التسجيل قائمة الأعضاء اجعل كافة الأقسام مقروءة



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 136,952
عدد  مرات الظهور : 127,319,301

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > جمهوريات نور الأدب > جمهوريات الأدباء الخاصة > مدينة د. منذر أبو شعر
مدينة د. منذر أبو شعر خاصة بكتابات وإبداعات الدكتور منذر أبو شعر

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 21 / 05 / 2013, 42 : 06 PM   رقم المشاركة : [1]
د. منذر أبوشعر
محقق، مؤلف، أديب وقاص

 الصورة الرمزية د. منذر أبوشعر
 





د. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: سوريا

عبر من الأحاديث الشريفة: شبح الثمار. قصة للأولاد

عبر من الأحاديث الشريفة
قصة للأولاد


شبح الثمار


أخي القارئ:
الإنسان المسلم جُبل بطبيعته على الرحمة، وعلى كراهيةٍ للعنف والشرورِ.
لذلك ،فنحن نراه يبتعد تلقائياً عن الأذى وبواعثِ الألم.
أي إنه ،بمعنى آخر، يبتعد عن المآساة.
لكنْ هل ابتعاده عن المآساة والآلام يعني إغماض عينيه
وقبوعه منزوياً ،ناسجاً بمفرده عالمه الخاص ؟
ثم هل يقنعُ الإنسانُ المسلم أنْ يعيش الآخرون في الخطأ ،
ويهرب هو منهم بحجة عدم استطاعته رؤيةَ المصائب، لجُبلته على الرأفة ؟!
بالطبع أبداً..لأننا إن تركنا الآخرين، فسنبني مدينة وهم ، وستكون مدينةً ممتعة حقاً ،لكنها تبقي مدينةَ وهمٍ مهما
زُيِّن اللفظ.
لذلك ،فنحن عندما نتابع معاً مانقدمه إليك ،فلا نقصد
أبداً تشويه كل المعاني الجميلة في نفسك، كما أننا
لا نقصد العرض فقط ،بل هدفنا تقديم هزَّة للنفس
- إن صحَّ اللفظ - كمحاولة للتذكرة.


