ركن خالد الجبيلي
[frame="1 98"]حماقات بروكلين [/frame]
بقلم: بــــول أوســــــــــــتر
ترجمة : أ. خالد الجبـــــيلي *
نيويورك / الولايات المتحدة
اســــــــــــــــــــــــــــــــــــــتهلال
كنت أبحث عن مكان هادئ أمضي فيه الأيام المتبقية من حياتي قبل أن ألفظ أنفاسي الأخيرة. وعندما نصحني أحدهم بالذهاب إلى بروكلين، انطلقت إليها في صباح اليوم التالي من ويست شيستر لاستطلاع المكان، الذي لم أعد إليه منذ خمس وستين سنة، والذي لم أعد أذكر عنه شيئاً. فقد غادر والديّ هذه المدينة عندما كنت في الثالثة من العمر، لكنني وجدت نفسي أعود غريزياً إلى الحيّ الذي كنا نقيم فيه، أعود إلى مسقط رأسي زاحفاً مثل كلب جريح. وكان دلاّل العقارات في الحيّ قد أراني ستّ أو سبع شقق مشيدة جميعها بالحجر البني.
وبعد العصر بقليل، كنت قد استأجرت شقّة ذات حديقة، مؤلفة من غرفتي نوم، على "الشارع الأول"، لا تبعد كثيراً عن حديقة بروسبكت بارك. ولم تكن لديّ أدنى فكرة عن جيراني في العمارة، ولم أبد أي اهتمام بذلك. إذ تبين لي أنهم كانوا يغادرون جميعهم إلى عملهم في التاسعة صباحاً ويعودون في الخامسة مساء، ولم يكن يوجد لدى أي منهم أطفال، لذلك أحسست بأن العمارة ستنعم بشيء من السكون والهدوء، وهذا ما أتطلع إليه أكثر من أي شيء آخر. نهاية صامتة لحياتي الحزينة والسخيفة.
وكان بيتنا في برونكسفيل على وشك أن يباع، وما إن تنتهي إجراءات البيع في أواخر هذا الشهر، حتى تكون جميع مشاكلي المالية قد حلت. فقد قررنا، أنا وزوجتي السابقة، أن نتقاسم إيرادات البيع. وبمبلغ أربعمائة ألف دولار في المصرف، سيكون لديّ ما يكفيني حتى أعيش وزيادة إلى أن ألفظ أنفاسي الأخيرة.
في البدء، لم أعرف ماذا أفعل بنفسي. فقد أمضيت إحدى وثلاثين سنة وأنا أتنقل بين الضواحي ومكاتب شركة "وسط الأطلسي للحوادث والتأمين على الحياة" في مانهاتن، أما الآن، وبعد أن أضحيت بدون عمل، أصبحت لديّ ساعات طويلة من الفراغ طوال النهار. وبعد أسبوع تقريباً من انتقالي إلى الشقّة، جاءت راشيل، ابنتي المتزوّجة، لتزورني من نيو جيرسي. قالت إني يجب أن أشغل نفسي بشيء، أن أجد مشروعاً لي. وبالطبع، لم تكن راشيل امرأة غبية. فهي تحمل درجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية من جامعة شيكاغو، وتعمل باحثة في شركة أدوية كبيرة تقع خارج برينسيتون، لكنها تشبه أمّها إلى درجة كبيرة. فقلما يمر يوم لا تتحدث فيه عن أشياء تنم عن ملاحظات تافهة - جميع تلك العبارات المستنفدة، الفارغة، والأفكار القديمة التي تملأ مكبّات نفايات الحكمة المعاصرة.
قلت لها إني قد أموت قبل أن انقضاء هذا العام، وإني لا أعير أي مشروع أدنى اهتمام. ولوهلة، خيّل إليّ أن راشيل ستنفجر في البكاء، إلا أن عينيها حبست الدموع في مقلتيها، وراحت تنعتني بأني شخص فظ، غليظ الفؤاد، وأناني. وقالت لا عجب أن "ماما" قد طلّقتني أخيراً، وأضافت، لا عجب أنها لم تعد تحتمل أن تعيش معي. ولا بد أن الزواج برجل مثلي، عذاب لا يطاق، جحيم في الحياة. وللأسف، لم يكن بوسع راشيل المسكينة – إلا أن تفعل ذلك. لأن ابنتي الوحيدة هذه، تعيش على وجه هذه الأرض منذ تسع وعشرين سنة، ولم تتمكن، طوال هذه السنوات، من أن تخرج بملاحظة مبتكرة، بفكرة من بنات أفكارها تماماً.
