حمــــــــاقات بـــــــــــروكليـن - منتديات نور الأدب



 
التسجيل قائمة الأعضاء اجعل كافة الأقسام مقروءة



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 136,727
عدد  مرات الظهور : 104,740,012

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > مـرافئ الأدب > قال الراوي > القصة المترجمة
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 29 / 12 / 2007, 57 : 11 PM   رقم المشاركة : [1]
أ. د. صبحي النيّال
ضيف
 


ركن المترجم / أ. خالـــــــــد الجبــــــــــيلي

ركن خالد الجبيلي



[frame="1 98"]حماقات بروكلين [/frame]



بقلم: بــــول أوســــــــــــتر



ترجمة : أ. خالد الجبـــــيلي *



نيويورك / الولايات المتحدة



اســــــــــــــــــــــــــــــــــــــتهلال






كنت أبحث عن مكان هادئ أمضي فيه الأيام المتبقية من حياتي قبل أن ألفظ أنفاسي الأخيرة. وعندما نصحني أحدهم بالذهاب إلى بروكلين، انطلقت إليها في صباح اليوم التالي من ويست شيستر لاستطلاع المكان، الذي لم أعد إليه منذ خمس وستين سنة، والذي لم أعد أذكر عنه شيئاً. فقد غادر والديّ هذه المدينة عندما كنت في الثالثة من العمر، لكنني وجدت نفسي أعود غريزياً إلى الحيّ الذي كنا نقيم فيه، أعود إلى مسقط رأسي زاحفاً مثل كلب جريح. وكان دلاّل العقارات في الحيّ قد أراني ستّ أو سبع شقق مشيدة جميعها بالحجر البني.



وبعد العصر بقليل، كنت قد استأجرت شقّة ذات حديقة، مؤلفة من غرفتي نوم، على "الشارع الأول"، لا تبعد كثيراً عن حديقة بروسبكت بارك. ولم تكن لديّ أدنى فكرة عن جيراني في العمارة، ولم أبد أي اهتمام بذلك. إذ تبين لي أنهم كانوا يغادرون جميعهم إلى عملهم في التاسعة صباحاً ويعودون في الخامسة مساء، ولم يكن يوجد لدى أي منهم أطفال، لذلك أحسست بأن العمارة ستنعم بشيء من السكون والهدوء، وهذا ما أتطلع إليه أكثر من أي شيء آخر. نهاية صامتة لحياتي الحزينة والسخيفة.



وكان بيتنا في برونكسفيل على وشك أن يباع، وما إن تنتهي إجراءات البيع في أواخر هذا الشهر، حتى تكون جميع مشاكلي المالية قد حلت. فقد قررنا، أنا وزوجتي السابقة، أن نتقاسم إيرادات البيع. وبمبلغ أربعمائة ألف دولار في المصرف، سيكون لديّ ما يكفيني حتى أعيش وزيادة إلى أن ألفظ أنفاسي الأخيرة.



في البدء، لم أعرف ماذا أفعل بنفسي. فقد أمضيت إحدى وثلاثين سنة وأنا أتنقل بين الضواحي ومكاتب شركة "وسط الأطلسي للحوادث والتأمين على الحياة" في مانهاتن، أما الآن، وبعد أن أضحيت بدون عمل، أصبحت لديّ ساعات طويلة من الفراغ طوال النهار. وبعد أسبوع تقريباً من انتقالي إلى الشقّة، جاءت راشيل، ابنتي المتزوّجة، لتزورني من نيو جيرسي. قالت إني يجب أن أشغل نفسي بشيء، أن أجد مشروعاً لي. وبالطبع، لم تكن راشيل امرأة غبية. فهي تحمل درجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية من جامعة شيكاغو، وتعمل باحثة في شركة أدوية كبيرة تقع خارج برينسيتون، لكنها تشبه أمّها إلى درجة كبيرة. فقلما يمر يوم لا تتحدث فيه عن أشياء تنم عن ملاحظات تافهة - جميع تلك العبارات المستنفدة، الفارغة، والأفكار القديمة التي تملأ مكبّات نفايات الحكمة المعاصرة.



قلت لها إني قد أموت قبل أن انقضاء هذا العام، وإني لا أعير أي مشروع أدنى اهتمام. ولوهلة، خيّل إليّ أن راشيل ستنفجر في البكاء، إلا أن عينيها حبست الدموع في مقلتيها، وراحت تنعتني بأني شخص فظ، غليظ الفؤاد، وأناني. وقالت لا عجب أن "ماما" قد طلّقتني أخيراً، وأضافت، لا عجب أنها لم تعد تحتمل أن تعيش معي. ولا بد أن الزواج برجل مثلي، عذاب لا يطاق، جحيم في الحياة. وللأسف، لم يكن بوسع راشيل المسكينة – إلا أن تفعل ذلك. لأن ابنتي الوحيدة هذه، تعيش على وجه هذه الأرض منذ تسع وعشرين سنة، ولم تتمكن، طوال هذه السنوات، من أن تخرج بملاحظة مبتكرة، بفكرة من بنات أفكارها تماماً.

نعم، أظن أنه توجد لدي طباع سيئة في بعض الأحيان. لكن ليس دائماً - وليس كمسألة مبدأ. ففي أيامي الجيدة، أكون رجلاً طيباً، ودوداً، رقيقاً مثل أيّ شخص آخر أعرفه. فلا يمكنك أن تكون شخصاً ناجحاً في بيع بوالص تأمين على الحياة مثلي إن كنت شخصاً ينفر منك زبائنك، على الأقل ليس لمدة ثلاثة عقود بطولها، لا، لا يمكنك أن تفعل ذلك. بل يجب أن تكون رجلاً عطوفاً، خفيف الظل. ويجب أن تكون قادراً على الإنصات للآخرين. ويجب أن تعرف كيف تسحر الناس وتجذبهم. إني أتمتع بهذه الصفات جميعها، بل وأكثر منها. لكنني لا أنكر أنه توجد لديّ لحظاتي السيئة أيضاً، بيد أن جميع الناس يعرفون ما هي الأخطار التي تقبع وراء الأبواب الموصدة في الحياة الأسرية. فربما كنت كالسم الزعاف بالنسبة لجميع أفراد أسرتك، وخاصة إذا ما اكتشفت أنك ربما لم تكن قد خلقت كي تكون زوجاً في المقام الأول. فقد كنت أحبّ مضاجعة إديث، لكن عواطفي ومشاعري بدأت تخمد بعد أربع أو خمس سنوات من زواجنا، وأخذت مجرى عادياً، ولم أعد منذ ذلك الحين ذلك الزوج المثالي. وإذا أتيح لك أن تسمع ما تقوله راشيل، فإني لم أكن أباً مثالياً أيضاً. لا أريد أن أكذّب ذكرياتها، إلا أنني كنت في الواقع أحيطهما برعايتي وأحبهما على طريقتي الخاصة. ومع أنني كنت أجد نفسي من حين لآخر بين ذراعيّ امرأة أخرى، فإني لم أكن أحمل أياً من هذه العلاقات على محمل الجد. كما لم أكن أنا صاحب فكرة الطلاق. فرغم كلّ شيء، كنت أزمع أن أبقى مع إديث حتى النهاية. بل هي من أرادت الطلاق، وبسبب الآثام والتجاوزات التي ارتكبتها طوال تلك السنين، لا أستطيع أن ألومها حقاً. فبعد أن عشنا ثلاثاً وثلاثين سنة تحت سقف واحد، وبعد أن سار كلّ منا في درب معاكس، لم نكن قد أضفنا إلى حياتنا أي شيء تقريباً.





قلت لراشيل إن أيامي باتت معدودة، إلا أن ذلك لم يكن سوى سبب لكي تتدخل وتقدم لي نصائحها المتسرعة، سيل من المقارنات المبالغ فيها. وكان السرطان في رئتي يمر بمرحلة همود، وحسب ما قاله لي طبيب الأورام الذي يعالجني، بعد آخر فحص أجراه لي، هناك سبب يدعو للتفاؤل الحذر. لكن هذا لا يعني أنني أثق به تمام الثقة. فقد كانت صدمة إصابتي بالسرطان قوية جداً، إلى درجة أني كنت لا أزال أؤمن بأنني لن أعيش طويلاً. فقد فقدت الأمل، واعتبرت نفسي هالكاً لا محالة، فما إن يُقطع الورم ويستأصل من جسدي، حتى أمرّ بالمحن المنهكة والموهنة التي يسببها العلاج الكيميائي والعلاج بالأشعة. وعندها سأعاني من نوبات الغثيان الطويلة، والشعور بالدوار، وأفقد شعري، وأفقد إرادتي، وأفقد وظيفتي، وأخسر زوجتي، يصعب عليّ أن أتصوّر كيف ستسير الأمور. ومن هنا جاءت بروكلين. وهكذا كانت عودتي دون وعي مني، إلى المكان الذي بدأت فيه قصّتي. فأنا في أواخر الستينات من عمري، ولا أعرف كم سنة أخرى سأعيش. ربما عشرين سنة أخرى. ربما بضعة أشهر أخرى لا أكثر. ومهما كان التشخيص الطبي لحالتي، فمن المهم ألا أستسلم للأمر الواقع. فما دمت حياً أرزق، عليّ أن أجد وسيلة أخرى أبدأ فيها الحياة من جديد، لكني حتى لو لم أعش، يتعين عليّ أن أفعل شيئاً أكثر من أن أجلس وأنتظر نهايتي المحتومة. وكدأبها، كانت ابنتي العالمة على حق، حتى لو كنت عنيداً إلى درجة أني لا أعترف بذلك. يجب أن أُشغل نفسي. يجب أن أحرك مؤخرتي وأفعل شيئاً.