** ** **

1

المال:
من المعروف أنَّ محل فتحي الصافي بك لتجارة وتسويقِ الفواكه والخضارِ ،يُعَدُّ من أعظم المتاجر في حيِّنا ،رغم صغره الظاهري.فهو في الواقع عظيمُ الاتساع ،والمتمعنُ الحذِق يدرك ذلك ،فالسيد فتحي الصافي بك بقيامه مؤخراً ببناء غرفةٍ صغيرةٍ في أول مدخل المتجر ،درءاً للعين كما يقول، قد حدَّ من اتساع المحل الأصلي ،وأخفى (قصريلدز) كما كنا نسميه.
لكنه ،ورغم هذه الحيلة ،لم ينجُ من عيون المتطفلين،
وحرْصهم على تخيُّل ما في محله الكبير من أكياس الفواكه
والخضار المُعَدَّة للتصدير، والتي كنا نتحلَّب لرؤيتها ولا نستطيع إلاَّ تمنيها.
وكنا نشعر أن الغرفة في أول المحل ،رغم حداثتها ،كانت تُطالع جميعَ الداخلين بوجهٍ باهتٍ ،فهي كئيبةٌ دائماً ،ويبدو بوضوحٍ المكتبُ في صدرها ، مهترئاً،قد صمَّمَ السيد فتحي الصافي بك على إظهاره مُهملاً غير معتنٍ به ، فكنا نقول ساخرين: المكتبُ عجوزٌ مُقعد أوجعه الزمن..
وحتى الصندوق الحديدي المغروز في الحائط اللبني،والذي
لا يظهر منه إلاَّ بابه الأزرقُ الباهت اللون ،لم ينجُ هو الآخر من تعليقاتنا ،إضافة إلى الكراسي الثلاثة المكسورةِ رجلُ إحداها ،المُوَاجهة للمكتب.
وكثيراً ما أدمنا النظر إلى الرَّف الصغير، على يمين الداخل ،كيف حمل بعناءٍ وابورَ غازٍ - قلما يُستعمل- وإبريقاً رصاصيَّ اللون ،وصينيةَ شاي عتيقة جردت رسومها.
وكان فتحي الصافي قد جلس بهيئته المألوفةِ يراجع دفترَ الحسابات ككل يوم ،وأخذ يدقق الأرقام ،ثم يُعيد تسجيلها ،ثم يجمعها بإتقان أكثر ،وينظر في الأوراق أمامه ،ويتأفف باستمرارٍ كلما أعاد الحسابَ من جديد.ولما يئس تماماً زفر غضباً ،ونادى بأعلى صوته الأجش:
- يا أبا هاني.. يا ولد. تعالَ إلى هنا.
وكرَّر النداءَ بتذمر. ولما لم يسمع جواباً ،حانت منه التفاتةٌ إلى الشارع ،فهزَّ رأسه ،وأخذ يضرب القلمَ بعصبية على الورق وقال:- ذهب المُدَلل إلى الصلاة.
وأخذ يراقب بسُهومٍ الشمسَ الغائبةَ التي غسلت حيَّنا الهاديء بأشعةٍ باهتة لا تكاد تبين ،ثم عاوَدَ التدقيقَ.
ورغم سماعه صوت المؤذن ،فلم يتحرك من مقعده ،واستمر في عمله، رامقاً بين فينة وأخرى جموعَ المصلين وهي تذهب إلى المسجد بهمَّة نشيطة.
نعم ،لقد كانت أعمالُ المحلِّ تغلبه دائماً وتنسيه حتى نفسه ..وكثيراً ما كان يقول: لو أنَّ المالَ بحرٌ لاختزنته في صندوقي ،ولكبَّلته بشغفي وحبي. ولو كان طائراً للاحقته حتى أصطاده ،بل لأمسكته حياًّ بكلتا يدي.

** ** **

أرض الأحلام:

ورغم أنَّ تجارةَ الخضار والفواكه بدأ بها متواضعة قبل سنين ،ثم كبرت وازدهرت ،فهو لم يعرف الشكرأبداً .وكثيراً ما فكَّر جدِّياً في الهجرة من بلدنا والذهاب إلى المدن الأجنبية ،معتقداً أنَّ الشوارع مرصوفةٌ هناك بالمال، وأنَّ الشجر يورق ذهباً طوال أيام السنة.
ولمَّا عاد العاملُ أبو هاني إلى المحل وألقى السلام ،رمقه فتحي الصافي بك باستياء ،وقال له بعد أن ردَّ تحيته بفتور ظاهر:
- تعال وانظرْ بنفسك إلى ما اقترفته يداك..تعال يا ناعم
أفندي.
فتقدم أبو هاني بجسمه النحيل، ووجهه الأسمر المائل للشحوب، وقال بهدوء:
- خير..خير إن شاء الله.(وبعد أن تطلَّع إلى الأرقام بإمعان ،قال:) - لا أرى خطأ !( ثم مستدركاً) هل تقصد هذه ؟!
فأجابه :- نعم هذه ! (وبخشونة بالغة تابع) إنَّ من يستهتر
بالقليل يستهتر بالملايين.
فابتسم أبو هاني ،وقرَّب كرسيه من المكتب ،بعد أن جلس عليه ،وقال:
- أعطيت المبلغ لمحمود الحمَّال لقاء تعبه معي.
فانتتر فتحي الصافي بك بغضب وقال:- وأنت ما عملك هنا ؟! هل تسند الحائط كيلا يقع ؟ أم إنك صرتَ عجوزاً ؟ ومنذ متى وأنت مُخوَّل في التصرف كما تريد ؟!
فعبس أبو هاني ،وبمجهود سيطر على أعصابه ،وقال:- أنت تعرف أن البضاعة كانت كثيرة جداً،ولا أستطيع القيام بالعمل كله بمفردي ! (وحدَّد نظراته) ثم أنَّ المبلغ تافهٌ ،ولا يستحق هذا الغضب!
فخبط فتحي الصافي يده على الدفتر، فكاد الورقيتطاير من فوق المكتب:
- شيء جميل..بل أسلوب رائع ! العمل كثير والمبلغ تافه ! طبعاً..طبعاً ياسيد أبو هاني .صرتَ تتكبر في آخر عمرك. ( وبجدية) اسمعْ ! أنا لا أريد أن تعيد هذه النغمة على مسامعي..والباب أمامك ! وإن لم يعجبك أسلوبي ،فمع السلامة ! وأنا سأخصم ما أنفقته دون إذني من مرتبك ! (ثم بهدوء أكثر) أنا بحاجة اليوم لكل قرش، عندي مشروع هام.