نعم، أظن أنه توجد لدي طباع سيئة في بعض الأحيان. لكن ليس دائماً - وليس كمسألة مبدأ. ففي أيامي الجيدة، أكون رجلاً طيباً، ودوداً، رقيقاً مثل أيّ شخص آخر أعرفه. فلا يمكنك أن تكون شخصاً ناجحاً في بيع بوالص تأمين على الحياة مثلي إن كنت شخصاً ينفر منك زبائنك، على الأقل ليس لمدة ثلاثة عقود بطولها، لا، لا يمكنك أن تفعل ذلك. بل يجب أن تكون رجلاً عطوفاً، خفيف الظل. ويجب أن تكون قادراً على الإنصات للآخرين. ويجب أن تعرف كيف تسحر الناس وتجذبهم. إني أتمتع بهذه الصفات جميعها، بل وأكثر منها. لكنني لا أنكر أنه توجد لديّ لحظاتي السيئة أيضاً، بيد أن جميع الناس يعرفون ما هي الأخطار التي تقبع وراء الأبواب الموصدة في الحياة الأسرية. فربما كنت كالسم الزعاف بالنسبة لجميع أفراد أسرتك، وخاصة إذا ما اكتشفت أنك ربما لم تكن قد خلقت كي تكون زوجاً في المقام الأول. فقد كنت أحبّ مضاجعة إديث، لكن عواطفي ومشاعري بدأت تخمد بعد أربع أو خمس سنوات من زواجنا، وأخذت مجرى عادياً، ولم أعد منذ ذلك الحين ذلك الزوج المثالي. وإذا أتيح لك أن تسمع ما تقوله راشيل، فإني لم أكن أباً مثالياً أيضاً. لا أريد أن أكذّب ذكرياتها، إلا أنني كنت في الواقع أحيطهما برعايتي وأحبهما على طريقتي الخاصة. ومع أنني كنت أجد نفسي من حين لآخر بين ذراعيّ امرأة أخرى، فإني لم أكن أحمل أياً من هذه العلاقات على محمل الجد. كما لم أكن أنا صاحب فكرة الطلاق. فرغم كلّ شيء، كنت أزمع أن أبقى مع إديث حتى النهاية. بل هي من أرادت الطلاق، وبسبب الآثام والتجاوزات التي ارتكبتها طوال تلك السنين، لا أستطيع أن ألومها حقاً. فبعد أن عشنا ثلاثاً وثلاثين سنة تحت سقف واحد، وبعد أن سار كلّ منا في درب معاكس، لم نكن قد أضفنا إلى حياتنا أي شيء تقريباً.
قلت لراشيل إن أيامي باتت معدودة، إلا أن ذلك لم يكن سوى سبب لكي تتدخل وتقدم لي نصائحها المتسرعة، سيل من المقارنات المبالغ فيها. وكان السرطان في رئتي يمر بمرحلة همود، وحسب ما قاله لي طبيب الأورام الذي يعالجني، بعد آخر فحص أجراه لي، هناك سبب يدعو للتفاؤل الحذر. لكن هذا لا يعني أنني أثق به تمام الثقة. فقد كانت صدمة إصابتي بالسرطان قوية جداً، إلى درجة أني كنت لا أزال أؤمن بأنني لن أعيش طويلاً. فقد فقدت الأمل، واعتبرت نفسي هالكاً لا محالة، فما إن يُقطع الورم ويستأصل من جسدي، حتى أمرّ بالمحن المنهكة والموهنة التي يسببها العلاج الكيميائي والعلاج بالأشعة. وعندها سأعاني من نوبات الغثيان الطويلة، والشعور بالدوار، وأفقد شعري، وأفقد إرادتي، وأفقد وظيفتي، وأخسر زوجتي، يصعب عليّ أن أتصوّر كيف ستسير الأمور. ومن هنا جاءت بروكلين. وهكذا كانت عودتي دون وعي مني، إلى المكان الذي بدأت فيه قصّتي. فأنا في أواخر الستينات من عمري، ولا أعرف كم سنة أخرى سأعيش. ربما عشرين سنة أخرى. ربما بضعة أشهر أخرى لا أكثر. ومهما كان التشخيص الطبي لحالتي، فمن المهم ألا أستسلم للأمر الواقع. فما دمت حياً أرزق، عليّ أن أجد وسيلة أخرى أبدأ فيها الحياة من جديد، لكني حتى لو لم أعش، يتعين عليّ أن أفعل شيئاً أكثر من أن أجلس وأنتظر نهايتي المحتومة. وكدأبها، كانت ابنتي العالمة على حق، حتى لو كنت عنيداً إلى درجة أني لا أعترف بذلك. يجب أن أُشغل نفسي. يجب أن أحرك مؤخرتي وأفعل شيئاً.
