أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب
في التاكسي...
[align=justify]في تلك الليلة الشتائية الباردة، غادرتُ معمل التريكو، حيث أعمل، وكنتُ متعباً للغاية، بعد يوم طويل ومرهق، كالعادة، لا أحلم إلا بشيء واحد، هو الوصول إلى البيت، حيث أجلس ساعة أو أقل، مع زوجتي التي اعتادت تأجيل عشائها حتى موعد عودتي من عملي، ليس من أجل أن نجلس معاً جلسة غزل رومانسية نتبادل فيها العواطف، مع أن كِلَينا بأمسِّ الحاجة إليها، منذ سنوات طويلة، ولكن لنتبادل الكلمات القاسية وعبارات اللوم والتقريع، أثناء بحثنا في حاجات البيت والأولاد، وكيف يمكن تأمينها من دخلي المتواضع إلى ذلك الحد الذي لا يرفعني أكثر من درجة واحدة فوق طبقة المعدمين البؤساء..
في العادة، كنتُ أقطع المسافة بين المعمل ومحطة تجمُّع حافلات النقل العام، سيراً على قدمي، ليس لقِصَر المسافة بينهما فحسب، بل -وهذا هو الأهم -لتوفير أجرة قطعها راكباً...
لكنني ما إن سرتُ بضع خطوات، تلك الليلة، حتى راح المطر ينهمر بشدة غير مألوفة، في مدينتنا التي لم يعد ينزل فيها المطر إلا نادراً.. ليس بسبب فساد أهلها فحسب، كما يقول كبار السن، بل لأن أصحاب الكروش الكبيرة الذين يتحكمون بها، لم يتركوا فيها أشجاراً يغازلها السحاب ويسكب دموع شوقه للذوبان في تربتها مطراً يرويها ويروي الذين زرعوها، بل أحالوا معظم بساتينها الرائعة إلى غابات قبيحة من الإسمنت، تضم بيوتاً في غاية القبح والرداءة وانعدام الذوق، باعوها لمساكين الوطن، بما أبقوه لهم من تعبهم. والمطر يرفض الهطول على غابات الإسمنت لأنها، كبُناتها، بلا قلب، ولأن المطر حبٌّ لا يُنبِتُ حياة في مَن لا قلب له...
ومع أنني أحب السير تحت المطر، لأنه يُدغدغ فيَّ مشاعر وذكريات رومانسية أحبها، إلا أن التعب والإرهاق وعدم وجود مظلة معي، ورغبتي في عدم تفويت فرصة الشجار مع زوجتي، قبل النوم، كعادتنا، كل ذلك مجتمعاً جعلني أقررُ ركوب سيارة أجرة توصلني إلى البيت مباشرة، حتى وإن كانت أجرتها ستجعل مصروفي يعرج عجزاً حتى آخر الشهر..
لم أتردد طويلاً، فأشرت إلى أول سيارة أجرة مرت بي، وألقيت نفسي داخلها وأنا أنفض حبات المطر التي استقرت على معطفي الجلدي العتيق. وقبل أن أنظر في وجه السائق، قلت له:
-إلى قرية..... من فضلك...
ففوجئت به يُوقف السيارة، وهو يقول لي:
-كم ستدفع؟
وبسرعة أدركتُ أنه يرفض توصيلي بالأجرة التي يُظهرها عداد السيارة، نظراً لبُعد المسافة، فسارعت أطمئنه:
-سأدفع لك كذا...
وذكرت له مبلغاً اعتدتُ دفعه في كل المرات القليلة التي اضطررتُ فيها لركوب تاكسي إلى بيتي.. فقال وهو يستأنف السياقة:
-ماشي... إطلع...
وهنا، شدني صوته، وولَّد في نفسي الفضولَ لاستطلاع وجهه، فإذا أنا أمام كهل تجاوز الأربعين، تبدو عليه ملامح التعب والإرهاق، بالإضافة إلى ملامح بؤس مزمن مغلف بحزن عميق يغور بعيداً في مهاوي القلب.. إنها نفس ملامح البؤس التي صارت تُميز معظم أبناء جيلي من الذي هَوى بهم تردي الأحوال الاقتصادية، في البلد، من مرتبة الطبقة المتوسطة التي كانوا فيها، إلى طبقة الفقراء المعدمين.