عندما انتقلت إلى شقتي الجديدة، كان الربيع قد حلّ. وفي الأسابيع القليلة الأولى، رحت أشغل وقتي باستطلاع الحيّ، فكنت أتمشى طويلاً في الحديقة، وأغرس الأزهار في حديقتي الخلفية – بقعة صغيرة من الأرض مليئة بالنفايات المرمية منذ سنوات. وذهبت لأحلق شعري الذي طال كثيراً مؤخراً في "دكان حلاق منحدر الحديقة" في الجادة السابعة؛ واستأجرت شريط فيديو من محل يدعى "سماء السينما"؛ وكنت أتوقّف في أوقات كثيرة عند "سقيفة برايتمان"، وهي مكتبة صغيرة لبيع الكتب المستعملة، تعمها الفوضى، وسيئة التنظيم إلى درجة كبيرة، وصاحبها شاذّ جنسياً يدعى هاري برايتمان (سنأتي على ذكره لاحقاً). وفي معظم الأيام، كنت أعدّ طعام فطوري في الصباح بنفسي في الشقّة. وبما أنني كنت أكره الطهي، وأفتقر إلى أي موهبة فيه، كنت أميل لأن أتناول طعام غدائي وعشائي في المطعم – دائماً وحدي، ودائماً برفقة كتاب مفتوح أمامي، ودائماً أمضغ طعامي ببطء بقدر ما يمكنني، كي أطيل فترة الوجبة أطول مدة ممكنة. وبعد أن رأيت عينات عن عدد من الخيارات في الحيّ، استقر رأيي على مطعم "كوسميك داينر"، الذي بدأت أتناول فيه غدائي بانتظام. وفي أفضل الأحوال، كان الطعام فيه متوسطاً، إلا أن نادلة بورتوريكية جميلة تدعى مارينا كانت تعمل فيه، سرعان ما راق لها قلبي. كانت تصغرني بنصف عمري، ومتزوّجة، مما يعني أن إقامة علاقة رومانسية معها لم تكن أمراً وارداً، لكن مجرد النظر إليها كان متعة لا توصف، وكانت شديدة اللطف في تعاملها معي، مستعدة لأن تضحك لنكاتي ودعاباتي التي لم تكن تضحك كثيراً، إلى درجة أنها أصبحت تشغل بالي عندما تغيب في أيام عطلتها. ومن وجهة نظر أنثروبولوجية بحتة، اكتشفت أن سكان بروكلين لا يترددون في التحدث إلى أشخاص غرباء، أكثر من أن أيّ عشيرة صادفتها في حياتي. إذ إن أحدهم يحشر أنفه في شؤون الآخر بمحض إرادته (فترى نساء عجائز يوبّخن أمهات شابات لأنهن لم يُلبسن أطفالهن ثياباً توفر لهم دفئاً كافياً، وترى عابر سبيل يؤنب آخر لأنه يشدّ زمام كلبه بقوة)؛ وتراهم يتجادلون ويتشاجرون مثل أطفال مخبولين في الرابعة من عمرهم، على مكان يركنون فيه سيارتهم يتنازعون عليه؛ وهم بالإضافة إلى ذلك، يعتبرون النكتة أو الملاحظة المضحكة أمراً مسلماً به. ففي صباح أحد أيام الأحد، دخلت إلى دكان بقالة مزدحم يحمل اسماً سخيفاً "الكعكة اللذيذة". وأردت أن أطلب "cinnamon-raisins bagel"، (كعكة بالزبيب والقرفة) لكن الكلمة علقت في فمي وقلت: أريد "cinnamon-reagan" (ريغان بالقرفة). وبلمح البصر، أجاب الشاب الواقف وراء الكاونتر: "آسف، لا نبيع هذا النوع من الكعك هنا. بل لدينا كعكة "نيكسون بالشوفان". بهذه السرعة. اللعنة، بهذه السرعة، إلى درجة أني كدت أن أبول في سروالي.



بعد زلّة اللسان غير المقصودة تلك، خطرت أخيراً ببالي فكرة لا بد أن راشيل ستوافق عليها. لعلها لم تكن فكرة هامة، لكنها كانت على الأقل شيئاً، وإذا ما تشبثت بها بإخلاص كما كنت أنوي، فإنه سيصبح لدي مشروعي، حصاني الذي أبحث عنه ليبعدني عن حالة الكسل والخمول ومخدري الروتيني. ومع أن المشروع كان متواضعاً، فقد قرّرت أن أضع له عنواناً فخماً، رناناً - لأخدع نفسي وأوهمها بأني منهمك في عمل على درجة من الأهمية. وأطلقت على هذا المشروع اسم "كتاب حماقات البشر"، وقررت أن أدوّن فيه، بلغة بسيطة وسلسة، كلّ الأخطاء الشنيعة، وجميع العثرات والسقطات، وجميع المواقف المحرجة، وكلّ الحماقات، وكلّ نقاط الضعف، وجميع التصرفات التافهة التي ارتكبتها في فترة عملي المتقلّبة والطويلة. وبما أنني لا أستطيع أن أفكّر بقصص أرويها عن نفسي، فإنني سأكتب عن أشياء حدثت لأناس آخرين أعرفهم، لكن بما أن هذا النبع قد جفّ أيضاً، فإني سأتناول أحداثاً تاريخية، أدوّن حماقات إخواني البشر عبر العصور، منذ حضارات العالم القديم البائدة، وحتى الشهور الأولى من القرن الحادي والعشرين. وقد خيّل لي أن تدوين بعض الدعابات سيكون أمراً جيداً. فلا توجد لديّ رغبة في أن أعرّي روحي، أو أن أغوص في تأمل كئيب للنفس. وستكون النبرة في طياتها خفيفة وهزلية، وهدفي الوحيد من كل ذلك أن أتسلى لأمضي أكبر قدر من ساعات النهار.



أطلقت على مشروعي اسم كتاب، لكنه في الواقع لم يكن كتاباً على الإطلاق. فقد كنت أدوّن ملاحظات على أوراق صفراء، وأوراق مفككة، وخلف أغلفة الرسائل، وعلى أغلفة الرسائل التي تأتي بالبريد تعرض عليك بطاقات ائتمان، أو قروضاً لكي تجدد منزلك وترممه، وكنت أجمع كلّ تلك الملاحظات العشوائية العابرة، مزيج من النوادر والحكايات، وألقي بها في صندوق كرتوني بعد أن أنتهي من كتابة كلّ قصّة. وكان ثمة طريقة صغيرة اتخذها جنوني. إذ لم تكن بعض القصص تتجاوز بضعة أسطر، ولم يكن عدد منها، وخاصة تلك التي تنطوي على كلمات يمكن قلب أحرفها فتبدو مضحكة، أو كلمات في غير مقامها، التي كنت مولعاً بها، تتجاوز عبارة واحدة. مثل عبارة " برغر باردة يقطر منها الدهن" Chilled grease burger بدلاً من عبارة "برغر مشوية مع الجبن" grilled cheeseburger التي كنت أنطقها أحياناً عندما كنت في الصف الأول الثانوي، أو عندما كنت أقول لإديث دون قصد مني تلك العبارة العميقة شبه الباطنية، ونحن في غمرة إحدى مشاجراتنا الزوجية الحادة: "سأراها عندما أصدقها". وعندما كنت أجلس لأكتب، كنت أبدأ بأن أغمض عينيّ، وأترك أفكاري تجول وتطوف في أيّ اتجاه تريد. فبعد أن أرغمت نفسي على الاسترخاء بهذه الطريقة، تمكنت من تذكّر أشياء كثيرة تعود إلى الماضي البعيد، أشياء كنت أظن حتى ذلك الحين أنني نسيتها وفقدتها إلى الأبد. مثل تلك الحادثة من الصف السادس (لأستشهد بواحدة من هذه الذكريات) عندما أطلق فتى في صفنا يدعى دادلي فرانكلين، ضرطة طويلة تشبه صفير بوق حاد، فيما كان صمت مطبق يخيم على قاعة الدرس في حصة الجغرافيا. وبالطبع، انفجرنا جميعنا في ضحكة مجلجلة (إذ لا يوجد شيء ممتع بالنسبة لقاعة دروس مليئة بتلاميذ في الحادية عشرة من أعمارهم أكثر من زوبعة من الفساء)، لكن الشيء الذي جعل هذه الحادثة تبتعد عن فئة الإحراج البسيطة، وترتقي لتحتل مرتبة كلاسيكية، وتصبح تحفة رائعة دائمة في حوليات الخجل، هو أن دادلي كان طفلاً شديد البراءة، بحيث أنه اعتذر بعد ارتكابه هذا الخطأ الفاحش القاتل، فقال: "أنا آسف"، وأطرق برأسه على مقعده، وتضرج وجهه حتى أصبح خداه حمراوين مثل سيارة إطفاء طليت حديثاً باللون الأحمر. إذ يجب على المرء ألا يعترف على الملأ بأنه ضرط. هذا هو القانون غير المدوّن، البروتوكول الصارم المعروف في آداب السلوك الأمريكية. فلا تنبعث الضرطة من أحد، ولا تخرج من أي مكان، بل تنبعث من مكان مجهول، وتنتمي إلى الجماعة ككل، وحتى إذا أشار جميع من في الغرفة بأصابع الاتهام إلى مرتكبها، فإن التصرف العاقل الوحيد هو إنكار ذلك. إلا أن هذه الحادثة التصقت بدادلي فرانكلين الغبيّ، الصادق إلى درجة كبيرة، وعلقت به طوال حياته. ومنذ ذلك اليوم، أُطلق على فرانكلين اسم "أنا آسف"، والتصق به هذا اللقب حتى نهاية المدرسة الثانوية.



