11-
تجليات المقدس الأمازيغي في الشعر العربي
قصيدة "سكرة الحب.." لعادل السلطاني نوذجا
نحاول في هذه الورقة مقاربة قصيدة "سكرة الحب" لصاحبها عادل السلطاني، منطلقين في ذلك من مفهوم المقدس. وتحسن بنا الإشارة إلى دلالته قبل المباشرة في استنطاق أبعاد القصيدة، وسبر أغوارها، وقراءة ما بين سطورها، والمضمر فيها.
لقد قادنا البحث في الحقول المعجمية إلى معاني لكلمة "مقدس" منها: "قدس: التقديس: تنزيه الله عز وجل، وفي التهذيب: القدس: تنزيه الله تعالى، ويقال: القدوس الفعُّول من القدس؛ وهو الطهارة، والتقديس التطهير والتبريك، والقدس: السطل بلغة أهل الحجاز؛ لأنه يتطهر فيه، ومن هذا بيت المقدس؛ أي البيت المطهر، أي المكان الذي يتطهر به من الذنوب"1.
وعموما لا تنزاح الدلالة المعجمية لمقدس عن معاني الطهارة والتبريك.
وقبل المباشرة في رصد هذا المقدس في متن القصيدة، سنقف عند العنوان باعتباره العتبة الأولى لهذا الخطاب المكتوب، والمفتاح الأساس الذي سيمكننا من النفاذ إلى معاني النص .
جاء عنوان هذه القصيدة مركبا إضافيا، "سكرة الحب"، وكلمة سكرة، تحيلنا، في عمومها ،إلى فعل الخمرة في الأبدان، إلا أنها، هنا، تخرج عن هذا المعنى إلى معنى آخر، أفاده إضافة كلمة حب المعقولة إلى كلمة سكرة المعقولة بدورها، ولا شك أن الأشياء اللامحسوسة لا تكون أحادية الدلالة. ومن خلال هذا العنوان الانزياحي نستطيع أن ننزاح قليلا عن هذا الواقع القائم المعيش لنستحضر تاريخ تلقينا الشعري الذي يمثل نقطة التقاء الإفصاح بين خمرة السلطاني، وخمرة أبي نواس الذي يقول:
ألا فاسقني خمرا، وقل لي: هي الخمر = ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
فما الـعيش إلا سكرة بــعــد ســـكـــرة = فإن طال هذا عنده قـصر الدهر
2
تتقاطع سكرة عادل السلطاني مع السكرة النواسية؛ إذ السكرة الأولى قد جاءت نكرة، لتفيد العموم، وعدم التحديد، إلا أن الشاعر حددها، وحصرها بطريقة أخرها؛ حين أضاف إليها كلمة الحب، التي جاءت معرفة لتفيد التخصيص، ومع ذلك لم يحصر الشاعر محبوبه، لكي يترك باب التلقي مفتوحا، ولنا أن نتساءل، ما دام السؤال حق مشروع، وما دمنا متلقين لهذه القصيدة، عن ماهية هذا المحبوب، أمرأة هو، أم خمرة؟ وهل للحب سكرة كما للخمرة؟
إن عنوان القصيدة مدخل مهم للمتلقي، يكفي أن له إنتاجية دلالية تورط القارئ في حكم الأثر الجمالي الذي تتركه فيه، ومن جماليته أننا نطرح توقعات فنية حول النص قبل أن ندلف إليه مباشرة، ولقد اختار السلطاني عنوانا مورطا للقارئ، ومقحما له في متن النص ،وبهذا فقد أدى العنوان، هنا، وظيفته الإثارية، بأن جذب حواس القارئ بكلمتين فقط، فالسكريدخل جميع الحواس في غيبوبة مؤقتة عن العالم المعقول، والحب تتداعى له سائر الأعضاءبالتأهب والمسايرة، ومن اللطيف أن نشير إلى أن بين السكر والحب علاقة رحم، فكلاهما إلغاء للعقل، وكلاهما تمرد على الواقع، وكلاهما خروج من المألوف إلى اللامألوف...