ولسبب مبهم، حدَسْتُ أن سياقة التاكسي ليست مهنة الرجل، بالأصل.. فرحت أُخمِّن ما عساها تكون مهنته الحقيقية، قبل أن تُلجئه الظروف التعسة للعمل سائقاً، وهل تُراه يحمل شهادة ما، شأن الكثير من حمَلَة الشهادات الجامعية الذين صاروا سائقي تاكسي أو تراكسات أو شاحنات سوزوكي، هذه الأيام، كي لا يبقوا عاطلين عن العمل؟... وقبل أن أصل إلى جواب عن سؤالي، رأيت أصابع يمناه تمتد بحركة عفوية اعتادتها، لتُشغِّل مذياع السيارة الذي انطلق منه مباشرة صوت أم كلثوم، في أغنيتها الموجعة (أروح لمين) التي ما كدتُ أسمع كلمتين منها حتى صحتُ مسروراً طَرِباً:
-الله... الله.. هذا هو الغناء، وإلا فلا...
وأردت أن أتخذ من هذه الأغنية جسراً للتواصل معه، فأقطع الطريق الطويل إلى بيتي بمحادثته، لكنني قبل أن أُتمَّ صيحة طربي الأولى، فوجئتُ به يُصْمِتُ المذياع بحركة عصبية.. ظننتُ أنني أزعجته، إذ ربما لم يكن من هواة صوت أم كلثوم. فقلتُ له بلطف ممزوج بالأسف، لأنني أحب هذه الأغنية:
-ألا تحب صوت أم كلثوم؟..
ومرة أخرى فوجئتُ به يرميني بنظرة غضب زاجرة، بدلاً من أن يجيب عن سؤالي!! ولأنني لم أُدرك سبباً لغضبه، تابعتُ أخاطبه:
-يا رجل.. صحيح أن أغانيها صارت قديمة، لكن والله، سحبة واحدة من سحباتها، أفضل من ألف مطرب ومطربة من الذين يثقبون آذاننا اليوم بأغانيهم التافهة والمبتذلة... تصوَّر.. أمس، سمعتُ أغنية تقول كلماتها: (بح ودح) وما بعرف شو كمان..، سخام وأكل هوا.. والله ما لي خايف إلا يطلع علينا غداً مطرب أو مطربة لتغنينا..
ولا أدري كيف خطر لي تأليف هذين البيتين بسرعة:
شلاح صباطك والحقني بس دخلك أوعا تكح
وان كحيت...... يا ويلك ضهرك... لدحو دح
(دح بح كح... دح بح كح)
وضحكت مستمتعاً بما ألفت ارتجالاً، ثم تابعتُ معلقاً:
-العمى، تضرب هكذا أغانٍ.. كلها إح وبح، والله لازم على من يسمعها أن يأخذ دواء للسعال، وأن يكون مقشعاً أيضاً، حتى يكح بلا ما يِنْبَح!!
لكنني، مرة أخرى وجدتُه يرسل إلي نظرة نارية جديدة، بدلاً من أن يرد على كلامي أو يُعلِّق على أبياتي، أو يبتسم لنكتتي، فعجبتُ.. إلا أنني لم أتوقف عن مخاطبته، ربما بدافع من انزعاجي لأنه لم يدعني أسمع أغنية (أروح لمين) التي أحبها كثيراً... فقلتُ له:
-يظهر أنك من هواة الغناء الحديث.. وكلامي عليه بهذا الاستهزاء أكيد أزعجك.. أنا آسف.. أخي ما في مشكلة... إذا كنتَ من هواة موضة (إح بح)، ماشي الحال.. أسمعنا ما تحبُ منه، وسأُجبر نفسي على احتمال ألحانه التافهة وكلماته السخيفة وغير المفهومة غالباً، كأن الذين يغنونها تخرج أصواتهم من أدبارهم لا من حناجرهم..
