تنويه
[align=justify]إخواني وأخواتي أعضاء وعضوات (نور الأدب) الكرام يسرُّني أن أُقَدِّم لكم أول حلقة من مذكراتي بأسلوبي تقريباً.. فبعد أَخذٍ ورَدٍّ وصياحٍ وشدّ شعر ولحية، نجحتُ ولله الحمد، في إقناع معلمي الصواف بعدم التدخُّل بكتاباتي ومساواة أسلوبها مثل أسلوبه..
يعني، بالمختَصَر، وافق، في النهاية، الله يطوِّل عمره ويُقلِّل تدخلاته بكتاباتي، على تصحيح الأخطاء النحوية والإملائية فقط، وتَرْك بلاغتي التي على قدّها مثل ما هي.. ومن كثرة ما فرحت، استأذنته وقمت للمطبخ حتى أغلي إبريق شاي وأشربه أنا وإياه بمناسبة هذا الاتفاق..
لكن، على قول المثل (جاءت الحزينة تفرح ما وجدت مطرح)، لأنه بالربع ساعة التي غبتها عنه، غَيَّر رأيه ورجع سيادته وأَصَرّ على تدخلات قليلة، مثل ما سمَّاها لي.. ولمَّا اعترضت، قال لي بصوته العريض:
- اسمع يا أخي يا بهلول، لازم توافق على هذه التدخلات البسيطة، حتى ما تفقد مذكراتك كلّ قيمتها الأدبية..
ولأني أعرف تماماً إني إذا عارضته سيغضب، وإذا غضِبَ سأشتَبِك معه من جديد، وإذا اشتبكت معه سيتأخر نشر هذه الحلقة وما بعدها، كَسَرْت على أنفي بصلة، مثل ما يقول المثل، ووافقت على طلبه، وأنا أُعزِّي حالي وأقول: شيء أحسن من لا شيء، يا بهلول..
وبلا طول سيرة، تركته يشتغل بهذه الحلقة على كيفه، حتى صارت على ذوقه.. فرجع بكرسيه الكبير الدوَّار إلى الوراء، وغطس فيه بجسمه الصغير، وقال لي، وضحكته على عرض خدوده:
- يا سلام يا أخي يا بهلول.. الآن صارت الحلقة لا بأس فيها..
ثم قرأها لي، ونشرها بعد ما صارت مثل ما ستقرؤونها الآن..
[/align]
طفولتي
[align=justify]الحقيقة يا حَضَرَات، كانت طفولتي، والشهادة لله، من أفضل ما يكون؛ ولا أعتقد أنَّ بِحَكْيي أي مبالغة إذا قلت إنها كانت أفضل من طفولة كثير من الناس..، إن كان من ناحية محبّة أبي وأمي ورعايتهما لي، ولَّا من ناحية محبّة أهل القرية وعنايتهم بي.. وسأحكي لكم باختصار كيف كانت هذه الطفولة..
الحقيقة، ما خيَّبت دعوات أهل قريتي التي دعوها لي ليلة مولدي، بالصلاح والتقى.. وبدون مبالغة، صدقوني إذا قلتُ لكم إني فاجأتهم بذكائي وحسن تربيتي.. فمن جهة، ما أحد منهم اضطر في يوم من الأيام يدقّ على أبي الباب ويقول له: ابنك عمل وابنك ترك.. ومن جهة ثانية، حفظتُ القرآن الكريم، قبل ما يصير عمري سبع سنين، وحفظي للقرآن زاد من محبة أهل القرية لي، وأضاف لمحبتهم الاحترام والتقدير، ليس لحضرتي، لكن للقرآن الذي حفظتُه في صدري..
وزاد احترامهم لي أكثر وأكثر بعدمَا كلَّفني شيخ الجامع بتعليم أولاد القرية تجويد القرآن وتحفيظهم إياه؛ يعني بعدما صار لي حلقة في زاوية من زوايا الجامع، وصار يقعد فيها الأولاد حولي حتى أعلمهم قراءته وتجويده.. ولأن الناس بقريتنا تعوَّدوا أن يُنادوا معلم القرآن يا شيخ، فمن يومها، ما عاد أحد من أهل القرية ناداني إلا (شيخ يوسف)، مع أنه عمري يومها كان تسع سنوات..
المهم، صرت الشيخ يوسف، قبل ما تفقس عني البيضة، على قول المثل.. ومن فرحة أبي بأنِّي صرت شيخ، اشترى لي جلابية جديدة وعباية خفيفة وطاقية بيضاء ومترين قماش أبيض حتى أعمل لَفَّة أكبر من راسي بمرتين، وطلب مني ما أذهب للدرس بغير هذه الملابس؛ ولولا الحياء لكان اشترى لي نظارة أيضاً وطلب مني أن أضعها، رغم أن نظري كان مثل الحديد، كما يقول المثل..