وبدأ يلوح لي أن القصص تقع تحت زوايا وأبواب متعددة ومختلفة. فبعد أن أمضيت شهراً تقريباً في هذا المشروع، تخليت عن نظام الصندوق الواحد وبدأت أرتب صناديق عديدة، مما مكنني أن أحتفظ بأعمالي على نحو أكثر اتساقاً وانسجاماً. صندوق للعثرات الشفوية، وآخر للأحداث المزعجة، وصندوق آخر للأفكار المحبطة والفاشلة، وآخر للحماقات الاجتماعية، وإلى ما هنالك. وشيئاً فشيئاً، بدأت أهتم على نحو خاص بتسجيل اللحظات الهزلية والمضحكة في الحياة العادية. لا ارتطام أصابع قدمي بأشياء في مرات لا تعد ولا تحصى فقط، ولا الضربات على الرأس التي تلقيتها طوال تلك السنين، وليس فقط عدد المرات التي انزلقت فيها نظارتي من جيب قميصي وأنا منحن لأعقد رباط حذائي (التي كانت تعقبها مشاعر أخرى بالخجل بعد أن كنت أتعثر إلى الأمام فأدوس على النظارة وأسحقها تحت قدميّ)، بل العثرات المضحكة التي تحدث مرة في المليون، والتي كانت تحدث لي في أوقات مختلفة منذ طفولتي. ومثال على ذلك، عندما فتحت فمي لأتثاءب عندما كنا في نزهة في أحد أيام عيد العمال في عام 1952، انسلت نحلة إلى داخل فمي، وبدلاً من أن أبصقها خارج فمي، أبتلعها بدافع من الخوف والقرف اللذين انتاباني؛ بل إلى درجة لا تحتمل أكثر، عندما كنت أستعد لركوب الطائرة في إحدى رحلات العمل منذ سبع سنوات فقط، وفيما كنت أمسك ببطاقة ركوب الطائرة بين إبهامي وإصبعي الوسطى، دُفعت من الخلف، ففلتت البطاقة من يدي، وطارت باتجاه الشقّ الفاصل بين سلم الطائرة وعتبتها - أكثر الفجوات الضيّقة ضيقاً، التي لم تكن تزيد فتحتها على ستة عشر من أعشار البوصة، ولدهشتي المطلقة، رحت أرقبها وهي تتطاير وتنزلق عبر ذلك الشق المستحيل، وتسقط تحتي على المدرج على مسافة عشرين قدماً.



ما هذا إلا غيض من فيض من الأمثلة. وقد كتبت عشرات من هذه القصص في الشهرين الأولين. لكنني مع أني بذلت ما بوسعي لأجعل الأسلوب عابثاً وخفيفاً، اكتشفت أن هذا أمر غير ممكن دائماً. إذ إننا نمر جميعنا في مراحل من الأمزجة المعكرة السوداء، لكنني أعترف بأنني كنت أحياناً أستسلم إلى نوبات الوحدة والاكتئاب. فقد أمضيت معظم فترات حياتي في الوظيفة، أتعامل مع الموت، ولعلي سمعت قصصاً سيئة كثيرة تدفعني لأن أتوقف عن التفكير بها عندما تعتريني الكآبة. جميع الأشخاص الذين رأيتهم وزرتهم طوال تلك السنين، وجميع بوالص التأمين التي بعتها، وكلّ أنواع الفزع واليأس التي عرفتها وأنا أحدّث زبائني. وفي النهاية، أضفت صندوقاً آخر إلى مجموعتي، وكتبت عليه "أقدار قاسية"، وكانت أول قصّة أضعها فيه عن رجل يدعى جوناس وينبيرغ بعت له بوليصة تأمين شاملة على الحياة بمبلغ مليون دولار في عام 1976، وهو مبلغ ضخم جداً بمعايير ذلك الوقت. وأذكر أنه كان يحتفل آنذاك بعيد ميلاده الستين، وكان طبيباً داخلياً يعمل في مستشفى كولومبيا بريسبيرتيريان، وكان يتكلم اللغة الإنكليزية بنبرة ألمانية خفيفة. إن بيع بوليصة تأمين على الحياة أمر لا يخلو من الأحاسيس، ويتعين على الوكيل الجيد أن تتملكه هذه الأحاسيس جيداً عندما يتحوّل الحديث إلى مناقشات متعرجة صعبة في معظم الأحيان مع زبائنه. فلا بد أن توقع الموت يجعل المرء يفكّر بمسائل جدّية، حتى لو كان جزء من العمل لا يتعلق إلا بالمال، فهو يتعلّق كذلك بأسئلة غيبية في غاية الجدّية والخطورة أيضاً. ما هو هدف الحياة؟ كم سنة أخرى سأعيش؟ كيف أستطيع أن أحمي الأشخاص الذين أحبهم بعد أن أمضي من هذه الدنيا؟ ولعله بسبب مهنته، كان يعتري الدكتور وينبيرغ إحساس شديد بضعف وجود البشر، وكم يستغرق الأمر حتى تمحى أسماؤنا من كتاب الأحياء؟ كنا قد التقينا في شقّته الواقعة في سنترال بارك ويست، وما إن بدأت أشرح له مزايا مختلف بوالص التأمين المتاحة له، حتى بدأ يتذكر أشياء من ماضيه. فقد أخبرني أنه ولد في برلين في عام 1916، وبعد أن قُتل أبوه في خنادق الحرب العالمية الأولى، ربتّه أمّه الممثلة. فقد كان الطفل الوحيد لامرأة تتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية، امرأة كانت في بعض الأحيان عنيدة ومشاكسة، لم تكن تبدي أدنى ميل للزواج ثانية. وإن كنت قد فهمت جيداً من تعليقاته، فإني أظن أن الدكتور وينبيرغ كان يلمح إلى أن أمّه كانت تفضل النساء على الرجال، ولا بد أنها كانت تعبّر عن ميلها ذاك علناً أثناء فترة جمهورية فيمار التي كانت تسودها الفوضى. وبعكس السيدة وينبيرغ العنيدة، الجامحة، كان جوناس الشاب فتى هادئ الطبع، مغرماً بالكتب. وكان قد تفوق في دراسته، ويحلم بأن يصبح عالماً أو طبيباً. كان في السابعة عشرة من عمره عندما أمسك هتلر بزمام السلطة، وما هي إلا بضعة أشهر حتى بدأت أمّه تتخذ جميع الاستعدادات كي ترسله خارج ألمانيا. وكان أقرباء أبيه يعيشون في نيويورك، ووافقوا على رعايته. فغادر في ربيع عام 1934، لكن أمّه، التي كانت تدرك الأخطار الوشيكة المحدقة بغير الآريين في الرايخ الثالث، رفضت بإصرار وعناد فرصة المغادرة، لأن أفراد عائلتها ألمان منذ مئات السنين، كما قالت لابنها، وإنها ستكون ملعونة إن سمحت لمستبدّ أن يدفعها لتعيش في المنفى. وقالت ليحدث ما يحدث، وصمّمت على البقاء.



وبشيء من المعجزة، ظلت هناك. وقدم لي الدكتور وينبيرغ عدداً من التفاصيل الأخرى (ولعله لم يكن يعرف القصة كلها هو نفسه)، إلا أن عدداً من الأصدقاء من غير اليهود ساعدوا أمّه في فترات عصيبة مختلفة، وفي عام 1938 أو 1939، حصلت على أوراق هوية مزورة، وغيّرت هيئتها تماماً – وليس هذا بالأمر الصعب على ممثلة تخصّصت في تقمص شخصيات غريبة الأطوار – وتمكّنت باسمها المسيحي الجديد من الحصول على وظيفة محاسبة في بقالية بإحدى البلدات الصغيرة خارج هامبورغ، متنكرة في هيئة امرأة شقراء، ترتدي ثياباً رثة، وتضع نظارات على عينيها. وعندما انتهت الحرب في ربيع عام 1945، كان قد مضى على عدم رؤيتها ابنها إحدى عشرة سنة. وكان جوناس وينبيرغ قد أصبح في أواخر العشرينيات من عمره آنذاك، وأصبح طبيباً ينهي فترة تدريبه الداخلي في مستشفى بيل فو. وما إن اكتشف أن أمّه نجت من الحرب، حتى بدأ يتخذ الترتيبات كي تأتي إلى أمريكا لزيارته.



كان كلّ شيء قد أُعد بدقة متناهية. فقد كانت الطائرة ستهبط في المطار في الساعة كذا وكذا، وستكون في البوابة كذا وكذا، حيث سيكون جوناس وينبيرغ بانتظار أمّه. لكنه ما إن كان على وشك أن يتوجه إلى المطار، حتى استدعي إلى المستشفى لإجراء عملية عاجلة. هل كان لديه خيار آخر؟ فقد كان طبيباً، ومتلهفاً لرؤية أمّه بعد تلك السنوات الطويلة، إلا أن واجبه الأول كان أن يرعى مرضاه. وفي الحال، خطرت له خطة جديدة. فاتصل بشركة الطيران، وطلب منهم أن يرسلوا ممثلاً عنه يستقبل أمّه لدى وصولها إلى نيويورك، ويشرح لها أنه استدعي لإجراء عملية طارئة في آخر لحظة، وطلب منها أن تستقل سيارة أجرة إلى مانهاتن. وقال إنه سيترك لها مفتاح البيت لدى بوّاب العمارة، وإنها يجب أن تصعد إلى الشقّة وتنتظره هناك. وفعلت السيدة وينبيرغ كما طلب منها، ووجدت على الفور سيارة أجرة. وأخذ السائق يقود بسرعة، وبعد عشر دقائق وهو في طريقه إلى وسط المدينة، فقد السائق سيطرته على المقود، واصطدم بسيارة أخرى وجهاً لوجه. وأصيب هو والمرأة معه بجروح شديدة.