عندما انتقلت إلى شقتي الجديدة، كان الربيع قد حلّ. وفي الأسابيع القليلة الأولى، رحت أشغل وقتي باستطلاع الحيّ، فكنت أتمشى طويلاً في الحديقة، وأغرس الأزهار في حديقتي الخلفية – بقعة صغيرة من الأرض مليئة بالنفايات المرمية منذ سنوات. وذهبت لأحلق شعري الذي طال كثيراً مؤخراً في "دكان حلاق منحدر الحديقة" في الجادة السابعة؛ واستأجرت شريط فيديو من محل يدعى "سماء السينما"؛ وكنت أتوقّف في أوقات كثيرة عند "سقيفة برايتمان"، وهي مكتبة صغيرة لبيع الكتب المستعملة، تعمها الفوضى، وسيئة التنظيم إلى درجة كبيرة، وصاحبها شاذّ جنسياً يدعى هاري برايتمان (سنأتي على ذكره لاحقاً). وفي معظم الأيام، كنت أعدّ طعام فطوري في الصباح بنفسي في الشقّة. وبما أنني كنت أكره الطهي، وأفتقر إلى أي موهبة فيه، كنت أميل لأن أتناول طعام غدائي وعشائي في المطعم – دائماً وحدي، ودائماً برفقة كتاب مفتوح أمامي، ودائماً أمضغ طعامي ببطء بقدر ما يمكنني، كي أطيل فترة الوجبة أطول مدة ممكنة. وبعد أن رأيت عينات عن عدد من الخيارات في الحيّ، استقر رأيي على مطعم "كوسميك داينر"، الذي بدأت أتناول فيه غدائي بانتظام. وفي أفضل الأحوال، كان الطعام فيه متوسطاً، إلا أن نادلة بورتوريكية جميلة تدعى مارينا كانت تعمل فيه، سرعان ما راق لها قلبي. كانت تصغرني بنصف عمري، ومتزوّجة، مما يعني أن إقامة علاقة رومانسية معها لم تكن أمراً وارداً، لكن مجرد النظر إليها كان متعة لا توصف، وكانت شديدة اللطف في تعاملها معي، مستعدة لأن تضحك لنكاتي ودعاباتي التي لم تكن تضحك كثيراً، إلى درجة أنها أصبحت تشغل بالي عندما تغيب في أيام عطلتها. ومن وجهة نظر أنثروبولوجية بحتة، اكتشفت أن سكان بروكلين لا يترددون في التحدث إلى أشخاص غرباء، أكثر من أن أيّ عشيرة صادفتها في حياتي. إذ إن أحدهم يحشر أنفه في شؤون الآخر بمحض إرادته (فترى نساء عجائز يوبّخن أمهات شابات لأنهن لم يُلبسن أطفالهن ثياباً توفر لهم دفئاً كافياً، وترى عابر سبيل يؤنب آخر لأنه يشدّ زمام كلبه بقوة)؛ وتراهم يتجادلون ويتشاجرون مثل أطفال مخبولين في الرابعة من عمرهم، على مكان يركنون فيه سيارتهم يتنازعون عليه؛ وهم بالإضافة إلى ذلك، يعتبرون النكتة أو الملاحظة المضحكة أمراً مسلماً به. ففي صباح أحد أيام الأحد، دخلت إلى دكان بقالة مزدحم يحمل اسماً سخيفاً "الكعكة اللذيذة". وأردت أن أطلب "cinnamon-raisins bagel"، (كعكة بالزبيب والقرفة) لكن الكلمة علقت في فمي وقلت: أريد "cinnamon-reagan" (ريغان بالقرفة). وبلمح البصر، أجاب الشاب الواقف وراء الكاونتر: "آسف، لا نبيع هذا النوع من الكعك هنا. بل لدينا كعكة "نيكسون بالشوفان". بهذه السرعة. اللعنة، بهذه السرعة، إلى درجة أني كدت أن أبول في سروالي.