لكن أكيد هذا الحكي لا يعني إني قضَّيت كل طفولتي وأنا شيخ جالس بين جدران الجامع لا يتركه ليل ولا نهار، إلا للبيت حتى يأكل وينام..، أو إني ما عرفت في طفولتي اللعب واللهو أبداً.. فالحقيقة، كنتُ أخرج إلى الحارة، في بعض الأيام، حتى ألعب مع أولاد الجيران الذين كانوا بعمري، بعض الألعاب التي كانت مشهورة بأيامنا، مثل: (دَقَّة عيش) و(طميمة)، و(زحطة)، و(علي بابا والأربعين حرامي)، وغيرها..
ومع أنه كانت لعبة الدَّحَل مشهورة في ذلك الزمان، لكني ما لعبتها غير مرة واحدة، وما عدت أعدتها أبداً، بعد ما أكلت الذي فيه النصيب من أبي..
ولعلمكم (الدحل جمع دَحَلَة، وهي كرة زجاجية صغيرة كان يلعب بها الأولاد في القرى وحارات المدينة أيامها، وطريقتها أنه الولد يمسك الكرة بين إبهامه وسبابته وينقفها ليصيب بها دَحَلَة ثانية لشريكه في اللعبة، يضعها على مسافة نصف متر تقريباً.. فإن أصابها ربح دَحَلَة شريكه، وإن ما أصابها خسر دحلته، وهكذا).
بلا طول سيرة، يومها، كنت مقرفصاً وأنا أمسك الدحلة كما علمني أحد الصغار، أريد أن أنقفها، ولشدة تركيزي على دحلة شريكي، ما انتبهت أن أبي جاء وصار فوق راسي.. وبدون مقدمات، مثل ما يقولون، أمسكني من قَبَّة جلبابي، وسحبني لفوق، وبدأ يضربني بكفه الكبيرة كفّ طالع وكفّ نازل، وهو يصرخ بي، كأنَّ عقله طقّ:
- كيف سمحت لحالك تلعب بالدحل وأنتَ شيخ؟! ولَكْ هذه لعبة زعران يا حقير.. لعبة قمار يا كلب يا ابن الكلب.. يا خيبتي فيك يا نَوَرِي.. يا خجلي من أهل الضيعة.. قال الشيخ يوسف قال.. والله يا كلب لازم ينادونك من اليوم شيخ الدَّحَل.
وظلَّ يومها يضربني ويسبُّني من تحت الزنار ونازل مسبَّات أخجل من ذكرها لجنابكم والله، حتى دخت ووقعت على الأرض، لا من فمي ولا من كُمِّي، كما يقول المثل..
ومع أن أكثر أهل القرية كانوا مُتْجَمْعِين حولنا، لكن ما أحد منهم تجرأ وقرَّب ليخلصني من بين يدي أبي، لشدة هيبته في نفوسهم.. وظلُّوا واقفين مثل الأصنام حتى وَقَعْتُ على الأرض، وبدأ الدم يخرج من فمي وأنفي، عندها ركض واحد من الشباب إلى الجامع، ونادى على الشيخ عطا الله - شيخ الجامع - ليخلصني من بين يدي أبي قبل ما أصير في عِداد الأموات..
والحقيقة، كما حكى لي ذلك الشاب، فيما بعد، أن الشيخ عطا لما سمع أنه أبي نازل فيّ ضرب كفوف، ما عاد يعرف كيف يلبس حذاءه، من شدة سرعته وارتباكه، فتركه وركض لساحة القرية حافيَ القدمين، حتى يلَحِّقني قبل ما أبي يطلِّع روحي، وبالفعل لَحَّقْني وأنا على آخر نَفَس، فرفعني عن الأرض، ووقف بيني وبين أبي الذي لم ينتبه، من شدة غضبه، أن الذي جاء ليدافع عني هو شيخ الجامع، فبدأ فيه ضرب، وما وَقَّف حتى صرخ الشيخ به صرخة رجَّعت له عقله، كما يقولون، فارتخت يداه واحمرَّ وجهه وبدأ يعتذر للشيخ، لكن بعد ما كان ضاربه كفّين ثلاثة مثل طِباق الجمر، كما يقول المثل، وبعد ما وقعَت لفَّته وطقم أسنانه على الأرض، وما عاد الاعتذار ينفع بشيء.. وبقيَ الشيخ عطا ما يحكي مع أبي أكثر من أسبوع، حتى تدخَّل وجهاء القرية وصالحوهما على بعض..
أكيد، ما كانت هذه هي المرة الوحيدة التي جعلني أبي أرى فيها نجوم الظهر، لكن كانت أول مرة.. أمَّا المرة الثانية فكانت يوم لَعِب أولاد الحارة بعقلي، وأخذوني معهم للمسبح.. وإليكم ما حدث يومها:
في صباح يوم من أيام الصيف الحارَّة، قال لي أولاد الحارَة تعال معنا يا يوسف على المسبح حتى نعلمك السباحة.. ولأني كنت متأكد سلفاً أن أبي لن يوافق، كذبتُ عليه ولم أقُل له إني ذاهب مع الأولاد على المسبح، بل قلت له إني ذاهب أعمل (سيران)/نزهة/ على كتف نهر مدينتنا الذي كان ما يزال جارياً غزير الماء..