وبينما ضحكتُ لهذه العبارة التي أعجبتني أيضاً، إذا به ينظر إلي نظرة بالغة القسوة جمَّدتْ ضحكتي على أطراف فمي، فسارعتُ أقول فيما يُشبه الاعتذار:
-أنا آسف.. يبدو أنني أزعجتك.. يبدو لي أنك لستَ من هواة الطرب القديم ولا الحديث.. نعم.. نعم.. الآن فهمت.. أنت من هواة الموسيقى الكلاسيكية كما أظن.. معك حق.. ما في مثل الموسيقى الكلاسيكية لتهدئة الأعصاب.. ومهنتك مهنة أعصاب.. أراهن أنك من هواة موسيقى بيتهوفن وموزارت وتشايكوفسكي ومَنْ في وزنهم.. صح؟ الحق معك.. هؤلاء فقط من يستحقون أن يُضيع المرء وقته بسماع ألحانهم، لا بسماع أغاني (إح بح) أو ما يسمونه أغاني الطرب الحديث، مثل التي يؤديها ذلك المطرب المشهور الذي تجد الناس يتمايلون طرباً لسماعه، مع أن صوته يبدو لي مثل صوت الجاروشة.. عرفتَه؟؟ مشهور جداً.. وكله كوم، وأغاني الجعير الحديثة كوم.. لقد صار الغناء جعيراً يا رجل.. والذي يضع العقل بالكف.. جمهور هز لي لأهز لك، من الشباب والبنات الذين يظهرون أمام خشبات المسارح، وهم يتمايلون طرباً على صوت الجعير المزعج الذي تصاحبه ألحان منفرة وكلمات تنزل على السمع مثل ضربات المطارق على الرأس.. على كل.. ما لنا وللناس.. الناس أذواق.. هناك من يطربه الجعير والنخير وحتى النهيق، وهناك من لا يُطربه إلا صوت أم كلثوم أو عبد الوهاب أو فيروز، ولا يسعد إلا بسماع موسيقى بيتهوفن وأمثاله.. يا سلام على بيتهوفن يا رجل.. بذمتك، إذا كان معك شريط له.. فلا تتردد.. هيا ضعه لنستمتع بسماعه بقية الطريق.. فطريقنا ما يزال طويلاً.. هيا..
وأردتُ أن أتابع هذري، لولا أن فاجأني هذه المرة بإيقاف السيارة، قبل أن يلتفت نحوي غاضباً، وهو يقول:
-هيه.. افتح باب السيارة والله معك..
لم أفهم سبب بلوغ غضبه إلى هذا الحد.. فباغتني تصرفه.. وللحظات، بقيت جامداً في مكاني، لا أدري ما أفعل.. وبعد أن أفقتُ من المفاجأة، وجدتني أقول له، محاولاً تصنع الغضب:
-ما بك يا رجل؟! لماذا تتصرف معي بهذه الفظاظة؟
-هكذا أخي.. بلا سبب.. أنا مجنون أخي.. عندك مانع؟ السيارة سيارتي وأنا حر.. لا أريد أن أوصلك بها.. أنت أخو كيفي؟!
يا إلهي.. رحتُ أحادث نفسي.. يبدو أنني قد أغضبتُ الرجل كثيراً دون أن أنتبه، أو أنه مجنون بالفعل.. وهممتُ بأن أنزل من السيارة، فردَّني المطر الذي ما زال ينهمر بشدة، والبرد الذي كان شديداً أيضاً، والبيت الذي ما يزال بعيداً، وقلة مرور السيارات من هذه البقعة بالذات، وخصوصاً في مثل هذا الوقت وهذا الجو الماطر.. فماذا أفعل؟.. سأداريه، قلتُ لنفسي، عساه يهدأ قليلاً، ويرجع عن قراره الأرعن..