كان الدكتور وينبيرغ آنذاك لا يزال في المستشفى، وكان على وشك أن يجري عمليته. واستمرت العملية الجراحية أكثر من ساعة بقليل، وعندما أنهى عمله، غسل الطبيب الشاب يديه، وعاد وارتدى ثيابه، وخرج من الغرفة مسرعاً، متلهفاً للعودة إلى البيت للقاء أمّه بعد تلك الفترة الطويلة. بيد أنه ما إن وصل إلى البهو، حتى رأى مريضة جديدة تُدخل إلى غرفة العمليات.

كانت تلك أمّ جوناس وينبيرغ. وحسب ما قاله لي الطبيب، ماتت دون أن تسترد وعيها.





* خالد الجبيلي

أعز أصدقائي
لابل
أعز إخوتي
وربما
أكثر
وأكثر

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)

التعديل الأخير تم بواسطة أ. د. صبحي النيّال ; 30 / 01 / 2008 الساعة 12 : 07 PM.
  رد مع اقتباس
قديم 20 / 02 / 2008, 29 : 06 PM   رقم المشاركة : [2]
أ. د. صبحي النيّال
ضيف
 


رد: حمــــــــاقات بـــــــــــروكليـن





لقاء غير متوقع

كتبت اثني عشرة صفحة، إلا أنهدفي الوحيد يتمثل حتى الآن في أن أقدم نفسي إلى القارئ وأمهّد الأجواء للقصّة التي سأرويها. فأنالست الشخصية المحوريةفي هذه القصة. بل يعود شرف حمل لقب بطل هذا الكتاب إلى ابن أختي، توم وود، ابن أختي جون المرحومة الوحيد. فقد ولدت جون "البقة" الصغيرة، كما كنا نطلق عليها، عندما كنت في الثالثة من عمري، وكان مجيئها إلى هذا العالم هو الذي جعلوالدينا يسرعا في الانتقال من شقتنا المكتظةفي بروكلين إلى منزل في غاردن سيتي، بلونغ آيلند. وكنّا دائماً صديقين وفيين، هي وأنا، وعندما تزوّجت بعد أربع وعشرين سنة (بعد وفاة أبينا بستّة أشهر)، كنت أنا الذي سار بها في ممر الكنيسة وقدمها إلى زوجها، الذي كان يعمل صحفياًفي صحيفة نيويورك تايمز، ويدعى كريستوفر وود. وأنجبا طفلين (توم ابن أختي، وأورورا ابنة أختي)، إلا أن الزواج تصدع بعد خمس عشرة سنة. وبعد سنتين، تزوّجت جون ثانية، وللمرة الثانية رافقتها إلى هيكل الكنيسة. وكان زوجها الثاني سمسار بورصة ثرياً من نيو جيرسي، اسمهفيليب زورن، كان في سجلهزوجتان سابقتانوابنة بالغة تقريباً، اسمهاباميلا. وأصيبت جونوهي في سن مبكرة، في التاسعة والأربعين، بنزيف دماغي حاد عندما كانت تعمل في حديقة بيتهافي عصر يوم قائظ في منتصف شهر آب وأسلمت روحها قبل أن تشرق شمس اليوم التالي. وكانت تلك أشد ضربة يتلقاها أخوها الكبيرفي حياته، ولم يكن السرطان الذي ألمّ به، واقترابه من حافة الموت بعد عدة سنوات يعادل البؤسالذي اعتراه آنذاك.

وبعد الجنازة، فقدت أي صلةبالعائلة، وإلى أن صادفته في مكتبة هاري برايتمان في 23 أيار 2000، كان قد مضي عليّ فرابة سبع سنوات لم أر توم فيها. وكنت أحبّ توم دائماً، وحتى عندما كان طفلاً صغيراً، كنت أعجب به كشخص يفوق الأشخاص العاديين، شخص مقدّر له أن يحقق أشياء عظيمة في الحياة. وما عدا يوم دفن جون، كان آخر حديث لنا في بيت أمّه في جنوب أورانج، بنيو جيرسي. كان توم قد تخرّج للتو بمرتبة شرف من جامعة كورنيل، وكان قد حصل على منحة لمدة أربع سنوات لدراسة الأدب الأمريكي في جامعة مشيغان. وكان كلّ ما تنبأت به له قد تحقّق، وأذكر وجبة العشاء العائلية تلك كمناسبة دافئة، فيما كنا نرفع كؤوسنا جميعنا لنشرب نخب نجاح توم. وعندما كنت في عمره، كنت أتمنى أن أسير في درب يشبه الدرب الذي اختاره ابن أختي. فقد كنت قد تخصّصت مثلهباللغة الإنكليزية في الجامعة، وكنت أطمح لأن أتابعدراسة الأدب أو ربما أتمكن من دراسة الصحافة، لكنني لم أكن أمتلك الشجاعة لمتابعة ذلك أيضاً. فقد اعترضتالحياة طريقي - سنتان في الجيش، والعمل، والزواج، والمسؤوليات العائلية، والحاجة إلى كسب مزيد من المال، وجميع تلك القاذورات التي ترهقنا وتجعلنا نغوص في الأوحال ولا نعود نمتلك الشجاعة لمواجهة ذلك بشجاعة– لكنني لم أفقد اهتمامي بالكتب على الإطلاق. فقد كانت القراءة ملاذيوعزائيوسلواني، الحافز الذي اخترته بمحض إرادتي: القراءة لمتعة القراءة البحتة، من أجل الهدوء والسكينة الجميلةالتي تحيطبكوأنتتنصت إلى كلمات المؤلف يتردد صداها في رأسك. وكان توم يشاطرني على الدوامهذه المتعة وهذا الحب.فمنذ أن كانفي الخامسة أو السادسة من عمره، كنت أرسل لهكتباًعدة مرات في السنة - لابمناسبةعيد ميلاده أو أعياد الميلاد فقط، بلكلما كنت أرى كتاباً أظن أنهسيحبه. فقد عرفتّهعلى بو وهو في الحادية عشرة، وبما أن بو كان أحد الأدباء الذينالذي كان يتناولهفي أطروحته في الثانوية، كان من الطبيعي أنه كان يريد أن يحدثني عن البحث الذي يكتبه –وكان من الطبيعي أني كنت أرغب في أن أنصت إليه. كانت وجبة الطعام قد انتهت حينذاك، وخرج الجميع إلى حديقة المنزل، وبقينا أنا وتوم في غرفة الطعام، نحتسي ما تبقىمن النبيذ.