بعد زلّة اللسان غير المقصودة تلك، خطرت أخيراً ببالي فكرة لا بد أن راشيل ستوافق عليها. لعلها لم تكن فكرة هامة، لكنها كانت على الأقل شيئاً، وإذا ما تشبثت بها بإخلاص كما كنت أنوي، فإنه سيصبح لدي مشروعي، حصاني الذي أبحث عنه ليبعدني عن حالة الكسل والخمول ومخدري الروتيني. ومع أن المشروع كان متواضعاً، فقد قرّرت أن أضع له عنواناً فخماً، رناناً - لأخدع نفسي وأوهمها بأني منهمك في عمل على درجة من الأهمية. وأطلقت على هذا المشروع اسم "كتاب حماقات البشر"، وقررت أن أدوّن فيه، بلغة بسيطة وسلسة، كلّ الأخطاء الشنيعة، وجميع العثرات والسقطات، وجميع المواقف المحرجة، وكلّ الحماقات، وكلّ نقاط الضعف، وجميع التصرفات التافهة التي ارتكبتها في فترة عملي المتقلّبة والطويلة. وبما أنني لا أستطيع أن أفكّر بقصص أرويها عن نفسي، فإنني سأكتب عن أشياء حدثت لأناس آخرين أعرفهم، لكن بما أن هذا النبع قد جفّ أيضاً، فإني سأتناول أحداثاً تاريخية، أدوّن حماقات إخواني البشر عبر العصور، منذ حضارات العالم القديم البائدة، وحتى الشهور الأولى من القرن الحادي والعشرين. وقد خيّل لي أن تدوين بعض الدعابات سيكون أمراً جيداً. فلا توجد لديّ رغبة في أن أعرّي روحي، أو أن أغوص في تأمل كئيب للنفس. وستكون النبرة في طياتها خفيفة وهزلية، وهدفي الوحيد من كل ذلك أن أتسلى لأمضي أكبر قدر من ساعات النهار.
أطلقت على مشروعي اسم كتاب، لكنه في الواقع لم يكن كتاباً على الإطلاق. فقد كنت أدوّن ملاحظات على أوراق صفراء، وأوراق مفككة، وخلف أغلفة الرسائل، وعلى أغلفة الرسائل التي تأتي بالبريد تعرض عليك بطاقات ائتمان، أو قروضاً لكي تجدد منزلك وترممه، وكنت أجمع كلّ تلك الملاحظات العشوائية العابرة، مزيج من النوادر والحكايات، وألقي بها في صندوق كرتوني بعد أن أنتهي من كتابة كلّ قصّة. وكان ثمة طريقة صغيرة اتخذها جنوني. إذ لم تكن بعض القصص تتجاوز بضعة أسطر، ولم يكن عدد منها، وخاصة تلك التي تنطوي على كلمات يمكن قلب أحرفها فتبدو مضحكة، أو كلمات في غير مقامها، التي كنت مولعاً بها، تتجاوز عبارة واحدة. مثل عبارة " برغر باردة يقطر منها الدهن" Chilled grease burger بدلاً من عبارة "برغر مشوية مع الجبن" grilled cheeseburger التي كنت أنطقها أحياناً عندما كنت في الصف الأول الثانوي، أو عندما كنت أقول لإديث دون قصد مني تلك العبارة العميقة شبه الباطنية، ونحن في غمرة إحدى مشاجراتنا الزوجية الحادة: "سأراها عندما أصدقها". وعندما كنت أجلس لأكتب، كنت أبدأ بأن أغمض عينيّ، وأترك أفكاري تجول وتطوف في أيّ اتجاه تريد. فبعد أن أرغمت نفسي على الاسترخاء بهذه الطريقة، تمكنت من تذكّر أشياء كثيرة تعود إلى الماضي البعيد، أشياء كنت أظن حتى ذلك الحين أنني نسيتها وفقدتها إلى الأبد. مثل تلك الحادثة من الصف السادس (لأستشهد بواحدة من هذه الذكريات) عندما أطلق فتى في صفنا يدعى دادلي فرانكلين، ضرطة طويلة تشبه صفير بوق حاد، فيما كان صمت مطبق يخيم على