ابتسمتُ في وجهه متكلفاً، ثم قلتُ له:
-الله يسامحك.. ماذا فعلتُ لك لترميني تحت المطر هكذا؟ إذا كنتُ قد أسأت، فأنا أعتذر.. كنتُ فقط أحاول أن أسليك بالدردشة معك حتى نصل إلى البيت.. إذا كنتَ منزعجاً من أحد غيري، وترغب بصمتي، فلماذا لم تخبرني لأسكت؟.. كنت سأحترم وضعك وانزعاجك وأسكتُ فوراً.. أما أن ترميني في منتصف الطريق، كالكلب، وبمثل هذا الطقس الماطر، فلا أظن أنك قاسي القلب إلى هذه الدرجة، لتفعل هذا بي أو بغيري.. إذ لا يبدو لي أنك شرير..
ويبدو أن كلامي قد أثَّر فيه، فقال بصوت جاف:
-أغلق الباب..
وبعد أن أعاد تشغيل محرك السيارة، قال كمن يعتذر:
-لا تؤاخذني.. فعلتُ ما فعلت غصباً عني.. أنا آسف..
رقَّ له قلبي، ودفعني فضولي لسؤاله عن السبب، لكنني لجمتُ نفسي، مؤثراً السكوت خوف أن يُجبرني على مغادرة السيارة مرة أخرى.. فإذا به هو يبدأ الحديث.. وقد بدا لي، وهو يتكلم، كأنما يتحدث إلى نفسه، كأن لا وجود لي معه.. فتركته يتكلم ما طاب له الكلام الذي راح يسيل من بين شفتيه رطباً مبللاً بالدموع الحيية التي لمحتها تسيل من عينيه، في نفس الوقت:
-أنا منرفز ومقهور لألف سبب وسبب... لكن أكثر شيء قاهرني أنني أعمل في هذه المهنة التافهة وأنا مهندس مدني.. ملعون أبو الحاجة... ما باليد حيلة.. الشغل في الهندسة ما عاد لي ولأمثالي بعد ما أخذ الأغبياء من أصحاب الواسطة محلنا.. وأكلوا الأخضر واليابس.. عندي كوم لحم... أربعة أولاد وأمهم.. ولازم أجلب لهم أكل وشرب بأي طريقة.. فماذا أفعل؟ هل أشحذ لقمتهم من الناس، إذا ما قدرت أشتغل بالهندسة؟ أبداً.. إذن، أي عمل أفضل من البطالة.. فاشتغلت سائقاً.. لكن ما قدرت، ولو للحظة، أنسى أنني مهندس.. قلبي محروق يا رجل.. قلبي محروق.. وتقول لي غناء قديم وغناء حديث...؟ ثم، كيف أستطيع أن أسمع الغناء والموسيقى، وعشرات العرب.. أطفال ونساء وشيوخ وشباب في عمر الورد، يُقتلون كل يوم في العراق وفلسطين، وتُهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، وتُفضح أعراضهم؟؟! عيب يا رجل، والله عيب.. والله أنا أخجل من نفسي، إذا سمعت وطرِبت، وإخواني يُقتلون، ونساؤهم تُغتَصَب... أنا مثلك أحب أم كلثوم، وأحب الطرب الأصيل وأحب الموسيقى، ولكنني لم أعد قادراً على السماع.. لهذا غضبت لما رحت تحكي لي عن الطرب والمطربين، بينما قلبي ينقط دماً.. صحيح أنتَ ما لك ذنب، لكن كلامك فتح جروحي، وأخرجني عن طوري.. سامحني..
ووجدتُ قلبي يرقُّ له، خصوصاً وأنه نكأ جراحي التي كنتُ أحاول الهرب منها، فقلتُ أواسيه، وأنا في الحقيقة أواسي نفسي:
-الحال من بعضه يا أخ.. أنا مثلك أحمل شهادة جامعية، لكن في الفلسفة.. ولما ما وجدت جهة تُشغلني بشهادتي، وتعطيني ما يسترني ويستر عيالي، اشتغلت في مصنع تريكو من الدرجة العاشرة.. ملعون أبو الحاجة، كما قلت، لكن أنا أختلف عنك بأنني أحاول نسيان همي الثقيل بالحكي الفاضي وتأليف النكات وسماع الأغاني.. أتعرف لماذا؟
-لا..
-حتى لا أُجن يا أخي..