** ** **

صفقة ..ولو من يهودي:

سكتَ أبو هاني قهراً ولم يجد جواباً. وعرف أن أطفاله الثلاثة سيعانون من نقص المرتب من جديد.
ورغم ذلك، فقد كان يحسُّ أنَّ شيئاً ما يربطه بهذا المحل. ويعلل سبب احتماله لكل تصرفات المعلم وحبه للمحل وإخلاصه له،إلى ممارسته نفس العمل بنفس المكان منذ عشرين عاماً دون انقطاع، مما أدَّى إلى خلق إلفة خاصة بينه وبين المكان ،ربما تبدو مضحكة لغيره من الناس.
وبعد فترة صمتٍ ،استعاد أبو هاني هدوءه كأنَّ شيئاً لم يحدث ،وكاد ينسى طرف راتبه المأكول،مما شجع فتحي الصافي بك أن يقول له:
- لم تسألني عن المشروع يا ولد ! كأنه لا يعني لك شيئاً !
فارتسمت ابتسامة باهتة على وجه أبي هاني ،وتابع فتحي دون تريث:
- قررتُ شراء محصول أرض عازر الأمْسح .
:- عازر اليهودي ؟!
:- يهودي أو غير يهودي ..أنا سأشتري جميع محصوله !
فقال أبو هاني كالذاهل:- لكن..لكن اليهودي سيعاملك بشروطه هو.. وقد تخالف شروط الإسلام!
فضحك فتحي الصافي بك عالياً ،ورنت ضحكته في الليل الذي هبط على الحيِّ الساكن.وقال:
- ما يهمني هو جمْع المال من أسهل طريق، ولا دخل للدين في ذلك !
فهتف أبو هاني:- إنك يا سيد فتحي تقول أمراً خطيراً !
فأجاب باستهانة واضحة :- ربما..لكن الله غفور رحيم ،ولن يحاسبني على زلات لساني ! (وبعد فترة صمت شابها واضح توتر) أنت تعرف أرضَ الأمسحَ عازر واتساعها ،فتخيَّل الأرباح التي سأجنيها.
كان أبو هاني لا يزال ذاهلاً ،وقال كالشارد:
- المحصول لا أمان له، واليهودي يبيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.
فاتسعت أشداق فتحي، وحرَّك يديه في الهواء:
- لا تتحامق ..أرضه ذهب ،وجميع من تعاملوا معه يثنون على جودة محصوله ! (وتريث لحظة) والجو صحو يبشر بالخير.
وقام من خلف المكتب، والابتسامة لا تزايل شفتيه وقال:- لا تمسك السلَّم بالعرض ! تعال نغلق المحل،فالوقت سرقنا.
فقال أبو هاني وهو يخرج من الغرفة الصغيرة :
- لا أعرف..قلبي غير مطمئن.

