البدر يفرش نوره الحاني على الجميع بلا استثناء وقدر الطيبين أن يكونوا كالقمر في ليل تمامه
رجائي وضيائي الغالية..
بالأمس واليوم لم أجد دقيقة واحدة، فإما غارقة في الموت أو مجدفة بلا توقف في يمّ الحياة..
أشعر أحياناً أني أتنقل بين ضفتي الحياة والموت كما يتنقل الغزال بين الهضاب..!
في كل يوم ألف موت وألف نعش نحمل فوق كواهلنا وألف حياة نتكبد تبعاتها..
أستغرب مثلك وأتألم وأسأل متى تفهم الطفلة في داخلي هذا العالم الغريب؟!
لهذا ولكل هذا، سيكون حديثي اليوم عن الموت.. الموت الذي ما زلت تعيشين فصوله الموجعة..
ربما عن بعض جوانبه الإيجابية.. نعم يا صديقتي لكل شيء إيجابياته حتى الموت ولوعة الفقد والفراق ..
نتغير ونتطور وتزداد بصيرتنا وتكبر نافذتنا المطلة على عالم الروح، يوماً بعد يوم وكلما اقتطع جزء من مجتمع أنفسنا وبتر من يومياتنا..
فتحت عينيّ طفلة غريرة على الموت وهذا البتر المؤلم والمبهم لأعزاء، جدي ثم أبي ثم جدتي لأمي.. لم يتوقف ولكن انتعشت الخسائر مجدداً في السنوات العشر الأخيرة ، والتي بدأت بعمي يحيى ثم بطلعت فعمي صلاح فعمتي أم طلعت فابنتها رجاء وختمت بأغلى إنسانة بالوجود " أميّ"
ناهيك عن أقارب وأعزاء لهم مكانة في حياتي من فصول كاملة إلى صفحات تقل أو تكثر في كتاب روحي وكياني ومجتمع نفسي..!
الغريب في قصتي مع الموت ، والتي تشبه إلى حد ما سلسلتي القصصية " نافذة على العالم الآخر" أني عشت قريبة منه وبين بين ، وازداد اقترابي منه أكثر فأكثر منذ انتقال أمّي للضفة الأخرى ..
حبل السرّة لا ينقطع أبداً بين الأم وابنتها تحديداً، النفس التي انبثقت من نفس والروح التي خرجت من روح ، ويزداد هذا الانصهار أكثر إذا كان بينهما صداقة.. ولأني لم أعاشر أبي تقريباً ولم أعاصره سوى برهة قصيرة ، ولتأكيد الجميع أني أشبهه قلباً وقالباً في معظم التفاصيل - ربما - كنت أشعر أنّ روحه تستقرّ في روحي وأن الروح غادر جسداً كان به واستقر في داخلي.. أما أمّي فما بيني وبينها جعلني دائماً أحس وكأننا شخص واحد..
كنت أعاني فعلياً في تلك اللحظات المفجعة خروج الروح وحين غادرت ، رأيت الجسد المسجّى جسدي أنا..!
إحساسي بالأرواح من حولي يزداد ولا بدّ أن أحدثك عنها ، لكن بلا شك أن رسالتي اليوم نكأت جرحك النازف وأنك بحاجة لنزف رسالة بكل ما فيك من أوجاع الشعور بالفقد وشدة الحنين..
نعم يا صديقتي.. أخرجي ما في جعبتك وحدثيني عن والدتك (رحمها الله وأمي وأبي وجميع أمواتنا ) حدثيني عن الحب .. أواصر الصداقة .. أجمل ذكرياتك معها .. حديث الروح للروح بعد الفقد .. الإلهام ..
الأم ليست فصل في كتاب بل هي سيدة كل الفصول....
لا تحدثيني عنها ألماً ، أشعر بآلامك جيداً.. الحديث عن الأحبّة طاقة بهجة أيضاً .. حدثيني عنها فرحاً ومآثر.. هل كنت في طفولتك مثلي، تنظرين لوجهها بعشق ووله وبقناعة تامّة ترين أنّ أمك أجمل امرأة في الوجود وأن ابتسامتها أكثر إشراقاً من الشمس وجبهتها أشدّ ضياءً من البدر في ليل تمامه؟!
كنت أبحث اليوم عن نفسي بين طيات كتاب غربتي الطويل.. أراجع الذكريات ووجوه الناس في طرابلس ، وكنت آنس بأطيافهم واسترجاع مفرداتهم ومواقفهم.. كنت أعد الأشجار هناك في شارع الحنين على صفحات ذاكرتي، فأضحك وأبكي ..!
لماذا؟
بالأمس زارنا جيران لنا منذ أيام الطفولة في لبنان ،لوصول أحدهم وهو طبيب أسنان متخصص ناجح جداً وله اسم وصيت ممتاز في طرابلس ، لكن ككل من يعيش في لبنان في أسوأ كوابيس هذا البلد ، يحاول جارنا الهجرة الآن ثم السير في رحلة تعديل شهاداته والبدء هنا من جديد..!
ثمانية أشقاء وشقيقات، أكبرهم بعمري وأصغرهم بعمر ابني شادي، ولأن حديث الذكريات كان مادتنا الدسمة في هذا اللقاء وجدت نفسي عالقة في أجواء الذكريات ، أسير في شوارعها وأتفيأ من برد الغربة الذي يهاجمني أحياناً بدفء شمسها..
جميلة وعزيزة طرابلس حتى في أشدّ ليل معاناتها حلكة..!
ليتنا نستطيع يا صديقتي أن نتنقل في الزمكان بين الأزمنة والأمكنة كما نحتاج وكيفما نشاء كلما عصف بنا الحنين إلى المدينة الفاضلة..
صديقتي بزغت شمس صباحك فأشرقي على هذا المتصفح وانسجي من الأحرف فصل جديد سيغدو حين نسترجعه بعد حين شجرة ياسمين من أشجار المدينة الفاضلة..
احبك جداً
هدى
مونتريال 8 أيار / ماي 2022
2.20 صباحاً