قاعة الدرس في حصة الجغرافيا. وبالطبع، انفجرنا جميعنا في ضحكة مجلجلة (إذ لا يوجد شيء ممتع بالنسبة لقاعة دروس مليئة بتلاميذ في الحادية عشرة من أعمارهم أكثر من زوبعة من الفساء)، لكن الشيء الذي جعل هذه الحادثة تبتعد عن فئة الإحراج البسيطة، وترتقي لتحتل مرتبة كلاسيكية، وتصبح تحفة رائعة دائمة في حوليات الخجل، هو أن دادلي كان طفلاً شديد البراءة، بحيث أنه اعتذر بعد ارتكابه هذا الخطأ الفاحش القاتل، فقال: "أنا آسف"، وأطرق برأسه على مقعده، وتضرج وجهه حتى أصبح خداه حمراوين مثل سيارة إطفاء طليت حديثاً باللون الأحمر. إذ يجب على المرء ألا يعترف على الملأ بأنه ضرط. هذا هو القانون غير المدوّن، البروتوكول الصارم المعروف في آداب السلوك الأمريكية. فلا تنبعث الضرطة من أحد، ولا تخرج من أي مكان، بل تنبعث من مكان مجهول، وتنتمي إلى الجماعة ككل، وحتى إذا أشار جميع من في الغرفة بأصابع الاتهام إلى مرتكبها، فإن التصرف العاقل الوحيد هو إنكار ذلك. إلا أن هذه الحادثة التصقت بدادلي فرانكلين الغبيّ، الصادق إلى درجة كبيرة، وعلقت به طوال حياته. ومنذ ذلك اليوم، أُطلق على فرانكلين اسم "أنا آسف"، والتصق به هذا اللقب حتى نهاية المدرسة الثانوية.
وبدأ يلوح لي أن القصص تقع تحت زوايا وأبواب متعددة ومختلفة. فبعد أن أمضيت شهراً تقريباً في هذا المشروع، تخليت عن نظام الصندوق الواحد وبدأت أرتب صناديق عديدة، مما مكنني أن أحتفظ بأعمالي على نحو أكثر اتساقاً وانسجاماً. صندوق للعثرات الشفوية، وآخر للأحداث المزعجة، وصندوق آخر للأفكار المحبطة والفاشلة، وآخر للحماقات الاجتماعية، وإلى ما هنالك. وشيئاً فشيئاً، بدأت أهتم على نحو خاص بتسجيل اللحظات الهزلية والمضحكة في الحياة العادية. لا ارتطام أصابع قدمي بأشياء في مرات لا تعد ولا تحصى فقط، ولا الضربات على الرأس التي تلقيتها طوال تلك السنين، وليس فقط عدد المرات التي انزلقت فيها نظارتي من جيب قميصي وأنا منحن لأعقد رباط حذائي (التي كانت تعقبها مشاعر أخرى بالخجل بعد أن كنت أتعثر إلى الأمام فأدوس على النظارة وأسحقها تحت قدميّ)، بل العثرات المضحكة التي تحدث مرة في المليون، والتي كانت تحدث لي في أوقات مختلفة منذ طفولتي. ومثال على ذلك، عندما فتحت فمي لأتثاءب عندما كنا في نزهة في أحد أيام عيد العمال في عام 1952، انسلت نحلة إلى داخل فمي، وبدلاً من أن أبصقها خارج فمي، أبتلعها بدافع من الخوف والقرف اللذين انتاباني؛ بل إلى درجة لا تحتمل أكثر، عندما كنت أستعد لركوب الطائرة في إحدى رحلات العمل منذ سبع سنوات فقط، وفيما كنت أمسك ببطاقة ركوب الطائرة بين إبهامي وإصبعي الوسطى، دُفعت من الخلف، ففلتت البطاقة من يدي، وطارت باتجاه الشقّ الفاصل بين سلم الطائرة وعتبتها - أكثر الفجوات الضيّقة ضيقاً، التي لم تكن تزيد فتحتها على ستة عشر من أعشار البوصة، ولدهشتي المطلقة، رحت أرقبها وهي تتطاير وتنزلق عبر ذلك الشق المستحيل، وتسقط تحتي على المدرج على مسافة عشرين قدماً.
