويّة وهذه مهنته. أن يسمع الأصوات، ثمّ يتحدّث، ثمّ يتحدّ..
الصالة ما تزال كالعادة تملأ فضاء النافذة. الصالة الفارغة منذ وقتٍ بعيد.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|