-ولماذا؟
ودون أن أدري، وجدتُ نفسي أروي قصتي على مسامعه:
-تصور أنني الأول في تخرجي من الجامعة.. وكان من حقي، حسب القانون، أن أُرسَلَ في بعثة للتخصص إلى أوروبا، لكن، وبقدرة قادر، شُطب اسمي، في آخر لحظة، وأُرسِل مكاني آخر، متخرج بدرجة شحطة.. ها ها ها.. وحين سألتُ موظف الجامعة المسؤول، بعد أن حفيتُ حتى سَمح لي بلقاء جلالته: كيف يتم إرسال فلان بدلاً مني، وأنا الأول؟ أجابني بعبارة ما زلتُ أحفظها، لخص لي فيها كل شيء، وبرأ موقفه، في نفس الوقت..
-ماذا قال لك؟
-قال لي: إنها ظروف فوق الظروف.. فلان وراؤه فلان.. أنتَ من وراؤك؟ فقلتُ ملتاعاً: تفوقي وحقي.. فقال هازئاً: مرحبا حقك.. يا أخ.. في أيامنا، الذي ما له ظهر ما له حق.. فهمت ولا أشرح لك من جديد؟ فقلتُ له، وقد فرت دمعة من عيني: فهمت.. ثم استدرتُ، وانسحبتُ من مكتبه مكسور الخاطر..
ومن يومها، وأنا راكض وراء رغيف الخبز، والرغيف راكض أمامي.. عملتُ في أكثر من مهنة، وكل واحدة ألعن من الثانية، حتى وصلت إلى معمل التريكو الذي حدثتك عنه، والذي أعمل فيه، من عشر سنين..
سألني السائق، وقد تعاطف معي:
-وهل عاد الذي لطش حقك في منحة التخصص؟
-نعم سيدي عاد، من ستة أشهر.. ومعه شهادة دكتوراه، بعرض الحائط.. لكن فهمه في الفلسفة مثل فهمي في الذرة... خليها لربك يا شيخ.. يعني فكرك، كل من حمل شهادة دكتوراه فهمان؟ أبداً وحياتك.. ولاّ كان كل من قال (دي) صار طنبرجي، على قول المثل..
-أعرف... أعرف.. لكن الدنيا حظوظ.. واحد يأتي إليها وفي فمه ملعقة ذهب، وواحد ملعقة تنك.. حظوظ.. والله حظوظ..
-المسألة ما مسألة حظوظ، المسألة مسألة حق وباطل.. معقول ولا معقول.. ونحن، للأسف، نعيش اللامعقول في الواقع.. واقعنا صار هو اللامعقول.. صدقني.. فكيف تعيش فيه؟ كيف تتكيف معه، إلا إذا حملت منطقك وعلمك وفلسفتك ووضعتهم في صرة، ورميت بهم في الزبالة؟ لهذا أحاول أن أضحك على نفسي دائماً، لأنسى... أحياناً أضحك عليها بسماع الأغاني، وأحياناً بإطلاق النكات والتعليقات، أو بالهذر.. ولو لم أفعل ذلك لسكنت في مستشفى المجانين من زمان..
-صحيح.. صحيح الحق معك..
وأخذتني نشوة امتلاك انتباهه، وتأثيري فيه، فتابعت:
-اسمع هذه القصة إذن، قبل ما نصل.. قصة ذكي آخر من أصدقائي، كان يتقن أربع لغات أجنبية، ويقرأ كل يوم كتاب، حتى كنا نسميه مكتبة متحركة.. الشاب حساس جداً. وبسبب حساسيته وثقافته الواسعة وعلمه، ما قدِر يتلاءم مع واقع اللامعقول المحيط فيه.. فماذا فعل؟ أدمن الخمر..
-يا لطيف..