ما هذا إلا غيض من فيض من الأمثلة. وقد كتبت عشرات من هذه القصص في الشهرين الأولين. لكنني مع أني بذلت ما بوسعي لأجعل الأسلوب عابثاً وخفيفاً، اكتشفت أن هذا أمر غير ممكن دائماً. إذ إننا نمر جميعنا في مراحل من الأمزجة المعكرة السوداء، لكنني أعترف بأنني كنت أحياناً أستسلم إلى نوبات الوحدة والاكتئاب. فقد أمضيت معظم فترات حياتي في الوظيفة، أتعامل مع الموت، ولعلي سمعت قصصاً سيئة كثيرة تدفعني لأن أتوقف عن التفكير بها عندما تعتريني الكآبة. جميع الأشخاص الذين رأيتهم وزرتهم طوال تلك السنين، وجميع بوالص التأمين التي بعتها، وكلّ أنواع الفزع واليأس التي عرفتها وأنا أحدّث زبائني. وفي النهاية، أضفت صندوقاً آخر إلى مجموعتي، وكتبت عليه "أقدار قاسية"، وكانت أول قصّة أضعها فيه عن رجل يدعى جوناس وينبيرغ بعت له بوليصة تأمين شاملة على الحياة بمبلغ مليون دولار في عام 1976، وهو مبلغ ضخم جداً بمعايير ذلك الوقت. وأذكر أنه كان يحتفل آنذاك بعيد ميلاده الستين، وكان طبيباً داخلياً يعمل في مستشفى كولومبيا بريسبيرتيريان، وكان يتكلم اللغة الإنكليزية بنبرة ألمانية خفيفة. إن بيع بوليصة تأمين على الحياة أمر لا يخلو من الأحاسيس، ويتعين على الوكيل الجيد أن تتملكه هذه الأحاسيس جيداً عندما يتحوّل الحديث إلى مناقشات متعرجة صعبة في معظم الأحيان مع زبائنه. فلا بد أن توقع الموت يجعل المرء يفكّر بمسائل جدّية، حتى لو كان جزء من العمل لا يتعلق إلا بالمال، فهو يتعلّق كذلك بأسئلة غيبية في غاية الجدّية والخطورة أيضاً. ما هو هدف الحياة؟ كم سنة أخرى سأعيش؟ كيف أستطيع أن أحمي الأشخاص الذين أحبهم بعد أن أمضي من هذه الدنيا؟ ولعله بسبب مهنته، كان يعتري الدكتور وينبيرغ إحساس شديد بضعف وجود البشر، وكم يستغرق الأمر حتى تمحى أسماؤنا من كتاب الأحياء؟ كنا قد التقينا في شقّته الواقعة في سنترال بارك ويست، وما إن بدأت أشرح له مزايا مختلف بوالص التأمين المتاحة له، حتى بدأ يتذكر أشياء من ماضيه. فقد أخبرني أنه ولد في برلين في عام 1916، وبعد أن قُتل أبوه في خنادق الحرب العالمية الأولى، ربتّه أمّه الممثلة. فقد كان الطفل الوحيد لامرأة تتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية، امرأة كانت في بعض الأحيان عنيدة ومشاكسة، لم تكن تبدي أدنى ميل للزواج ثانية. وإن كنت قد فهمت جيداً من تعليقاته، فإني أظن أن الدكتور وينبيرغ كان يلمح إلى أن أمّه كانت تفضل النساء على الرجال، ولا بد أنها كانت تعبّر عن ميلها ذاك علناً أثناء فترة جمهورية فيمار التي كانت تسودها الفوضى. وبعكس السيدة وينبيرغ العنيدة، الجامحة، كان جوناس الشاب فتى هادئ الطبع، مغرماً بالكتب. وكان قد تفوق في دراسته، ويحلم بأن يصبح عالماً أو طبيباً. كان في السابعة عشرة من عمره عندما أمسك هتلر بزمام السلطة، وما هي إلا بضعة أشهر حتى بدأت أمّه تتخذ جميع الاستعدادات كي ترسله خارج ألمانيا. وكان أقرباء أبيه يعيشون في نيويورك، ووافقوا على رعايته. فغادر في ربيع عام 1934، لكن أمّه، التي كانت تدرك الأخطار الوشيكة المحدقة بغير الآريين في الرايخ الثالث، رفضت بإصرار وعناد فرصة المغادرة، لأن أفراد عائلتها ألمان منذ مئات السنين، كما قالت لابنها، وإنها ستكون ملعونة إن سمحت لمستبدّ أن يدفعها لتعيش في المنفى. وقالت ليحدث ما يحدث، وصمّمت على البقاء.