** ** **

2

نبع الذهب:

كان النهار دافئاً ،سكبت الشمس فيه نورَها ،فاختفت لسعةُ البرد التي لازمت الهبوب منذ يومين. وكان أبو هاني قد قطع مسافة طويلة على قدميه، فأخذ العرق يتكوَّم على رقبته وجبهته حباتٍ لامعةً. ورغم قلقه الواضح، فلم يكن في ذهنه شيء محدد ،بل أقوال متضاربة ،وإن حمل بعضُها ما كان يتوقعه. فلقد عانى في هذا اليوم الكثير مع التجار وإلحاحهم في اشتراط الضمان لوفاء الدين..حتى إنه شعر للحظات كثيرة باليأس ،وبأنه يناطح الصخر بلا فائدة.
وعندما دخل المحل، قال له فتحي الصافي بك بسرعة:
- قمح أم شعير ؟! طمئني.
فجلس أبو هاني على الكرسي مواجهاً للمكتب، وقال:
- مهلاً حتى آخذ نفسي. (ثم قال بعد أن تريث قليلا) قبل
جميعُ التجار تقديمَ المال كدين..لكن.(وبعد أن وضع يده على
ظهر المكتب ،تابع ) لكن أكثرهم ،بعد إعطائهم الضمانات الكافية، قالوا..
فقاطعه فتحي:- الكلاب..ألم يقبلوا دون أن ترهن المحل؟! اتفو. نجسٌ هم..حسناً ،وماذا بعد ؟!
فتابع بارتباك:- قالوا إنَّ هذه الصفقة ضربٌ من الجنون.
فتعالت ضحكة فتحي الصافي بك وقال:- إنهم قلقون من
المنافسة ،وليسوا قلقين على مالي وتجارتي، وإلاَّ لما اشترطوا رهن المحل..لا تصدق كلامهم.إن أرض عازر ذهب،لا بل نبع ذهب كما قلتُ لك أكثر من مرة.
فتململ أبو هاني في جلسته، وبصوت واضح النبرات قال:
- يا سيد فتحي لم يقل أحدٌ عن الأرض شيئاً.لكنهم قالوا إن
شراء الثمار قبل نضجها وقبل أن يبدو صلاحها غير مأمون
العواقب، وهذا ما دفعهم لطلب الضمان..والذين كانوا يشترون محصولَ اليهودي قبل نضوج ثماره، كانوا
يشترون جزءاً من المحصول وليس كله ! وأكدوا لي أنَّ
شراء المحصول ،رغم قلته ،كثيراً ما باء بالفشل لتقلب الجو،أو لإصابة الزرع بإحدى الآفات الكثيرة.

** ** **

الثمار ..أمل عذب:

فزمَّ فتحي الصافي بك شفتيه :- غباء..أهل البلد يقتلهم الغباء. يا حبيبي، كل هذا مجرد وهم..وصديقي فهيم الموظف بمحطة الأرصاد ،أكدَّ لي أنَّ الجو سيستمر على اعتداله مدة شهر على الأقل..وهذا كاف لإنضاج الثمار وعدم تعرضها للتلف.
:- لكن الجو لا أمان له..هل نسيت لسعة البرد قبل يومين؟!
:- تلك صدفة..( وبحسم) لا تناقشني في هذا الموضوع.. لقد صممتُ وانتهى الأمر.
وكمن يتمسك بقشَّة قال أبو هاني:- ما دامت أرض اليهودي
ذهباً ،فلماذا لا ينتظر حتى تنضج الثمار ويبيعها بنفسه،
فيحقق ربحاً أكثر؟!
لعلعت ضحكة فتحي الصافي بك متواصلة، عالية ،مثيرة
للسخط. وقال:- أنت غبي مثل أهل البلد..( وقام من مقعده)
ألا تعرف أن اليهودي يحب الربح السريع، ولا ينتظر حتى
نضوج الثمر ؟!
فزفر أبو هاني:- أنت حرٌّ.
فقال فتحي:- قم ..قم يا ولد.أمامك عملٌ طويل.
وأخذ يردد أغنية فاجرة بصوت نشاز.
كان مرحاً، واثقاً أنه حقق صفقة العمر. وكان متأكداً من
مجيء المال الكثير الذي سيجنيه عما قريب، فيزداد مرحه وتألق عينيه. وشعر أنه سيستطيع تحقيق آماله جميعها.
ولمَّا ألحَّت عليه فكرةُ الهجرة ،أبعدَها مؤقتاً لمناسبة أخرى.. فما دام في البلد أرضٌ مثل أرض عازرالأمْسح فلا داعي للهجرة حالياً، ولكل وقت ظرفه.
وعاود الضحك ،والغناء بصوت قبيح.