"بصحتك، يا خال نات"، قال توم، رافعاً كأسه.
"بصحتك يا توم، وبصحة الجنان المتخيلة:حياة العقل في أمريكا ما قبل الحرب الأهلية".
" يؤسفني أن أقول إنه عنوان رنان. لكني لم أستطع أن أفكّر بعنوانأفضل منه".
"العنوان الرنان جيد. إنه يجعل الأساتذة يقفونويشنفون آذانهم. لقد حصلت على درجة ممتاز، أليس كذلك؟"
وبتواضعه المعتاد، حرك توم يده، وكأنه يريد أن يقلل من أهمية الدرجة التي حصل عليها. وواصلت كلامي، "بسبب بو كما تقول، وبسبب من أيضاً؟"
"ثورو"
"بو وثورو".
"إدغار ألان بو وهنري ديفيد ثورو. قافية غير موفقة، ألا تظن ذلك؟ جميع أحرف "الواو" هذه تملأ الفم. لا أزال أفكر بشخص دخل في مرحلة الدهشة الأبديّة. أوه! أوه لا! أوه بو! أوه ثورو!"
"شيء مزعج بعض الشيءيا توم. لكن الويل للإنسانالذي يقرأ بو وينسي ثورو. أليس كذلك؟"
ارتسمت على وجه توم ابتسامة عريضة، ثم رفع كأسه ثانية وقال: "بصحتك، يا خالنات".
فقلت: "وبصحتك، يا دكتور إبهام اليد"، وأخذ كل منا رشفة أخرى من نبيذ بوردو. وما إن وضعت كأسي على الطاولة، حتى طلبت منه أن يلّخص ليفحوى أطروحته.
"إنها عنالعوالم غير الموجودة"، قال ابن أخي، "دراسة عن الملاذ الداخلي، خريطة عن المكان الذي يتوجه إليه الإنسان عندما لا تعود الحياة في العالم الحقيقي ممكنة".
"العقل".
"تماماً. في البداية بو، وتحليل لثلاثة من أكثر أعماله إهمالاً. ' فلسفة الأثاث' و 'كوخ لاندور'و'مملكة آرنهايم'.إذا ما تناولنا كل واحدة منهما على حدة، فإنك تجد أن كل واحدة منهما عمل طريفوغريب. وإذا ما وضعتهما معاً، فإنك ستجدنظاماً مسهباً عنحنين البشر".
"لم أقرأ هذين العملين على الإطلاق. حتى أني لا أظن أني سمعت عنهما".
"إنهما يصفانالغرفة المثالية، البيت المثالي، والمشهد الطبيعي المثالي. ثم، أنتقل إلى ثورو وأدرس الغرفة، البيت، والمشهد الطبيعي على النحو الذي وصفه في "والدن".
"وهذا ما نطلق عليهدراسة مقارنة".
"لم يتحدّث أحد مطلقاً عن بو وثورو في نَفَس واحد. إنهما يقفان في اتجاهين متناقضينتماماً في الفكر الأمريكي. لكن هنا يكمن جمالهما. سكير من الجنوب - رجعي في مواقفه السياسية، أرستقراطي من حيث النسب، وغيبي في المخيلة. وشخص من الشمال لايقرب الكحول، راديكالي في آراءه، متزمّت في سلوكه، فطن،وواضح الرؤيا في كتاباته. كان بو بارعاًويبعث على الكآبة في غرف منتصف الليل. أما ثورو فكان يعبّر عن بساطة الخارج وألقه. ورغم الفروق بينهما، فقد كان أحدهما يكبر الآخر بثماني سنوات، وهذا يجعلهما معاصرين لبعضهما تماماً تقريباً. وقد ماتا كلاهما وهما شابان، أحدهما في الأربعينمن العمر، والآخر في الخامسة والأربعين. ولم يتمكنا كلاهما منالعيش حياة رجل عجوز أعزب، ولم يخلّف أحدهما أطفالاً. ومن المحتمل كثيراً أن ثورو انتقل إلى قبره وهو لم يمس امرأة. أما بو، فقد تزوجابنة عمه المراهقة, لكن سواء كانقد تم هذا الزواج فعلياً قبل موت فرجينيا كليم، فهوأمر لايزال موضع تساؤل. أطلق عليهاأشياء متشابهة، أطلق عليهامصادفات، إلا أن هذه الحقائق الخارجية أقل أهمية من الحقيقة الداخلية لحياة كل من الرجلين. وكلّ بطريقته الخاصة، أخذا على عاتقهماإعادةاختراع أمريكا. ففي مراجعاته الأدبية ومقالاته النقدية، كان بو يكافح للتوصل إلى نوع جديد من الأدب المحلي، أدب أمريكي خال من التأثيرات الإنكليزية والأوروبية. أما أعمال ثورو، فهيتمثّل هجوماًلا نهاية له على الوضع الراهن، معركةليجد طريقة جديدة للعيش هنا. وكان كلّ منهما يؤمن بأمريكا، وكلّ منهما يعتقدأن أمريكا أصبحت في الجحيم، وأنجبالاً متزايدة من الآلات والأموال تسحقها وتدمرها. كيف يستطيع إنسانأن يفكّر في وسط كلّ هذا الصخب؟ كان كلّ منهما يريد مخرجاً. فانسحب ثورو إلى أطراف مدينةكونكورد، مدعياً أنه نفى نفسه إلى الغابة -لالسبب إلا ليثبتأنه يستطيع أن يفعل ذلك. فما دام الإنسانيتحلىبشجاعةأن يرفض ما يطلبه منهالمجتمع أن يفعله، فهو يستطيع أن يعيش الحياة وفقالشروط التي يحددها هو. وما الهدف من ذلك؟ كي يكون حراً. لكن ما هدفه من أم يكون حراً؟ ليقرأ كتباً، ليؤلفكتباً، ليفكّر. أن يكون حراً لأن يؤلف كتاباً مثل والدن. أما بو من الناحية الأخرى، فقد انسحب إلى حلم من الكمال. ألق نظرة على 'فلسفة الأثاث' وستكتشف أنه صمم غرفته المتخيلةللغرض نفسه. مكان للقراءة والكتابةوالتفكير. مكانللتأمل، محرابيسوده السكونيمكن فيه للروح أن تجد أخيراًشيئاً منالسكينة. طوباوي للغاية؟ نعم. لكنه أيضاً بديل معقول لأحوال الزمن. لأن أمريكا في حقيقة الأمر ذهبت إلى الجحيم. فانقسم البلد إلى شطرين، ونعرف جميعنا ما حدث بعد عقد من الزمان فقط. أربع سنوات من الموت والدمار. حمّام دم بشريأحدثته الآلات ذاتها التي كان من المفروضأن تجعلناجميعناسعداء وأغنياء".

كان الصبي ذكياًللغاية، فصيحاً جداً، واسع الأفق والإطلاع، وأحسست بالفخر لأني فرد أنتمي إلى عائلته. لقد نالت أسرة وودزما يكفيهامن المشاكل في السنوات الأخيرة، لكن يبدو أن توم قد تجاوز كارثةانفصالوالديهفضلاً عن العواصف التي سببتها أخته الصغيرة، التي احتجت على زواج أمّها الثاني وهربت من البيت وهي في السابعة عشرة من عمرها - موقف هادئورزين ومرتبك بعض الشيء تجاه الحياة، وقد أعجبت بهلأنه تمكن من الصمودأمام هذه المحنة. ولم يكن على اتصال مع أبيه، أو كان قليل الاتصال به، الذي انتقل إلى كاليفورنيا بعد الطلاق مباشرة وحصل على وظيفة في صحيفةلوس أنجليس تايمز، ومثل أخته (لكنموقفه كان أكثر صمتاً) لم يكن يكّن حباً أو احتراماًشديداً لزوج أمهّ الثاني. إلا أنه كان هو وأمّه على علاقة وثيقة، وعاشا محنةاختفاء أورورا كشريكين متساويين، وكانا يعانيانمن الأحزان ذاتها، ولهما الآمال ذاتها، والتوقّعات المحبطة ذاتها، والمخاوف التي لا نهاية لها نفسها. وكانت روري منأكثر الفتيات الصغيرات تسلية وإضحاكاً وجاذبيةاللاتي عرفتهن في حياتي: زوبعة منالجرأة الفاتنة والأداء المتقن، متعالمة، محرّك لا ينضب من العفويّة والشقاوة. ومنذ أن كانتفي الثانية أو الثالثة من عمرها، كنا نطلق عليها، أنا وإديث،دائماً "الفتاة الضاحكة"، وقد كبرت في عائلة وودبأنها مسليّة العائلة، المهرّجةالماكرةالتي تفيض حيوية والتي لا يمكن كبحها. وكان توم يكبرها بسنتين فقط، لكنّه كان دائم الاهتمام بها، وما أنغادر أباهما الصورة، حتى أصبح وجوده بمثابة قوة استقرار في حياتها. لكنه عندماانتقل إلى الجامعة، خرجت روري عن السيطرة– فقد هربت في البداية إلى نيويورك، ثم، وبعد مصالحة لم تدم طويلاً مع أمّها، اختفت في أماكن مجهولة. وخلال ذلك العشاء الاحتفالي بمناسبة تخّرج توم، كانت قد أنجبت طفلة خارجالرباط الزوجي (فتاة اسمها لوسي)، وعادت إلى البيت لتلقي بالطفلة الصغيرة في حضن أختي، ثم توارت ثانية. وعندما ماتتجون بعد أربعة عشر شهراً، أخبرني توم خلال الجنازة أن أورورا عادت مؤخراً لتأخذطفلتها وغادرت بعد يومين. ولم تحضر صلاة دفن أمّها. وقال لي توم ربما كانت ستأتي، لكن أحداًلايعرف كيف أو متى يتّصل بها.

رغم ما أصاب العائلة منمشاكل، ورغمأنه فقد أمّه وهوفي الثالثة والعشرين من العمر، لم يكن يساورني أدنى شك بأن توم سيتألق وسيصبح شخصاً مرموقاً في هذا العالم. فقد كان ثابت العزيمة، ولا يمكنه أن يفشل، وكان يتمتع بشخصية شديدةالصلابةلا يمكنلرياحالحزن المتقلّبة والحظ العاثر أن تؤثر عليه. وخلال جنازة أمّه، كان يمشي مذهولاً، يتملكه الحزن والأسى. وربما كان عليّ أن أحدّثه أكثر، لكنني كنت أنا أيضاً مشوشاً، فاقداً صوابي، ولم يكن بوسعي أن أقدم له شيئاً. قليل من المعانقة، وبضع دموع مشتركة، لكن كان ذلك كل شيء. ثم عاد إلى آن آربر، وفقد أحدنا الاتصال بالآخر. وكنت غالباً ألوم نفسي على ذلك، إلا توم كان في سن يجعله يأخذ المبادرة، ويستطيع أن يكتب ليرسالةعندما يشاء، أو إن لم يكن لي، فليرسل شيئاً لابنةخاله، راشيل، التي تعيش في ذلك الوقت في الميد ويست أيضاً، تدرس دراساتها العليا في شيكاغو. فقد كان أحدهما يعرف الآخر منذ طفولتهما، وكانا دائماً على وفاق، لكنه لم يقدم على أي خطوة تجاهها أيضاً. وكنت أشعر بين الحين والآخر بوخزالضميرعندما مرت السنوات، لكنني كنت أنا نفسي أمرّ بفترة عصيبة (مشاكل زوجية، مشاكل صحية، مشاكل ماليةوكنت مشغول البال دائماً إلى درجة أني قلما كنت أفكّربه. وعندما كنت أفكّر به، كنت أتخيلهوهو يشق طريقه فيدراسته، ويرتقي السلم الأكاديمي. وفي ربيع عام 2000، كنت واثقاً من أنه حصلعلى وظيفةمحترمة في مكان مرموق مثل جامعة بيركيلي أو كولومبيا - نجم مثقف صغير منكب على تأليف كتابه الثاني أو الثالث.

