الأحجية الشعبية المكناسية بين دهاء العقل وسمر الروح
يعد اللغز أو الأحجية الشعبية شكلا من أشكال التراث الشفهي الذي تناقلته الأجيال عبر الزمن و غالبا ما تتجلى في صورة سؤال يطرح بطريقة رمزية و غامضة بهدف اختبار الذكاء او إثارة الفضول او التسلية و يطلب من المتلقي أن يخمن الجواب باستخدام المنطق وغالبا ما تكون الأحاجي مصاغة بأسلوب بسيط ، مسجوع او إيقاع موسيقي يساعد على تداولها بسهولة و وتناقلها جيلا بعد جيل و قد لعبت الأحجية دورا أساسيا و مهما في المجتمعات التقليدية اذ لم تكن فقط مصدرا للتسلية و الترفيه بل كانت أيضا وسيلة للتربية و التعليم و نقل المعارف و القيم الاجتماعية و الثقافية و تنمية التفكير المنطقي لدى الأطفال و الكبار على حد سواء و في مدينتي مكناس كانت الأحجية تستعمل بنفس الحمولة التثقيفية و الترفيهية فقد شكلت دائما جزءا من من جلسات السمر العائلية ووسيلة لتقوية الروابط الاجتماعية كما يتم استحضارها في المناسبات الجماعية كالأعراس وخصوصا في الليالي الرمضانية من أجل الترويح عن النفس و شكل من أشكال التحدي الثقافي و التحفيز الفكري.وقبل أن أعرج للحديث عن اللغز في مدينتي مكناس وجدتني مضطرة إلى استجلاء معناه المعجمي؟ اذن ماهو اللغز؟و ماهي تمظهراته في مدينتي مكناس؟
جاء في تاج العروس للزبيدي أن (اللغز بالغين المعجمة ميلك بالشيء عن وجهه و صرفه عنه (1) .
و هذا يفيد المعنى الذي يدل عليه اصطلاح الألغاز التي يقصد بها تلك "الكلمات المسجوعة أو المنظومة التي تلقى في المجالس العامة و الخاصة في قالب أسئلة يختبر بها الناس ذكاء بعضهم بعضا و القاعدة فيها أن يورد اللغز قي شبه سؤال منظوم أو مسجوع عن شيء من الفكر للاهتداء إلى موضوع السؤال."(2)
و اللغز كما يبدو قديم قدم المثل و الأسطورة و الحكاية الشعبية . يقول: "موريس بلوم فيلد" Mores Bloomfield : ( إن اللغز نشأ منذ قديم الزمان حينما كان العقل البدائي يمرن نفسه على التلاؤم مع الكون الذي يحيط به) (3).
واذا كانت الالغاز فيما مضى تتوخى أن تكون "وسيلة للتسلية و قطع الوقت ، و مقياسا للذكاء و فحص البديهة و سرعة الفطنة." (4) خصوصا بالنسبة للصغار من أجل تدريبهم منذ النشأة على التفكير و إمعان النظر مما يساعدهم على التغلب على ما قد يصادفهم من مشكلات خلال حياتهم المستقبلية . فانها حتما تعبر أيضا عن الحكمة التي يمتلكها البعض من الناس ممن لديهم المقدرة على فهم عميق للأشياء يفوق إدراك الإنسان العادي.
أما الآن فأصبحت الألغاز مجرد باب من أبواب السمر الطريف الذي يستخدم في الكشف عن غباء الإنسان العادي بقصد السخرية و إشاعة جو من الضحك و المرح .هذا إذا لم تختف في ظل الحضارة و متطلبات المدنية . و إن كنت أرى أن هذا النوع من الأدب الشعبي يمكن تطويره و تطويعه لخدمة الأغراض التعليمية و التربوية فيما لو جعل مادة تكميلية تدرس في المدارس.
