هبة جارتي الصغيرة
انتبهت إليها قبل مدة كانت أصغر من اليوم، تسكن بالإقامة ذاتها ، في عمارة لصيقة ، كثيرا ما كانت تطل من نافذة بيتها، تراقب المارين والعابرين، تخاطب هذا وذاك بصوت مرتفع، وأحيانا لا يسمع من النافذة إلا صراخها كأنها تتعمد أن تفعل ذلك كلما مر شخص ، ربما لإثارة الانتباه، أو لمعرفة رد فعل الآخر، أو ربما تعبيرا عن شيء تقصده لا يفهمه غيرها، أو لعلها كانت ترغب في أن تطأ قدماها هذه الأرض التي تطل عليها من الطابق الثاني حبيسة نافذة، كعادتي لا أتجرأ مع ذلك على أن أرفع عيني ناحية النوافذ، ولكني أذكر مرة نداءها بأصوات لا معنى لها - بالنسبة إلي حينها؛ وعندها ربما كانت بألف معنى ، التفت إليها، لوحت بيديها لي وصرخت أكثر، إنها ... إنها طفلة صغيرة جميلة .. إنها من أطفال التثلث الصبغي، هذا الأمر كان يعجبني عن التعبير، كنت كلما صادفت أحدا هكذا، اكتفيت بالابتسامة، أشعر كأن عيني ستدمعان أمامه فأحتار في تصرفاتي وأفعالي، وكثيرا ما أفضل الانسحاب سريعا أو المراقبة عن بعد، أعرف أن هذا كان تصرفا سلبيا مني ، لكنه لم يكن مقصودا ، أكملت طريقي باتجاه البيت، وفي قلبي شيء من هذه الطفلة، منذ ذلك اليوم صرت كلما خرجت من البيت أخطف نظرة ناحية تلك النافذة كأني أبحث عنها، فإن رأيتها، سبقتها بابتسامة ولوحت لها بيدي، لكني كنت قليلة الحضور هناك ، حيث كنت أعمل بعيدا عن مدينتي، ثم لظروف أخرى لا أكون بالبيت كثيرا، وأخيرا صرت أجدها مع الأطفال، تحاول أن تأخذ لهم الكرة وتلعب أيضا معهم، أو تظل واقفة تراقبهم ، أو تجري وحدها وهي تصرخ بكلمات مفهومة أحيانا وغير بارزة أحيانا أخرى ...
قبل مدة كنت عائدة باتجاه البيت محملة بأشياء ثقيلة، بالكاد آخذ نفسي وأطمئن على سلامة يدي، انتبهت إلى أنها تنظر إلي من بعيد، كانت تلعب الكرة مع مجموعة أطفال ، ولأجل ابتسامتها وبقية الأطفال، نسيت ثقلي ، وابتسمت، ضربت الكرة التي وصلت ناحيتي بقدمي، دون قصد اتجاه معين، وتعالت هتافات الأطفال " كريستيانو رونالدو .. ميسي ..." ، وصفقت الصغيرة، والابتسامات قد صارت خاتما على كل طفل بالمكان حتى أنا..
بعد أيام من ذلك صرت أسمع صغيرتي تحدثان طفلة ثالثة عبر الشرفة غير حفصة وردينة اللتين اعتدت سماع اسميهما، وصوتيهما، كان اسمها "هبة"، أطللت من تكون، ففضولي لا يسمح لي بأن أسمع دون أن أرى حتى لو كانت أسماء وآلاء فصلتا لي في الحديث، كانت هبة هي نفسها تلك الطفلة ..
في الأحاديث التالية من الشرف، صارت أسماء وآلاء تأتيان إلي حيث أنا قابعة بالغرفة أو المطبخ ... وتلحان علي أن ألبي نداء هبة، لأنها طلبت أن ترى أمهما، فأطاوعهما وألبي النداء ، فأذهب وقد سبقتني إليها ابتسامتي، فأسألها إن كانت نادتني حقا، وتؤكد ذلك، بهدوء وابتسامة، وحين أهم بالانصراف ترسم لي قلبا بأصابعها.
لقد علمتني هذه الصغيرة معنى آخر جميلا من معاني سمو الحب، صرت أيضا كلما سمعتها، ذهبت لأشكل بأصابعي قلبا مشابها، ويكون قلبها دائما أجمل، كنا نتابدل القبل هكذا بين الشرفتين ، حتى التقيتها مرة وهي مع الأطفال بالشارع ، ناديتها ؛ فتقدمت نحوي، كان الوقت قبيل أو بعيد صلاة العشاء ، طلبت منها قبلة، ففعلت، سألتها إن كانت تعرفت علي، فردت بلا، أخبرتها أني أم أسماء وآلاء، ابتسمت،ثم أردفت: أنت خولة؟
- نعم
_ ابنتاك تقولان إنك خوخة ..
لم أتمالك نفسي من الضحك وأجبت بنعم، أعرف . ثم أشارت إلى أنها فقط لم تستطع التعرف علي سريعا بالشارع ولكنها الآن لن تنساني، شكلت قلبا جديدا، طلبت منها ألا تبتعد كثيرا عن البيت ، وانصرفت، منذ ذلك الحين وأنا أسمعها تنادي هي الأخرى من شرفتها: خولة أو خوخة، فألبي نداءها ، وتبتسم مشكلة قلبا ..
شكرا لك هبة ..
في جعبتي حكايات حب مع أطفال آخرين ..
انتظروني