-نعم.. مثل ما أقول لك.. صار يشرب ليل نهار، حتى يبقى سكران.. مرة أشفقت عليه، وقلت له: يا أبو علي، حرام عليك صحتك ومالك.. ليل نهار سكران.. فقال لي متعجباً: وهل أثر سُكري على عملي؟ قلت: أبداً.. فقال: إذن دعني يا رجل.. قلت له: على الأقل وَضِّح لي سبب شربك العرق ليل نهار.. تجمعت دمعة في عينه، فتركها تنزل وهو يقول لي: يا أخي.. تعرف كم أنا حساس ومنطقي.. وترى كم هو قاس هذا الواقع ابن الكلب الذي نعيش فيه.. وكم هو غير منطقي وغير معقول.. عندما لا أشرب.. أنظر إلى هذا الواقع، فأراه مقلوباً كلاعب الجمباز الذي يقف على يديه ويرفع ساقيه إلى الأعلى.. فأسارع إلى زجاجة العرق، أعبُّ منها وأعب، حتى أسكر، وعندما أسكر أقلب أنا أيضاً مثل الواقع، فأنظر إليه وأنا مقلوب، فأراه مثلي أو أرى نفسي مثله، فيهدأ خاطري وتسكن نفسي.. لهذا أشرب، وأظل سكراناً..
ورأيت السائق يبتسم ابتسامة ممزوجة بالمرارة، بعد سماعه قصة صديقي التي انتهت بوصولنا إلى البيت، فسررتُ لأنني سرَّيتُ عنه قليلاً، ثم دعوته للنزول وشرب فنجان قهوة، فرفض معتذراً بحاجته إلى العمل، وعندها أعطيته فوق أجره، فابتسم لي بود، ثم أعاد لي الزيادة قائلاً:
-لا والله.. الشحاذ ما يسرق شحاذ.. خذ، واتكل على الله، ومرة أخرى سامحني..
ثم أدار محرك سيارته وانصرف سريعاً، تاركاً، في مخيلتي ووجداني، صورته التي تقطر قهراً وأسفاً على ما آل إليه حاله من بؤس، وهو المهندس، بينما ينعم كثيرون ممن لا يصلون إلى ارتفاع كعبه علماً وفهماً، في ذرى الثروة والجاه.. فاتجهتُ إلى باب بيتي أفتحه، ولسان حالي يردد أبياتاً حفظتها، لبديع الزمان الهمذاني، صاحب المقامات المشهور، يقول فيها:
هذا زمان مشوم ــــــــــــــــــــــــــــــ كما تراه غشوم
الحمق فيه مليح ــــــــــــــــــــــــــــــ والعقل عيب ولوم
والمال طيف ولكن ــــــــــــــــــــــــــ حول اللئام يحوم[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
التعديل الأخير تم بواسطة محمد توفيق الصواف ; 19 / 09 / 2016 الساعة 30 : 02 PM.
سبب آخر: إعادة تنسيق النص
سرد شيق وجرد لبعض هموم الواقع العربي الذي تكاد فيه الأمور تختلط على البعض، فلا يدرون إن كان مابهم نحس أم نتيجة لسوء تسيير و استغلال المناصب وتقصير في حق العدالة الإجتماعية.
تحيتي لك أستاذ محمد توفيق.
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب
رد: في التاكسي...
[align=justify]أخي الفنان المبدع الأستاذ فتحي صالح ...
الأديبة الرائعة الأستاذة نصيرة تختوخ...
أشكركما عميق الشكر على ما تفضلتما به من تقريظ لقصتي هذه، وأعتذر إليكما بالغ الاعتذار لتأخري بالرد على تعليقيكما عليها، كل هذا الوقت الطويل.. ففي الواقع، نشرتُ هذه القصة في بداية الأحداث التي كانت تمرُّ بها بلدي سوريا وما تزال، ثم أنساني تتالي تلك الأحداث القصة برمتها، ثم انقطعتُ فترة عن الموقع، فنسيتُ أني نشرت هذه القصة أصلاً، ولذلك لمَّا فكرتُ بنشرها الآن، فوجئتُ بوجودها وبتعليقيكما عليها.. فشكراً وعُذراً لكليكما..
مع محبتي وتقديري..[/align]
الأخ الأديب المبدع محمد الصواف
بالرغم أن القصة تعالج مشاكل اجتماعية تطغى على عالمنا العربي أين ما كان
الا أن اسلوبك الشيق والسرد الجميل واللغة ذات السهل الممتنع
أتحفتنا بها كثيرا
دام اليراع
أديب وشاعر جزائري - رئيس الرابطة العالمية لشعراء نور الأدب وهيئة اللغة العربية -عضو الهيئة الإدارية ومشرف عام
رد: في التاكسي...