لم يوظف الشاعر اللغة المنطوقة فقط، بل عمد إلى توظيف علامات الترقيم، باعتبارها لغة موازية، فقد جاء العنوان هكذا: "سكرة الحب.." مختوما بعلامة ترقيم، تفيد الصمت للحظة ،الذي قد يمثل هنا دعوة صريحة من الشاعر للقارئ من أجل أن يكمل فعل القراءة، فكأن الشاعر يقول للقارئ: إذا أردت أن يستمر سكرك، فعليك بالاسترسال في فعل القراءة، مرة أخرى نستطيع أن نشير إلى أن هناك علاقة وثيقة بين الحب والقراءة والسكر، فكل واحدة تؤدي إلى الأخرى، وكل واحدة تكمل أختها .
إن فعل القراءة هنا يجعل القارئ فاعلا بعدما كان منفعلا مع النص، إنه فاعل لأنه مدعو لأن يتمم النص مع صاحبه الأول، ليكون صاحبه الثاني، وليأتي قارئ ثان ليقول كلمته، فيكون صاحب النص الثالث، وهكذا يعيش النص بين قرائه بدل أن يموت على حضن صاحبه، أو يموت معناه في جوف صاحبه .
لقد كان العنوان شهيا ومُغْرِيًا ومُغْوِيًا و"أحسن سمسار للشاعر"3، وما دام دور السمسار ينحصر في الوساطة التي يؤديها بين البائع والمشتري قبل أن يتلاقيا، ويتلاشى دوره هذا بمجرد تلاقي البائع والمشتري، فقد عزمنا شراء النص كله، والنص وافق، فلا حاجة لنا في تطويل قراءة العنوان/ السمسار، لذلك دعونا نلج القصيدة بمفتاحها/ العنوان ،والبداية مع مطلعها الذي تتطالعنا فيه عبارة: "النوميدي4 أنا..." التي تحيلنا إلى ما أسماه التحليل النفسي بالأنانية التي تحولت فيما بعد، مع فرويد، إلى النرجسية، ولقد أدى إدخال النرجسية بفرويد إلى التمييز على المستوى المفهومي، ما بينها وبين الأنا الأنانية، ويقوم هذا التمييز على التفريق بين النزوات الجنسية، ونزوات الأنا... يقول عادل السلطاني:
النوميدي أنا والوشم والجبل = وسكرة الحب من عينيكِ إذ تغل5
نجد هناك حضورا قويا لصوت أنا الشاعر بالضمير المنفصل، الذي يعكس انفصال الشاعر عن الآخرين واستغنائه عنهم، كما استغنى هذا الضمير (أنا) عن أن يتصل بكلمة ما .
إن هذا الغلو في رفع صوت الأنا في القصيدة يشابه المتنبي الذي قال: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي = وأسمعت كلماتي من به صمم
6
وإذا قارنا بين البيتين فإننا سنجد انتصار المتنبي لأناه بخلاف نرجسية السلطاني الذي لم ينتصر لأناه، بل انتصر للمقدس الأمازيغي برمته؛ إذ احتلت كلمة نوميدي الصدارة في البيت كله، ولم يقل أنا النوميدي، فإذا كان المتنبي قد انتسب إلى أدبه لما له في النفوس من تأثير، فإن الشاعر عادل السلطاني قد عبر عن ذاته بأن انتسب إلى أمازيغيته، موظفاالترميز النوميدي ليؤدي وظيفة التعبير عن الانتماء الأمازيغي الذي يعليه الشاعر إلى مكانةالمقدس الذي يجب أن يقدم على كل شيء، لذلك قدم كلمة نوميديا على ذاته. وإذا كان المتنبي يعاني من مركب النقص بسبب عدم انتسابه إلى قومه وعشيرته، فإن السلطاني أفصح عن انتمائه كونه مقدسا لا يجب تدنيسه بتركه، ونسيانه، وهذا الإعلاء يسمح لنا أن نقول بأن الشاعر يحس بعقدة نقص من نوع آخر، هي عقدة النقص، التي سنسميها هنا ،الخارجية، أو الانتمائية، لأن الشاعر يقدم كلمة نوميدي كدفاع مضاد عن هذا الانتماء أمام كل من يبخسه تاريخيته، ومحتوياته الهوياتية، وليتبين ما ذهبنا إليه جليا، فإننا نحيل إلى عبارات أخرى جاءت في مواضع أخرى من القصيدة، مثل قوله:"التيفيناغي7 أنا."