تخيّل إذن دهشتي عندما دخلت إلى سقيفة برايتمان في صباح يوم الثلاثاء ذاك من شهر أيار،ورأيتابن أخي جالساً وراءالكاونتر، يعيدقطعاً نقدية صغيرة لإحدى الزبونات. ومن حسن حظيأني رأيت توم قبل أن يراني. ويعلم اللّه ما الكلمات المؤسفة التي كانت ستنسل من بين شفتي لو لم تكن أمامي العشر ثواني أو الاثنتا عشر ثانيةحتى أمتص الصدمة. ولا أشير هنا إلى الحقيقة غير المحتملة بأنه موجود هنا يعمل أجيراً في مكتبة للكتب المستعملة فقط، بل أشير أيضاً إلىتغيّر مظهره الجسديتغيراً جذرياً. فقد كان توم مربوع القامة. وكانت قد حلت به اللعنة بأنه اكتسب جسد فلاحذا عظامكبيرة خلق ليحملأوزاناً ثقيلة - هدية ورثها عن أبيه الشبه مدمن على الكحول - لكنه رغم ذلك، كان مظهره جيداً بعض الشيء عندما رأيته آخر مرة. نعم كان ضخم الجثة، لكن العضلات كانت تكتسي جسدهوكان قوياً أيضاً، وكان يتقافزفي خطوته مثل عدّاء. أما الآن، وبعد سبع سنين، فقد ازداد وزنهثلاثين أو خمسة وثلاثين باونداً، وكان يبدو سميناً وقصيراً. وبرزت ذقن ثانية تحت خطّ فكّه، حتى يداهأصبحتاغليظتين ومكتنزتين، وهو شيءيحدث لأشخاص فيمتوسط العمرعادة. كان مشهداً مؤذياً. فقد انطفأت الشرارة التي كانت تنطلق من عينيّابن أختي، وأصبح كلّ شيء فيه يشي بالهزيمة.

بعد أن دفعت الزبونة ثمن الكتاب، اقتربتوأخذت مكانها الذي أصبح شاغراً، ووضعت يدي على الكاونتر، وانحنيت إلىالأمام. وصادف حينها أن توم كان مطرقاً برأسه في تلك اللحظة ينظر إلى الأرض، وهو يبحث عن قطعة نقديةكانت قد سقطت على الأرض. تنحنحتوقلت: "هيه، أنت هناك، توم. لم أرك منذ زمن بعيد".

رفع ابن أختيبصره إلىالأعلى. في بادئ الأمر، بدا مشوشاً ومرتبكاً تماماً، وخشيت أنه لم يعرفني. لكن ما أن مضت لحظة واحدة حتى بدأ يبتسم، وفيما استمرتالابتسامة ترتسم على وجهه، تشجّعت عندما رأيتأنهاكانت ابتسامة توم القديمة ذاتها،وقد أضيفت إليها مسحة من الكآبة، ربما، لكنها لم تكن كافيةلأنتغيّره كثيراً كما خشيت.
صاح: "الخال نات! ماذا تفعل بحقّ السماءهنا فيبروكلين؟"

قبل أن أجيبه، خرج بسرعة من وراءالكاونتر،وطوقنيبذراعيه. ولدهشتي الكبيرة، اغرورقتعيناي بالدمع.




وداعاً أيها البلاط

في وقت لاحق من ذلك اليوم، دعوته لتناول طعام الغداء في مطعم كوزميك. وقدمت لنا مارينا البهية سندويتشات بالديك الرومي وقهوة باردة، وغازلتهاأكثر من المعتاد، ربما لأنني كنت أريد أن أثير إعجاب توم، أو ربما لأنني كنت ببساطة مبتهجاً. لم أكن أدرك مدى اشتياقيللدكتور إبهام اليد، وتبين الآن أننا كنّا جارين في الحيّ -نقيم بالصدفة المحضة –لا يفصلنا سوى حارتين في مملكة بروكلين القديمة، في نيويورك.

قال إنه يعمل في مكتبة سقيفة برايتمان منذ خمسة أشهر، وأن السبب الذي جعلني لا أصادفه من قبللأنه كان يعملبشكل دائمفي الطابق العلوي، يعدّالكتالوغات الشهرية للكتب والمخطوطات النادرةفيمكتبة هاري، التي كانت تدر ربحاً أكبر بكثير من بيع الكتب المستعملة في الطابق الأرضي. ولم يكن توم بائعاً، ولم يعملعلى صندوق النقد مطلقاً، إلا أنه كان لدى الموظفالمسؤول عن ذلكموعداً مع الطبيب في ذلك الصباح، وطلب هاري من توم أن يحل مكانهإلى أن يعود إلى المكتبة.

وتابع توم أنه لا يوجد شيء يمكن أن يتفاخر به عن هذا العمل، لكنه كان على الأقل أفضل من العمل كسائقتاكسي، وهو العمل الذي كان يقوم به منذ أن ترك دراسته العليا في الجامعة وعاد إلى نيويورك.

"متى كان ذلك؟"سألته، باذلاً ما بوسعي لإخفاء إحباطي.

فقال: "قبل سنتين ونصف. كنت قد أنهيت دراستيالفصلية، ونجحت في امتحاناتي الشفويةوبدأت أعمل علىالأطروحة. لقد بدأت عملاً أكثر مما أستطيع تحملهيا خال نات".
"إنس كلمة خال نات، يا توم. نادني فقط ناثان، كما يناديني الآخرون. الآن وبعد أن ماتت أمّك، لم أعد أشعر بأني خالك".

"حسناً، يا ناثان. لكنك لا تزال خالي، شئت أم أبيت. وربما لم تعد العمّة إديث زوجة خالي، كما أظن، حتى لوأنزلت إلى فئة زوجة خال سابقة، أما راشيل فهي لا تزال ابنة خالي، وأنت لا تزال خالي".

"نادني ناثان فقط، يا توم".
"سأفعل، يا خال نات، أعدك بذلك. من الآن وصاعداً، سأخاطبكدائماً ناثان. وبالمقابل، أريدك أن تنادني توم. لا الدكتور إبهام الإصبع، اتفقنا؟ فهذا يزعجني قليلاً".
"لكني كنت أناديك دائماً هكذا. حتّى عندما كنت صبياً صغيراً".
"وكنت دائماً أناديك الخالنات، أليس كذلك؟"
"حسناً. ألقي سيفي إذن".
"لقد دخلنا عصراً جديداً يا ناثان. عصر ما بعد العائلة، عصر ما بعد الطالب، عصر ما بعد ماضي عائلتي غلاس وود".
"ما بعد الماضي؟"
"الآن. وكذلك في ما بعد. لكن لم نعد نفكر بما سيحدث".
"ماء تحت الجسر يا توم".
أغمض الدكتور إبهام الإصبع السابق عينيه، وأمال رأسه إلى الخلف، ورفع سبابتهفي الهواء، وكأنه يحاول أن يتذكر شيئاًنسيه منذ عهد بعيد. ثمّ، وفي صوت مسرحي متجهّم، راح يتلوالسطورالافتتاحية لريلخة "وداعاً أيها البلاط":


كالأحلام الكاذبة، انتهتمباهجي،
ومضت جميع أيام الوداد،
لقد ضلّل حبّي، وانزوى هواي:
ومن كلّ هذا ماضي، لم يتبق سوى الحزن.

  رد مع اقتباس
قديم 20 / 02 / 2008, 32 : 06 PM   رقم المشاركة : [3]
أ. د. صبحي النيّال
ضيف
 


رد: حمــــــــاقات بـــــــــــروكليـن



الـــمـــطـــهــر

لا ينشا أحدوهو يفكر أنه مصيره سيصبح سائق تاكسي، أما في حالة توم، فقد اتخذ هذا العملكشكل قاس من أشكال التكفير عن ذنبه، ووسيلة للحزن علىانهيار معظم طموحاته التي كان يحلم بها. ولم يكن يريد الكثير من الحياة، إلا أن الشيء القليل الذي كان يريدهتبين أنه خارج قبضته: لإنهاء شهادة الدكتوراة، لإيجاد مكان في أحد أقسام اللغةالإنكليزية فيجامعة ما، ثم يمضي السنوات الأربعينأو الخمسينالقادمة وهو يعلّمويكتب عن الكتب. كان ذلك كلّ ما يطمح إليه، وربما زوجة تدخل في هذه الصفقة، ومعهاطفل أو طفلان. ولم يكن يبدو أنه كان يطلب الكثير، إلا أنه بعد ثلاث سنوات من الكفاح لكتابة أطروحته، فهم توم أخيراً أنهليس بمقدرته أن ينهيها. أو حتى لو كان يستطيع ذلك، لم يتمكن من إقناع نفسهبقيمةالقيام بها. لذلك ترك آن آربر وعاد إلى نيويورك، وهو في الثامنة والعشرينمن العمر، ولا توجد لديه أي فكرة إلى أين سيمضي أو أي منعطفستأخذه حياته.
في بادئ الأمر، لم يكن التاكسي سوى حلّ مؤقت، إجراء مؤقّت لتسديد الإيجار فيمايبحث عن عملآخر. وراح يبحث أسابيع عديدة، إلا أنه لم تكن هناك شواغر فيأعمال التدريس في المدارس الخاصّة في ذلك الوقت، وما أندخلفي طاحونةعمله مدة اثنتي عشر ساعة كل يوم، بدأ دافعه للبحث عن عمل آخر يقل. وبدأ المؤقت يبدو أنه دائم، ومع أن جزءاً من توم كان يعرف أنه يترك نفسه متجهاً إلى الجحيم، كان جزء آخر منه يعتقدأن هذا العمل ربما كان يحسن صنعاً له، بأنه إذا ركّز على ما يفعله ولماذا كان يفعله، فإن التاكسي سيعلمهدروساً لا يمكنه أن يتعلمها في أي مكان آخر.