[align=justify](أحيي السائق على صبره معك) ، لو كنتُ مكانه لأنزلتك مع أول جملة قلتها (ابتسامة) ، يا أخي أنتَ ملكشي دم! ...وأنا أتابع أحداث هذه القصة ، وجدتني السائق لا توفيق ! ولا أدري لماذا؟! تعاطفتُ معه حتى قبل أن يعود إلى هدوئه ! سردك وتوجيهك لدفة الحكي له وقع خاص..قوة تأثير غريبة..أعظم الممثلين على الإطلاق من نمقتهم في تقمّصهم لدور المنبوذين فيتقنونه بامتياز! ماذا أقول..تشابهت الأدوار والمشكل واحد..ألف ألف شكر لك على قصة تنبض حياة ! ذكاؤك أعاد إلينا هذه الجوهرة!! تقديري واحترامي..[/align]
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب
رد: في التاكسي...
اقتباس
عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رياض محمد سليم حلايقه
الأخ الأديب المبدع محمد الصواف
بالرغم أن القصة تعالج مشاكل اجتماعية تطغى على عالمنا العربي أين ما كان
الا أن اسلوبك الشيق والسرد الجميل واللغة ذات السهل الممتنع
أتحفتنا بها كثيرا
دام اليراع
[align=justify]أخي الغالي الأستاذ رياض.. أسعد الله أوقاتك..
أشكركَ على مرورك ورأيك الإيجابي بالقصة، وأودُّ أن ألفت انتباهك لمسألة هامة، في رأيي، تتعلق باسمي، فاسمي مُركَّب (محمد توفيق الصواف)، ولي اخي طبيب اسمه (محمد الصواف)، وهو يكتب الشعر أحياناً، ولكي لا يختلط الأمر على القراء، أرجو أخذ العلم، ومخاطبتي باسمي المركب كاملاً، أو بثانيه (توفيق) فقط.. وشكراً..
مع محبتي وتقديري..[/align]
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب
رد: في التاكسي...
اقتباس
عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد الصالح الجزائري
[align=justify](أحيي السائق على صبره معك) ، لو كنتُ مكانه لأنزلتك مع أول جملة قلتها (ابتسامة) ، يا أخي أنتَ ملكشي دم! ...وأنا أتابع أحداث هذه القصة ، وجدتني السائق لا توفيق ! ولا أدري لماذا؟! تعاطفتُ معه حتى قبل أن يعود إلى هدوئه ! سردك وتوجيهك لدفة الحكي له وقع خاص..قوة تأثير غريبة..أعظم الممثلين على الإطلاق من نمقتهم في تقمّصهم لدور المنبوذين فيتقنونه بامتياز! ماذا أقول..تشابهت الأدوار والمشكل واحد..ألف ألف شكر لك على قصة تنبض حياة ! ذكاؤك أعاد إلينا هذه الجوهرة!! تقديري واحترامي..[/align]
[align=justify]أخي الحبيب محمد الصالح.. أسعد الله أوقاتك..
شكراً لاهتمامك الذي لا يتوقَّف بكل ما أنشر، وشكراً لصبرك مع السائق على زبونه الطائش، ولتعاطفك معه.. وشكراً على ما وصفتَ به قصتي هذه من أوصاف إيجابية أرجو أن تستحقها..
وثمة قصة أخرى منشورة في نور الأدب، عام 2011، لم أتمكن من الرد على الأخوة والأخوات الذين علقوا عليها، لأنني لم أنتبه لوجودها هي الأخرى إلا الآن.. وهي موجودة في أوراقي تحت عنوان (حرية تعبير)..، وستكون ضمن مجموعتي الثانية (ناكش أنفه).. اقرأها للاطلاع إن أحببت، وليس ضرورياً أن تُعلِّق عليها..
مع محبتي وتقديري..[/align]