وبشيء من المعجزة، ظلت هناك. وقدم لي الدكتور وينبيرغ عدداً من التفاصيل الأخرى (ولعله لم يكن يعرف القصة كلها هو نفسه)، إلا أن عدداً من الأصدقاء من غير اليهود ساعدوا أمّه في فترات عصيبة مختلفة، وفي عام 1938 أو 1939، حصلت على أوراق هوية مزورة، وغيّرت هيئتها تماماً – وليس هذا بالأمر الصعب على ممثلة تخصّصت في تقمص شخصيات غريبة الأطوار – وتمكّنت باسمها المسيحي الجديد من الحصول على وظيفة محاسبة في بقالية بإحدى البلدات الصغيرة خارج هامبورغ، متنكرة في هيئة امرأة شقراء، ترتدي ثياباً رثة، وتضع نظارات على عينيها. وعندما انتهت الحرب في ربيع عام 1945، كان قد مضى على عدم رؤيتها ابنها إحدى عشرة سنة. وكان جوناس وينبيرغ قد أصبح في أواخر العشرينيات من عمره آنذاك، وأصبح طبيباً ينهي فترة تدريبه الداخلي في مستشفى بيل فو. وما إن اكتشف أن أمّه نجت من الحرب، حتى بدأ يتخذ الترتيبات كي تأتي إلى أمريكا لزيارته.
كان كلّ شيء قد أُعد بدقة متناهية. فقد كانت الطائرة ستهبط في المطار في الساعة كذا وكذا، وستكون في البوابة كذا وكذا، حيث سيكون جوناس وينبيرغ بانتظار أمّه. لكنه ما إن كان على وشك أن يتوجه إلى المطار، حتى استدعي إلى المستشفى لإجراء عملية عاجلة. هل كان لديه خيار آخر؟ فقد كان طبيباً، ومتلهفاً لرؤية أمّه بعد تلك السنوات الطويلة، إلا أن واجبه الأول كان أن يرعى مرضاه. وفي الحال، خطرت له خطة جديدة. فاتصل بشركة الطيران، وطلب منهم أن يرسلوا ممثلاً عنه يستقبل أمّه لدى وصولها إلى نيويورك، ويشرح لها أنه استدعي لإجراء عملية طارئة في آخر لحظة، وطلب منها أن تستقل سيارة أجرة إلى مانهاتن. وقال إنه سيترك لها مفتاح البيت لدى بوّاب العمارة، وإنها يجب أن تصعد إلى الشقّة وتنتظره هناك. وفعلت السيدة وينبيرغ كما طلب منها، ووجدت على الفور سيارة أجرة. وأخذ السائق يقود بسرعة، وبعد عشر دقائق وهو في طريقه إلى وسط المدينة، فقد السائق سيطرته على المقود، واصطدم بسيارة أخرى وجهاً لوجه. وأصيب هو والمرأة معه بجروح شديدة.
كان الدكتور وينبيرغ آنذاك لا يزال في المستشفى، وكان على وشك أن يجري عمليته. واستمرت العملية الجراحية أكثر من ساعة بقليل، وعندما أنهى عمله، غسل الطبيب الشاب يديه، وعاد وارتدى ثيابه، وخرج من الغرفة مسرعاً، متلهفاً للعودة إلى البيت للقاء أمّه بعد تلك الفترة الطويلة. بيد أنه ما إن وصل إلى البهو، حتى رأى مريضة جديدة تُدخل إلى غرفة العمليات.
كانت تلك أمّ جوناس وينبيرغ. وحسب ما قاله لي الطبيب، ماتت دون أن تسترد وعيها.
* خالد الجبيلي
أعز أصدقائي
لابل
أعز إخوتي
وربما
أكثر
وأكثر