إن دلالة هذا التكرار للرموز الأمازيغية تعبير صريح عن المقدس الأمازيغي المتمثل في القومية واللغة اللذان يمثلان جوهر هوية هذه القومية الأمازيغية، ولأن هذه الهوية لا تتحقق بالمجتمع/ القوم، واللغة فقط، بل يجب أن تكون هناك جغرافيا جامعة لهذا الكيان، فقد استحضر الشاعر أمكنة أمازيغية عدة، من قبيل: قرطاج، تيديس8... ، وبهذا استكمل عادل السلطاني مكونات الهوية الأمازيغية التي نستطيع أن نجليها أكثر بهذا الرسم التالي:
التاريخ: الأجداد الأمازيغ
وصفوة القول، فإننا قد حاولنا مقاربة القصيدة في ضوء موضوعة المقدس، أو الرمز الأمازيغي، وقد استدعينا التحليل النفسي الأدبي من أجل الوقوف على بعض الدلالات اللاشعورية التي أخفاها الشاعر في باطن نصه ،والتي بنى بها صورة عامة عن الموروث الأمازيغي، ومن خلال ما تقدم يتبين لنا الجانب النرجسي، والجانب النقصي للشاعر عادل السلطاني، ونستطيع أن نشير إلى جانب هذا، إلى أننا وظفنا المنهج المقارن في بضعة مفصلات هذه القراءة .
الهوامش:
شاعر جزائري، وباحث في علم الاجتماع، ابن مدينة بئر العاتر ولاية تبسة عام 1967م، وهو شاعر يكتب
بالعربية الفصيحة، والأمازيغية والفرنسية، ويكتب شعر الزجل .
خريجة ماستر الكتابة ومهن الكتاب ،بحث مشروع تخرجها كان في موضوع: مقاربة نقدية بالمناهج الأدبية
الحديثة والعاصرة، لشعر المتنبي، قصيدة "واحر قلباه" نموذجا ،وأستاذة متدربة في المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، فاس – مكناس، الفرع الإقليمي مكناس، تخصص اللغة العربية، نشر لها مقال ضمن كتاب مقامات الكشف: قراءات في تجربة الشاعر امجد مجدوب رشيد، تحت عنوان: مظاهر العشق من خلال ديوان "وأظهرك على العشق كله."
1. ابن منظور، لسان العرب، الجزء السادس، مادة(ق د س)، دار صادر بيروت، طبعة 1997م، ص ص: 743 ـ 744
2. ديوان أبي نواس، دار صادر، بيروت، بدون طبعة، بدون تاريخ، ص:242
3. جيرار جينيت، من النص إلى المناص، عبد الحق بلعابد، تقديم سعيد يقطين، منشورات الاختلاف ،الجزائر، الدار العربية للعلوم، ناشرون بيروت، لبنان، ص: 71.
4. مملكة شمال إفريقية قديمة للنوميديين، تأسست في الجزائر الحالية، وشملت أجزاء صغيرة من تونس وليبيا) 218 – 201 قبل الميلاد).
5. من قصيدة سكرة الحب للشاعر عادل السلطاني قيد التحليل .
6. أبو العلاء المعري، معجز أحمد، شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، تحقيق ودراسة: عبد المجيد دياب ،دار المعارف، ذخائر العرب 65، الطبعة: 2، 1413هـ /،1992م، الجزء: الثالث، ص: 253.
7. هي الأبجدية التي يستخدمها الطوارق والأمازيغ لتدوين لغاتهم، وتعرف بالكتابة الليبية القديمة.
8. مدينة أثرية تقع في بلدية حامة بوزيان ولاية قسنطينة في الجزائر .