** ** **

3

انتظار:

غمرت الشمس الغاربة أرض عازر الأمْسح، فبدت الأشجار المتكاثفة ظباء مجتمعة، بل جمْعاً رفعوا أيديهم عالياً نحو السماء..بينما كانت الغيوم المتناثرة وقد اصطبغت بلون الشفق ،قلباً ينزُّ دماً قانياً.
وطوال أيام ثلاثة لم يغمض جفن لفتحي الصافي بك، فقد كان يحلم بالأرض والثمار والثروة، فتخيل مراراً أنه من كثرة شغفه بالأرض سيصير فلاحاً عما قريب،بل سيتحوَّل إلى شجرة ضخمة الأغصان في أرض اليهودي. ونسي منذ أول يوم ما لقيه من جشع اليهودي ومطالبته بالمبلغ كله، دون أن يكون اليهودي مسؤولاً عما يؤول إليه الزرع.
فكان فتحي يلازم الأرض منذ مطلع الفجر حتى الغروب
متأملاً الأشجار المتكاثفة، مرتقباً طلوع الثمر وتفتُّح الأولاد
الطيبين كما كان يقول..
ولمَّا وجد أن الانتظار سيطول، قرر بناء غرفة خشبية
يستريح فيها قليلاً بعد تجواله في الأرض، ويظل يرقب
الأشجار من خلالها بعينين حانيتين.
لكنه في اليوم الرابع شعر بالملل يزحف إلى نفسه. ولمَّا لم يتمكن من طرده، عهد إلى أبي هاني بملازمة الأشجار
وحراستها من عيون المتطفلين..أمَّا عازر فقد اكتفى بالمال
الكثير، وترك هَمَّ الأرض لفتحي الصافي.

** ** **

اليهودي المهاجر:

وكان أبو هاني يكره اليهودي، وكثيراً ما رمقه بنظرات
اشمئزاز وهو يتطلع إلى هيكله النحيل، المصوص كعود،
وإلى صلعته الحمراء اللامعة كومضة الجمر، وإلى أنفه
المستقيم الحاد ،وأنيابه المسنونة..أو سكاكين فمه الثعلبية.
وكان عازر يبادل أبا هاني الشعور نفسه، وكثيراً ما حاول
إقناعَ فتحي الصافي بك أن يقوم بطرده من العمل دون
جدوى..مما أدى إلى تفاقم الحقد في نفسيهما على السواء.
وطوال الوقت ،كان أبو هاني يشعر أن عازر يرمقه بنظرات حنق متلاحقة كسهام نارية..وعندما التفتَ إليه،وثبَّت نظراته عليه، ظل عازر على موقفه بكل جرأة.
فأدار أبو هاني ظهره باستهانة ومشى..لكنه ظلَّ يشعر وكأنَّ نظرات عازر مثقبٌ ينخر ظهره. فأدار مرة أخرى وجهه بغتة ،وقال له بلهجة جافة:
- ماذا تريد ؟!
واقترب منه ،كأنه مصمم على العراك، فقال عازر:
- أبداً..لاشيء .
فقال أبو هاني باستياء:- ابعدْ عن طريقي خيرٌ لك ،(واقترب منه أكثر حتى كاد يلاصقه) إذا أردت أن تتحامق فأنا مستعد.
بوغت عازر وتراجع خطوتين، ثم بصوت وانٍ قال بلا مقدمات:- أهذا جزاء من أحب أن يتكلم معك كلمتين ؟!
فتوتر أبو هاني دون سبب:- يبدو أنَّ هذا اليوم لن يمضي على خير ! (وبسخرية) يا حبيبي ابتعد عن طريقي .
وببساطة ،أو ربما باستهانة ،ردَّ عازر:- لا داعي للغضب.. كلمتان وينتهي الأمر.
فهدأ أبو هاني قليلاً :- قل لي بسرعة ماذا تريد ؟!
ابتسم اليهودي، وشعر أنه وصل إلى مبتغاه:
- سمعتُ أنك عارضتَ بشدة شراء محصولي (ثم بصوت منكسر) هل تريد أن تقطع رزقي ؟!
فعبس أبو هاني:- إنَّ الثمر لا يزال على الشجرلم يتفتح بعد، والغيب علْم الله.
وضع عازر يده على كتف أبي هاني، فأبعدها أبوهاني دون حرج ،وقال اليهودي:
- إنَّ أرضي مضمونة دائماً ،وكل الناس يشكرون عنايتي لأشجاري.
فقال أبو هاني بعصبية:- ما تفعله حرام ،وسينالك العقاب !
فارتفعت حدة صوت عازر:- تقول هذا لأنك تدفن نفسك بالحياة ،ولا تعرف معنى أن يتمتع الإنسان بالمال.
فاجأه :- اخرس يا نذل !
فمدَّ عازر يده ولطم أبا هاني ،فدوَّت الصفعة عالياً، وقال وهو يهرب من أمامه:
- هذا جزاء الأغبياء أمثالك ،الذين يريدون قطع أرزاق الناس.
فبصق أبو هاني عليه ،وأمسك حجراً ورماه به،فأصاب صلعته فأدماها. وكأنما لم يرتح من عقابه،فأسرع كالبرق نحوه وأمسكه بقوة من كتفه حتى كاد يخلعه .وقال أبو هاني بصوت قوي:
- أيها الدنيء ..لو لم تكن حشرة لقتلتك.
فجاءه صوت اليهودي وانياً لا يكاد يبين:
- ارحمني..أنا المخطيء وأنت الكريم.
فخبط أبو هاني قدمه على الأرض، وقال وهو يدعه من قبضتيه القويتين:
- يهودي حقير.ستكون آخرتك وخيمة.

** ** **

4

بشائر:

أوشكت الثمار على النضوج بعد انتظار طويل.
وأشرقت الشمس حاملة الأمل، ساكبة نورها على البراعم
الوادعة.
وكان أبو هاني يتفحص الأشجار بعناية، خوف أن تكون إحدى الآفات أصابت الزرع.بينما كان فتحي الصافي بك يرسل الابتسامات للأشجار حوله ،ويكاد يقفز فرحاً، لشعوره أن الدنيا لن تسع فرحته أبداً. واقترب من أبي هاني ، والابتسامة لا تزايل شفتيه:
- أين خوفك الوهمي يا طيِّب ؟!
فالتفتَ أبو هاني نحوه وقال:- احمد الله يا سيد فتحي.
فقال بوقاحة:- من أجل عينيك سأحمد ربك.
فعبس أبو هاني وضيَّق ما بين حاجبيه:- أرجوك يا سيد فتحي..لا تقل ذلك.إن الله عزيز ذو انتقام.
فأرسل فتحي الصافي بك ضحكة طويلة طويلة ،وقال:- لا تعكر صفوي بأمور ليست ذات بال.(وباستهانة) إن الله رحيم كما تقول.
فألحَّ أبو هاني:- قلتُ كفى..أرجوك يا سيد فتحي.(وبصق على الأرض) ملعون اليهودي الذي دنَّس طيبتك.
فقال:- لا يهمنا كل هذا ،وعلى كل حال سأتركك الآن ، وسأذهب إلى المحل.
** ** **