ولم يكن من الواضح له دائماًما هي تلك الدروس، إلا أنه فيما كان يطوف الشوارع والجادات في سيارتهالدودج الصفراء من الساعة الخامسة بعد الظهر إلى الخامسة صباحاًستة أيام في الأسبوع، لم يكن هناك شكبأنه تعلّم تلك الدروس جيداً. أما مساوئ هذا العملفكانت جلية تماماً، شاملة، وساحقة جداً، إلى حد أنك إذا لمتجد وسيلةلتجاهلها، فقد كتبت عليك حياة لا تنتهي من المرارة والشكوى. الساعات الطويلة، الأجر المنخفض، الأخطار الجسدية، عدم ممارسة الرياضةفما أنتترسخ لديك هذهالأشياء، حتى لاتعودتفكربتغييرهاأكثر مما تفكّر بتغيير الطقس. كم مرّة سمعأمّه تقول له تلك الكلمات عندما كان صبياً؟ "إنك لا تستطيع أن تغيّر الطقس، يا توم"، كانت جون تقول له، بمعنى أن هناك بعض الأشياء تكون كما هي، وليس أمامنا من خيار سوى أن نقبلها. وقد فهم توم هذا المبدأ، إلا أن ذلك لم يمنعهمن أن يلعن العواصف الثلجية والرياح الباردة التي تهب على جسدهالضئيل المرتعش. وها هو الثلج يسقط ثانية الآن. وتحولت حياته إلى معركة طويلة ضد عناصر الطبيعة، وإذا كان ثمة وقت لكي يبدأ ويتذمرمن الطقس، فقد كان هذا. لكن توم لم يتذمّر. ولم يتأسف توم على نفسه. بل وجد وسيلة للتكفير عن غبائه، وإذا تمكن منالنجاة من هذه التجربة دون أن يخسر قلبه تماماً، عندها ربما يوجدلديه أمل. وبالتصاقهبالتاكسي، لم يكن يحاول أنيستغل أفضل شيء من وضع سيئ. بل كان يبحث عن وسيلة لجعل الأشياء تحدث، وإلى أن يفهم ما هي هذه الأشياء، لن يحق لهأن يطلق نفسه من قيد عبوديته.

كان يعيش في شقّة مؤلفة من غرفة واحدةعند زاوية الجادة الثامنة والشارع الثالث، كان قداستأجرها من الباطنمنذ مدة طويلةأجرّه إياها صديق صديقه الذي ترك نيويورك وحصل على وظيفةفي مدينة أخرى – بطرسبرغ أو بلاتسبيرغ، لا يذكر توم أيهما. كانت غرفة صغيرة موحشةفيها دش معدني في الحمّام، ونافذتان تطلان على جدار من الآجر، ومطبخ صغير جداً الذي فيه ثلاجة صغيرةوموقد غازذي فتحتين. وخزانة كتب، وكرسي، ومنضدة، وفراشعلى الأرض. كانت أصغرشقّة عاش فيها في حياته، لكن الإيجار كان مثبتاً على مبلغأربعمائة وسبعة وعشرين دولاراً في الشهر، وشعر توم بأنه محظوظبالحصول عليها. ففي السنة الأولى من انتقاله إليها، لم يكن يمضي فيها وقتاً كثيراً في أيّ حال. فقد كان ينحو للخروج والتسكع، يبحث عن أصدقاء قدامى من المدرسة الثانويةوالجامعةالذين حط بهم الرحال في نيويورك، ويلتقي بأناس جدّد من خلال أصدقائه القدامى، ينفق نقوده في الحانات، ويضرب مواعيد مع النساء عندما تتاح له الفرصة، وكان يحاول أن يرسم لنفسه حياة له - أو شيئاً يشبهالحياة. وفي كثير من الأحيان، كانت هذه المحاولات في المؤانسة والاختلاط الاجتماعي تنتهي في صمت ممض. وقد أصيب أصدقاؤه القدامى، الذين كانوا يتذكرونه عندما كان طالباًذكياً ومتحدثاًلبقاً مفعماً بالمرح، بالفزعمما حدث له. وانزلق توم من مرتبةالمميزين، وبدا أن سقوطه أخذ يهز ثقتهم بأنفسهم، ليفتح الباب أمام تشاؤم جديد حول فرصهم في الحياة.ولم يعد توم يعبأ إن ازداد وزنه، وأن سمنته السابقة بدأت الآن تصبح تكوّراًعلى نحو محرج، لكن الشيء المزعج أكثرأنه لم تكن لديه خطط، وأنه لم يتحدث عن كيف يمكنه أنيوقف الضرر الذي ألحقه بنفسهويقف على قدميهثانية. وعندما كان يذكرعمله الجديد، كان يصفه بأنه عملغريب، وبتعابير تكاد تكون دينية، ويتحدث عن هذه الأمور باعتبارهاقوة روحية وعن أهمية أن يجد المرء طريقهمن خلال الصبر والتواضع، مما جعلهم يشعرون بالاضطرابويتململون في كراسيهم. لم يكن عمل توم هو الذي جعل ذكاءه بليداً، إلا أن أحداً لم يعد يرغب فيأن يستمع إليه، ناهيك عن النساء اللاتي كن يحدثهن، اللاتي كن يتوقعنأن الشباب مفعمين بالأفكار الجريئةوالخطط الذكية التي سيغزون العالم بها. لكن توم كان يحبطهن بشكوكه والبحث عن الروح، وخطبه الغامضة عن طبيعة الواقع، وسلوكه المتردد. كان من السيءأن يعملسائق تاكسي ليكسب رزقه، لكن سائق تاكسي رصين، يرتدي ملابس البحرية في الجيش ويحمل كرشاًفي وسطه كان شيئاً أكثر من اللازم. وبالطبع كان رجلاً لطيفاً، ولم يكن هناك أحد يمكن أن يكرهه، لكنّه لم يكن مرشّحاً شرعياً - ليس للزواج، بل وليس حتى لإقامة علاقة مؤقّتة مجنونة.

وبدأ ينطوي علىنفسه أكثر وأكثر. ومضت سنة أخرى، وبلغت عزلة توم آنذاكذروتهاعندما أمضى عيد ميلاده الثلاثين وحيداً. وفي الحقيقة كان قد نسي عيد ميلاده، وبما أن أحداًلم يتصل به ليهنئه أو يبلغه أمنياته، لم يتذكر ذلك إلاالسّاعة الثانية منصباح اليوم التالي. وكان آنذاك في منطقة كوينز، وبعد أن أوصل رجليّأعمال ثملينإلى نادي للتعرييدعى"حديقة المسرّات الدنيوية"، ولكي يحتفل ببداية العقد الرابع من وجوده، اتجه إلى مطعم "ميتربوليتانداينر"على نورثرن بوليفار، جلس إلى الطاولة، وطلب لنفسهكوكتيل حليب بالشوكولاته، وسندويشتي هامبرغر، وصحن بطاطا مقلية.

إن لم يكن لهاري برايتمان، لا يعرف أحدكم إلى متى سيبقى في هذا "المطهر". وكانت مكتبة هاري تقع على الجادة السابعة، على مسافة بضع حاراتمن مكان إقامةتوم، ودأب توم على أن يتوقفعند مكتبة "سقيفة برايتمان وأصبح ذلك جزءاً من روتينه اليومي. وقلما اشترى شيئاً، لكنّه كان يحلو له أن يمضي الساعة أو نصف الساعة قبل أن يحلّ موعد نوبته في التاكسي وهو يتصفح الكتب المستعملة في الطابق الأرضي. آلاف الكتب محشورةعلى الرفوف هناك - كلّ شيء بدءا من القواميس التي نفذت طبعاتهاإلى مجموعات شكسبير المجلّدة وكان توم يشعر دائماً بالارتياحفي ذلك الضريح من الأوراق، يتصفّح أكواماً من الكتب المهجورةويتنفس الروائح المغبّرة القديمة. وفيإحدى زياراته الأولى، سأل هاري سؤالاً عنشيء معين في سيرة كافكا الذاتية، ودخل كلاهما في حديث. كان ذلك أول حديث من الأحاديث العديدة التي تكررت بعد ذلك، وبما أن هاري لم يكن موجوداً دائماً عندما يأتي توم (كان يمضي معظمأوقاته في الطابق العلوي)، وأصبحا يتحدثان أكثر في الشهور التالية عندما عرف هاري اسم المدينة التي ولد فيها توم، وبعد أن علمبمسألةأطروحة توم المجهضة (قصيدة كلاريل ميلفيل الضخمة الملحمية غير الصالحة للقراءة)، وعندما استوعب الحقيقة أن توم لم يكن لديهاهتمام في مضاجعة الرجال. ورغم هذا الإحباط الأخير، لم يستغرق هاري وقتاً طويلاً ليفهم أن توم يصلح لأن يكون مساعداً مثالياًلعمله في الكتبوالمخطوطات النادرةفي الطابق الثاني. فلو عرض عليه العمل مرة، كان قد عرضه عشر مرات، لكن رغم ذلكأصرّ توم على رفضه، ولم يفقد هاري الأمل بأنه سيوافق ذات يوم. وفهم أنّ توم يمر في مرحلة سبات، يتصارع بشكل أعمى مع ملاك مظلم من اليأس، وأن الأشياء ستتغيّر معه في نهاية الأمر. كان ذلك أكيداً، حتى لو لم يكن توم يعرف ذلك نفسه. لكنه ما إن عرف ذلك، حتى انقلب كلّ ذلكالهراء المتعلق بالتاكسي سيارة إلى مجرد غسيلوسخ من الأمس علىالفور.