هذا و قد طرحت الأحاجي و ظهرت في مختلف التجمعات الإنسانية العربية منها و الغيرعربية و لعل أشهرها هي تلك الألغاز الموجودة في حكاية سليمان مع بلقيس ملكة سبأ حيث أرادت هذه الأخيرة أن تختبر ذكاء سليمان فطرحت عليه مجموعة من الألغاز منها :" ما معنى أن سبعة وجدوا مخرجا و تسعة وجدوا مدخلا و اثنان انساب منهما مجرى و واحد شرب من هذه المجرى ؟"
فأجاب سليمان : "أما السبعة فهم سبعة أيام الحيض، و أما التسعة ، فهو تسعة اشهر الحمل ، و أما الاثنان فهما الثديان، و أما الواحد فهو الطفل"(5)
و هناك أيضا اللغز المشهور الذي طرح على اوديب فسمي باسمه . فبعدما تربى أوديب بعيدا عن والديه لأجل تفادي نبوءة تقول: إنه سيقتل أباه يتزوج أمه ، قرر أوديب الرحيل إلى مدينة ثيبة "thébes" ليبتعد عن أبويه اللذين تربى في حضنهما ظنا منه أنهما أبواه الحقيقيان . و كانت المدينة قد ابتليت بوحش له وجه امرأة و جناح طائر و جسد أسد يطرح على أهل طيبة ألغازا محيرة ، و من فشل في فك اللغز يكون مصيره الموت، إلى أن جاء أوديب فطرح عليه اللغز الاتي: " ما الكائن الذي يمشي في الصباح على أربع و في الظهيرة على اثنين و في المساء على ثلاث " فأجاب أوديب بأنه " الإنسان " . فأنقد مدينة ثيبة و تولى عرشها و تزوج أمه بعد أن كان قد قتل أباه في طريقه إلى ثيبة ، و بذلك تحققت النبوءة (6) . اذن يبدو مما سبق أن للألغاز تأثيرا واسعا و كبيرا في الأوساط الشعبية لذلك نجد بعض "الأنواع الأدبية الشعبية مثل الأسطورة والحكايات الشعبية و الحكايات الخرافية تتضمن الألغاز"(7).
فاللغز مثلا هو شبيه بالأسطورة و إن اختلف ، ذلك " أن الأسطورة تعد جوابا عن سؤال ، و بالمثل ينتهي اللغز بجواب أو حل ، و إلا فإنه لا يعد لغزا ، كما أن النوعين يطلعان الإنسان على نوع من المعرفة التي تصل في الأسطورة الكونية إلى حد المعرفة العقدية ، و في اللغز إلى البحث عن حقائق الأشياء"(8). واذا نحن اقتربنا من الاوساط الشعبية في مدينتي مكناس فاننا سمجدها تتمظهر في نوعين اثنين لا ثالث لهما:
أولا: نوع سهل خفيف، يقتصر فيه على ذكر الصفات القريبة للشيء ، قد يهتدي إلى حله بسرعة كل من يملك قدرا من الذكاء مثال ذلك :
- اللغز : "حاجيتك و كون ما هما ما جيتك"
- الجواب : " هما الرجلان "(9)
- - و نوع صعب معقد تستحضر فيه الصفات البعيدة للشيء ، و لا يسهل حله إلا على من له فطنة دهاء و مرونة توازي دهاء واضع اللغز تماما مثال ذلك:
اللغز : جاجيتك على : المقوس الكحل نزل من السما يتحلحل ضرب الشهدة و خلا النحل ؟ "
الجواب : " هو المنجل الذي يقطف السنابل و يترك التبن "(10) .
و الظاهر أن هذا النمط من الادب الشعبي يعتمد في طرح السؤال :
إما على الصيغة الاستفهامية المباشرة باستعمال أدوات الاستفهام من مثل : (( أشنوهو))((أشنوهي)) كما في اللغز اآتي:
اللغز:" أشنوهواللي دفعني و ودفعتو دورت وجهي ما جبرتو."
الجواب : "إنه الريح"(11) .
أو على الصيغة الاستفهامية الغير مباشرة التي تبدأ غاتبا باللفظة (( جاجيتك )) مثلا :
اللغز: " حاجيتك على المكني بالبا و البا رجل مقلق ما يشرب ولادو غير لكان معلق".
الجواب : "هو البراد" (12)
أما من حيث الصياغة الفنية، فإن الأحاجي المكناسية و كما هو الحال بالنسبة لسائر الأحاجي العربية تميل إلى أسلوب السجع ، و تعتمد على المجاز في بعض الاحيان ، كما تعتمد المعاني المتوازية ، النقلات المفاجئة من معنى إلى آخر ، و هذا الأسلوب يتسم بالدقة و التنميق و استعمال المنطق . و في ذلك تلتقي بالمثل . و هذه بعض الأمثلة :
اللغز : " حاجيتك على اللي شرا ما لبس و للي لبس ما شاف .
الجواب: " هو الكفن" '(13).
اللغز : فوقو لوح و تحتو لوح، و وسطو روح ."
الجواب: "هو الفكرون" (14 ).
اللغز: "شاب و شابة راكبين على دابة باسها و باستو ، بداوا الناس يتعجبوا، قالت لهم : لاش تتعجبوا : مي ولدت مو و باباه من حماتي ، فكها يا عاتي ."
الجواب : " هو ولدها، و هي مو"(15).
اللغز : " حاجيتك على للي غادية من واد الواد ، و تقول آح على كية لولاد" .
الجواب : " هي البلغة "(16)
اللغز : "حاجيتك على طير طار ما عند و لا ريش و لا منقار ".