5

إنذار:

وفي اليوم التالي تجمعت السحب، وصارت جبلاً أسود ،
بل موجاً متراكماً غطاه ليل بهيم ..ثم أخذ المطر يهطل
بغزارة كسيلٍ مدرار.
فصاح فتحي الصافي بك بفزع وهو يلطم خديه:
- يا ويلي..المطر سيطيح بالثمار.
والتفت نحو عازر مستنجداً بعينين مفتوحتين ذعراً ،فابتسم اليهودي ابتسامة صفراء وقال:
- لا تخف..المطر يُحيي الزرع.
فلم يمت القلق من نفس فتحي ،بل أخذ ينمو ويتضخم كحيوان خرافي مرعب. وتبسَّم بصعوبة بالغة:
- لكن السماء أراها كوجه متجهم..وقطرات المطرالضخمة قاسية،كأنما هي قطعٌ من صخرٍ صلد.
وأخذ يتفحص براعم الأشجار بعناية ،غير عابيء بثيابه المبتلة..ولما لم يستطع القضاء على قلقه ،قال بجزع:
- لو أنَّ الثمار تلفت فماذا سيبقى لي ؟! أخبروني..هل يبقى غير الخراب والدمار ؟!
ونزلت الأمطار، أو ربما الدموع ،على خديه متتابعة،حاملة أسى تسكبه على ملامحه التعسة. وتابع بصوت منكسر: - رهنتُ المحل ..ودفعت كل ما أملك في هذه الصفقة..فإذا سقطت البراعم..(وانتفض كمن أصابه مسٌّ) لا ،لن تسقط البراعم..هيا يا عازر افعل شيئاً. قل شيئاً..لن تسقط ،أليس كذلك؟! لن تسقط بالطبع ! وسأربح ! لا بد من أنني سأربح ،ولا بد من أنني سأستطيع إيفاء الدين.
فأشاح عازر بوجهه ،وقال وهو يرسم خطوطاً على الأرض الطينية:- قلتُ لك لن يحصل شيء على الإطلاق..هذا مطرٌ وليس بَرَداً حتى تخاف منه !(وبصوت مسموع) أففف !
فالتفتَ فتحي نحو أبي هاني يستحثه بعينين ضارعتين:
- هذا مالي ! أتفهمْ ما معنى المال؟ إنه حياتي ! قل لي إنه لن يتلف ،فذلك يعني أنَّ عمري سينتهي ! قل شيئاً..قل ،بل قولوا فإنَّ قلبي صديء لم يعد طاهراً ولن أقوى على الدعاء.
وعاود البكاء كطفل. فرقَّ قلب أبي هاني ،وهتف بصوت خاشع انطلق من أعماق قلبه:
- يا حيُّ يا قيوم برحمتك أستغيث.
وكرَّر الدعاء مرات وعيناه تفيض من الدمع ،وتمتزج بماء المطر، وروحه مشرقة تكاد تجوب الآفاق وتحاكي السماء.

** ** **

شبح الثمار:

فتوقف المطر..نعم ،توقف بعد انهلال، وإنْ ظلت السماء على جهامتها. فأشرق وجه فتحي الصافي بك بعد قتامة ، وعانق أبا هاني طويلاً ،كأنما وجد منجاته،وردد بصوت عال:
- أشكرك يا طيب القلب.