وكان توم يجد متعة بالتحدث إلى هاري لأن هاري كان شخصاً ظريفاً وصريحاً، رجلاً مراوغاًولديه كل هذهالتناقضات المفرطة إلى درجة أنك لا تعرفما سيخرج من فمهبعد ذلك. وعندما تنظر إليه، يخيّل إليكأنه ملكة نيويورك عجوز أخرى. كلّ ذلك الهراءالسطحيّ المحددلتحقيق ذلك التأثير الوحيد - الشعر والحواجب المصبوغة، ويضع لفاعاً حريرياً حول رقبتهوسترة رياضية مطبوع عليها اسم ناديلليخوت، وطريقته الأنثوية في الكلام - لكن ما أن تعرفه قليلاً؛ حتى يبدو هاري رجلاً فطناًوصعباً. وثمة شيء استفزازي في طريقة حديثهمعك،بطريقة هجوميةذكيةتجعلك تريد أن تعطيه ردود جيدة عندما يبدأذلك السيل الماكر منالأسئلة الشخصية جداً. ومع هاري، لم يكن يكفي أبداًأن تجيب على أسئلته فقط. إذ يجب أن يكونهناكألق وبريق لما تقوله، شيء حماسي اليثبت أنك أكثر من مجرد بليد آخر يتهادى بتثاقل على طريق الحياة. وبما أن تومكان يرى نفسه إلى درجة كبيرة في تلك الأيام، كان يجب عليه أن يبذل ما بوسعهكي يصل إلى غايتهعندمايتحدث مع هاري. وهذا ما كان يشدهبقوةفي حديثهما. فقد كان توم يحب أن يفكّر بسرعة، وكان يجدفي ذلك دافعاً له لأن يتحرك عقله فياتجاهات لم يعهدها للتغيير،لكي يضطر للبقاء واقفاً على أصابع قدمه. وبعدمضي ثلاثة أو أربعة أشهر من حديثهما لأول مرة- عندما لم يكد أحدهما يعرف الآخر جيداً، ناهيك عن أن يكونا صديقين أو رفيقين - أدرك توم أنه من بين جميع الناس الذين كان يعرفهمفي نيويورك، لم يكن هناك رجل أو امرأة يتحدث معه بصراحة أكثر من هاري برايتمان.

ومع ذلك ظل توم يرفض عرض هاري. ولأكثر من ستّة أشهر، صدعروض تاجر الكتب للعمل معه، واختلق في ذلك الوقت أعذاراً عديدةمختلفة، وأوجد أسباباًعديدةعن السبب الذي جعل هاري لا يبحث عن شخص آخر، وأنرفضه أصبح نكتة دائمة بينهما. ففي البداية، استخدم توم كل وسيلة للدفاع عن مزايا مهنته الحالية، يرتجل نظريات مدروسةعن القيمة الوجودية لحياة سائق تاكسي. فقد كان يقول "إنها تمنحكوسيلة مباشرةلمعرفة الوجود عديم الشكل"،باذلاً جهده لأن لا يبتسموهو يهزأبلغةوعبارات ماضيه الأكاديمي، "نقطة دخول فريدة إلى بنى الكون التحتية الفوضوية. إذ إنك تقود سيارتك حول المدينة طوال الليل، ولا تعرف أبداً إلى أين ستتجه بعد ذلك. يصعد زبون إلى المقعد الخلفيفي سيارتك، ويطلب منك أن تأخذه إلى مكان معين، وتذهب إلى هناك. ريفيرديال، غرين فورت، موراي هيل، فار روكاواي، الجانب المظلم من القمر. وكلّ اتجاه تأخذه يكون اعتباطياً،، كلّ قرار تحكمه الصدفة. تطوف، تقود يمنة ويسرة، تصعد وتهبط، وتصل إلى هناك بأقصى سرعتك، لكنّ لا يوجد لك رأي حقاً في هذا الأمر. إنك لعبة بيد الآلهة، ولا توجد لديك إرادة تنبع منك. إن السبب الوحيد الذي جعلك تكون هناك هو لتلبية نزوات الناس الآخرين".

"وأي نزوات"، يقول هاري، حاقناً بريقاً خبيثاًفي عينه، "أي نزوات شريرة يجب أن تكون. أراهن أنكرأيت مجموعة منها في المرآة الخلفية في سيارتك".
"اذكر ما تشاء يا هاري، وأقول لك إني رأيته. استمناء، نكاح، انتشاء في جميع أشكاله. قيء ومني، خراء وبول، دم ودموع. في كل مرة، كان سائل إنساني ينسكبفوق المقعد الخلفي من سيارة".
"ومن ينظفها؟"
"أنا أفعل ذلك. إنه جزء من العمل".

"حسناً، فقط تذكّر أيهاالشاب"، يقول هاري، وهو يضغط قفا يده على جبهته في حركة إغماء مزيفة، "عندما تأتي لتعمل معي، ستكتشف أن الكتب لا تنزف. وهي بالتأكيد لا تتغوط".
"هناك لحظات جيدة أيضاً"، يضيف توم، لا يريد أن يترك هاري أن يقول الكلمة الأخيرة. "لحظات دائمة من النعمة مشاعر بالبهجة، معجزات غير متوقّعة. وأنت تنزلقفيميدان تايمز سكوايرفي الساعةالثالثةوالنصفصباحاً، وتكون قد فرغت منحركة المرور وفجأة تجد نفسك وحيداً في مركز العالم، ومصابيح النيون تهطل فوقك من كلّ زاوية في السماء. أو تدفع عدّاد السرعة حتى السبعين ميلاًعلى طريق باركواي الدائري قبل الفجر مباشرةوتشم رائحة المحيط وهي تهب عليكمن النافذة المفتوحة. أو أنك تعبر جسر بروكلين في اللحظة التي يصعد فيهاالبدر إلى القوس، وهذا كلّ ما يمكنك أن تراه، استدارة القمر الأصفر اللامع، كبير جداً إلى درجة يرعبك، وتنسي أنك تعيش هنا على الأرض وتتخيّل أنك تطير، بأن للتاكسي أجنحة وأنك تطير حقاً في الفضاء. لا يمكنلكتاب أن يدوّنهذه الأشياء. إني أتحدّث عن سموّحقيقي، يا هاري. تتركجسدكخلفك وتدخل فيامتلاء وسماكةالعالم".

"ليس من الضروري أن تقود تاكسياً لتفعل ذلك، يا بني. أيّ سيارة قديمة ستفعل ذلك".

"لا، يوجد فرق. بالسيارة العادية فإنك تفقد عنصر العمل الشاق، وهذا شيء أساسي في التجربة برمتها. الإعياء، الملل، التشابه المضجر لكلّ ذلك. ثم، وفجأةينتابك إحساس قليلبدفق من الحرية، لحظة أو لحظتان من النعمة الحقيقية. لكنّك يجب أن تدفع ثمن ذلك. فبدون العمل الشاق، لن تشعر بهذه النعمة".
لا يعرف توم لماذا قاوم هاري بهذه الطريقة. فلم يكن يؤمنبعشر الأشياء التي قالها له، لكن في كلّ مرة يثار فيها موضوع تغيير الوظائف ثانية، كان يتشبثبموقفه ويبدأ في نسج أحاديث سخيفة وتبريرات ذاتية. وكان توم يعرف أنه سيكون له من الأفضلإذا عمل مع هاري، لكن فكرة أن يصبح مساعداًلتاجر كتبلم تكن فكرة مثيرة بالنسبة له، ولم تكن من الأشياء التي يفكر بها عندما بدأ يحلم في إعادة ترتيب حياته ثانية. كانت خطوة صغيرة جداً، بطريقة ما، شيء ضئيل للغاية يقبلهبعد أن فقد الشيء الكثير. وهكذا استمر الغزل بينهما، وكلما زاد احتقار توم لعمله، دافع عن كسله بعناد أشد؛ وكلما اشتد كسله، زاد احتقارهلنفسه. فقد أثّرت عليه هزة بلوغه الثلاثين في مثل هذه الظروف الكئيبة، لكنها لك تكن كافية لأن ترغمه على العمل، ومع أن وجبة طعامه في مطعم كوزمبوليتان داينرقد انتهت بقرار لأن يبحث عن عمل آخر في موعد أقصاه شهر واحد من تلك الليلة، وعندما مر شهر كان لا يزال يعمل لدى شركة دي-3 لسيارات الأجرة. وكان توم يتساءل دائماً إلى ماذا يرمز حرف "دي"، وظن الآن أنه اصبح يعرف. "الظلام، والتحلل، والموت". وأخبر هاري بأنه سيدرس عرضه، ثم لم يقدم على أي شيء، كما كان يفعل دائماً. لو لا ذلك الرأس المحشو بالمخدراتالذي سدد مسدساً إلى حنجرته في ناصية الشارع الرابع والجادة بيفي ذات ليلة باردة من ليالي كانون الثاني، من كان يعرف إلى مدى سيستمر في عمله؟ لكن توم فهم الرسالة أخيراً، وعندما دخل مكتبة هاري في صباح اليوم التالي وأخبره أنه قرّر قبول العمل معه، انتهت أيامه كسائق تكسيعلى حين غرة.

"أنا في الثلاثينمن عمري"، قال لرئيسه الجديد، "ولدي زيادة في الوزن تبلغ أربعين باونداً. ولم أنم مع امرأة منذ أكثر من سنة، وفي والإثني عشر يوماً الماضية حلمت باكتظاظ حركة المرور في إثني عشر جزءاً مختلفاًفي المدينة. يمكن أن أكون مخطئاً، لكن أظن أني مستعد للــتغيير".
  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 19 : 05 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|