الجواب :"هو الدخان"(17)
إن الذي يمعن النظر في الأحاجي المكناسية ، يجدها في أغلبها لها علاقة واضحة بمظاهر الكون و البيئة الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية السائدة لأي مجتمع ، مما جعلها وسيلة فعالة لنقل القيم و المعارف الاجتماعية و الثقافية بشكل غير مباشر و هذه بعض الأمثلة الشاهدة على ذلك :
اللغز :" للي عرفناه ما عرفنا ه، غيب ما شفناه ، جربنا ما قبطناه ، كلسنا للأٍرض و ترجيناه ."
الجواب: هو " المقدر و المكتوب" ( 18)
اللغز : (( راه راه ما ريناه قطع سكة و قطع مكة و قطع ويدان الشاوية ، حتى للدار القاعية ."
الجواب : " هو الهلال "(19)
اللغز : للي كيمشي فالغابة و على جنب لواد و ما كيكلب غير فالعواد."
الجواب: "هو اللكادومة "(20)
اللغز: "سطيحة فوق سطيحة ، كلها تهرهير و فضيحة ."
الجواب: " هي الطاحونة"(21)
اللغز: كثيرة بالحساب و ما نحسبوها و للي ضاعت تم نصيبها" .
الجواب : " هو المنسج" (22)
اللغز:" المكنية بالفا و الفا من بلاد العرب ما هي من بلاد الروم تغيب عام و تحضر يوم ."
الجواب : " هي الفطرة "(23)
اللغز :" علا و علا و تتضرب بحجرة للدعلة".
الجواب : "هو لكسكسو" (24)
اللغز: " ما أنا إلا راجل سود و رفاكتي من العلما و الفهم و التجار بيا تشهروا و بيا ترقاوا الكبار و بيا مشات الخبار".
الجواب: " هو المداد"(25)"
اللغز: وادنا بو كشكوشة جاوه لمسايلهم و من بعد تلموا على الجمرة و البيبوشة ."
الجواب : "هو السوق"(26)
اللغز: "قصر عظيم بستين درجة بناه ربي و حموه الفهامة ."
الجواب : " هو القرآن" (27 ).
اللغز: " للي ينعطل نتشوفوا ليه و نزيدوا و نصليوا عليه و منين يجي نهربوا منوا و نخليوا للي برا منهم ليه ".
الحواب: " هو المطر"(28).
هكذا يبدو جليا أن اللغز حتى و إن كان في حقيقته استعارة تعكس مختلف جوانب الحياة الشعبية للأفراد، إلا أنه مع ذلك لا يخلو من عنصر الفكاهة بما يتضمنه من مفاجآت تشيع المتعة، التثقيف و التسلية. إننا اليوم و بالرغم مما نشهده من تغيير على مستوى أنماط الحياة غير أن اللغز لا زال يحتفظ بمكانته في الذاكرة الجماعية ويشكل جسر تواصل مستمر بين الماضي و الحاضر. لذلك صار لزاما علينا أن لا نذخر جهدا من أجل الحفاظ على هذا الإرث الثقافي بتوثيقه و إحيائه بوسائل معاصرة و استثماره في المناهج التعليمية و برامج الأطفال لأنه يعكس نبضات الشعب و روحه الإبداعية .
الإحالات المعتمدة:
1- السيد مرتضى الزبيدي، تاج العروس، دار ليبيا للنشر، بنغازي، ص: 78.
2- محمد المرزوقي، الادب الشعبي في تونس، الدار التونسية للنشر، 1967م، ص: 42.
3- Standard dixionary of folkore .mythology and legand.vol/11.p.939/
4- . هاني العمد، الادب الشعبي في الاردن، سلسلة الكتاب الام في تاريخ الاردن، عدد:33، منشورات لجنة تاريخ الاردن، ص:85.
5- انظر: Jammes Frazer.folkorein the old festment. Vol.11.Lendon.1918.p.564-565.
6- أنظر: أسطورة أوديب في كتاب المسرح أصوله و اتجاهاته، محمد زكي عشماوي، دار النهضة، بيروت، ص:114-225. وكتاب:
La mythologie .Encyclopédie par limage. Hachette.1962. p.54
7- Standard dixionary of folkore .mythology and legand.vol/11.p.939/
8- د.نبيلة اراهيم، أشكال التعبير في الادب الشعبي، دار الغريب، طبعة 3، 1981،ص: 204.
9- السيدة السعيدي فاطمة.
10- المصدر نفسه.
11- السيد بنونة سمير.
12- السيد المذكور احمد.
13- السيدة بوتل فاطمة.
14- السيدة شعباط فاطمة.
15- السيدة بوتل هنية.
16- السيدة كوجيل مريم.
17- السيدة قصري رقية.
18- السيدة مندوش الدريسية.
19- السيد العلمي رشيد
20- السيدة شتيبة زهرة.
21- السيدة الكايلة خديجة.
22- السيد السالمي ادم.
23- السيدة العمراني سميرة.
24- العطار نادية.
25- السيدة كوجيل حادة.
26- السيدة الكايلة خديجة
27- السيد اوعزيز كريم
28- السيدة المقدم عزيزة.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|