فقال أبو هاني:- الشكر لله خالق السماوات ومنزل المطر بإذنه .
فضحك فتحي:- سيدي..لاتدقق.
بينما وكز اليهودي كتف فتحي الصافي بك وقال هامساً: - لاتتمادى في جنونك يا سيد فتحي..واعلم أنَّ الزرع سيظل وارفاً ولن يبور أبداً..وأنت إن أظهرت عطفك نحو أبي هاني بسبب ظاهرة جوية تحدث دائماً،فسيستغل هذا المخادع طيبك وعطفك وسيزعم بكل بساطة أنه بدعائه فقط،وبمجرد
كلمات بسيطة،قد أوقف المطر وأنجاك من كارثة محتمة.( ثم ضحك بخشونة) هذه أرضي وأنا أعرفها..وتقلُّب الطقس أمرٌ عادي، وثماري ما عهدتها تتأثر بكلمات أو حبات مطر.. فاحذر من استغلال المخادعين ،فالمال لك وحدك.
فاحتد فتحي وهو يتذكر منظر أبي هاني وجسمه المرتعش. وعاودته حماقته المعهودة.وقال وهو يشير إلى الأشجار بعصبية:
- الأرض لن تبور، والجو لن يؤثر على الزرع، وأنا لا أصدق تفاهات أحد.
ثم ارتفع بصره إلى السماء بطريقة آلية، فهالته قتامة السحب،وتسارعت دقات قلبه عندما بدأ المطر ينهل من جديد.
ثم هطل البَرَد، وتتابع بقسوة ،فتكسرت الأغصان لوقعه، وتساقطت براعم الثمر قتلى على الأرض الموحلة. فصرخ فتحي كالمجنون:
- ثماري..مالي الضائع.
وانتزع ثيابه محاولاً حماية الثمار..لكن عبثاً ما كان يفعل. ولما تأكد من اليأس جأر بصوت عال:
- أنا ظالم في حق نفسي ..خسرت دنياي وآخرتي.
ورمق أبا هاني بعينين ساكنتين لاحياة فيهما:- هل ينفع دعاؤك الآن بعد انسياقي وراء كلام اليهودي؟
وأجابه الصمت ،وانهلال البَرَد المتتابع. فانهارعلى الأرض، ورأى بعينين عازر يهرع إلى بيته الذي تحوَّل بسبب اصطدام أسلاك الكهرباء وزمجرة الريح العاتية إلى خراب مرعب ،زاده غضب السماء وحشة..وكان آخر ما قاله:
- أنا ..انتهيت.
بينما انحنى أبو هاني على فتحي وقال:
- أنت قضيت على نفسك..أنت استبدلت بالحلال الحرام، فخسرت كلاهما، وفزت..لا، بل لحقك غضب الله في الدنيا، وما عند الله يوم القيامة أشد وأهول.
واختلطت دموعه بحبات البَرَد وهو يرفعه:
- كم كنتَ هنيئاً بعيشك لو سمعت النصيحة وانتهيت عمَّا نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
** ** **

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ،عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها.نهى البائع والمبتاع.
رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس رضي الله عنه ،عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا أكربه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي.

دمشق 1979 م.






نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع د. منذر أبوشعر
 تفضل بزيارتي على موقعي الشخصي

http://drmonther.com
د. منذر أبوشعر غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
للأولاد, الأحاديث, الثمار., الشريفة:


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حقيقة المسيح الدجال .. من واقع الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة مرفت شكري مناظرات و حوارات مفتوحة 10 16 / 03 / 2025 36 : 05 PM
بعض أجمل الأحاديث الشريفة التي بإمكانها أن تقودك إلى الجنة فتحى عطا الإعجاز.القرآني.والمناسبات.الدينية والمناظرات 0 15 / 08 / 2015 39 : 11 PM
دماء الرعية..قصة للأولاد د. منذر أبوشعر مدينة د. منذر أبو شعر 10 04 / 06 / 2013 54 : 11 PM
عبر من الأحاديث الشريفة د. منذر أبوشعر مدينة د. منذر أبو شعر 6 13 / 06 / 2012 29 : 08 AM
الثمار المرة لدعاة تحرير المرأة ناهد شما المقــالـة الأدبية 1 22 / 10 / 2011 25 : 01 AM


الساعة الآن 32 : 10 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|