ويومها، ما أحد خَبَّرَني من الأولاد أنه لازم آخذ معي ملابس خصوصي للسباحة، فوقعت هناك في مشكلة ما أنقذني منها إلا منقذ المسبح الذي جاءني بسروال قصير، قال لي أنه اسمه (مايوه)، وناولني إياه لألبسه، وهو يطالبني بأجرته سلفاً.. لكن لمَّا رأيته قصير جداً، استحييت ورفضت لِبْسَه، وقررت أنزل الماء بسروالي الطويل، فضحك منقذ المسبح عليّ وهو يقول لي:
- تمام يا بطل.. تفضل انزل سيادتك واغرق..
ولأني عنيد من صغري، قررت أتحداه، فما كَذَّبْت خبراً، وركضتُ بسرعة إلى الماء وألقيت بنفسي في الجانب العميق من المسبح، وأنا أظنّ أنني سأسبح مثل سمكة؛ فكانت النتيجة أني غرقت بعد عشر ثوانٍ.. وما عرفتُ ما حصل لي بعد ذلك، إلا بعد ما صحوت على صوت المُنقذ وهو يلعن أبي وأمي وعائلتي بشتائم بذيئة لم أسمعها من قبل أبداً، لأني أجبرتُه أن يُوقِف حمامه الشمسي ويركض ورائي مثل السهم ليطالعني من الماء، ويبدأ بإنقاذي وإخراج الماء الذي ابتلعته من معدتي..
وبعد ما أنقذني بقيت أسعل حتى ظننت أن صدري سينشق، ثم ارتديت ملابسي ورجعت مع الأولاد للبيت، وهم لا يتوقفون، طول الطريق، عن شتمي لأني خرَّبت نزهتهم ومنعتهم من الاستمتاع بالسباحة في ذلك اليوم.. وكأن كل شتائمهم ما كَفَّتْ حتى راح أبي يسبني أول ما فتح لي باب البيت ومع المسبَّات بدأ يضربني بيديه ورجليه، بعدما طار عقله لمَّا عرف أني كنت بالمسبح.. وما توقف عن سَبِّي وضربي، يومها، إلا بعد ما تدخلت أمي وتَشَفعت لي عنده. والحقيقة، ما رضي يقبل شفاعتها إلا بعد ما أكدت له أني نزلت إلى الماء بملابسي وما لبست مايوه..
وإذا كنت بِالمرَّتين السابقتين لاقيتُ من يشفع لي عند أبي، فَبِالمرّة الثالثة ما تَشَفَّع لي أحد، وما تَدَخَّل أحد إلا بعد ما قَرَّبت أموت بين يديه، بعد ما فَقَد سيطرته على أعصابه تماماً لمَّا رآني مع بعض أولاد الحارة وكل واحد مِنَّا حامل سيجارة بيده حتى يدخنها.. يومها ضربني ضرباً لو ضربه لجحش، أَجَلَّكم الله، لمات؛ ولو ما تدخلت أمي وأعمامي وأخوالي ثم شيخ الحارة وكبار وجهائها، في الوقت المناسب، لكنت متُّ بين يديه..
صحيح كانوا كلهم غاضبين مني لمَّا عرفوا السبب، لكنهم قدروا أني ولد لا أعرف ما أفعل، إلَّا أبي، لأنه، كما أظن، ما نظر لي مرة واحدة في حياته على أني طفل.. وأظن، والله أعلم، أنه من يوم ما طَلَعتُ من بطن أمي ليوم ما مات، ما قَدِر يعتبرني إلا رجل؛ لأنه ـ الله يرحمه ـ كان ينظر لي، حتى وأنا بعدي رضيع باللَّفَّة، مثل ما صوَّرني له عقله، يعني شيخ عليه القدر والقيمة وهو يسير بين أهل القرية بلحية ولفَّة...
على أي حال، ما عدا هذه الثلاث مرات التي عاقبني فيها، ما رفع يده عليّ أبداً، الشهادة لله، وما قال لي كلمة قاسية.. يعني عشتُ طفولتي على أحسن ما يكون.. صحيح ما شبعت فيها من اللعب واللهو مثل باقي الأولاد، لضيق وقت اللعب الذي كان يسمح لي به، لكنِّي تمتعت فيها بمحبته واهتمامه هو وأمي وكلّ أهلي وأهل القرية...، والشهادة لله ما أحد من الأولاد الذين كانوا بعمري تمتع بالمحبة والاحترام والدلال مثل ما تمتعت..
وللحقيقة، ما كان اهتمام الكلّ بي بسبب جمال وجهي أو بسبب جاه أبي، لكن كان بسبب شطارتي في دراسة علوم الدين وحفظ القرآن الكريم والكثير من الأحاديث الشريفة.. ومن كثرة اهتمامهم بي بدأت أشعر أني ولد مُميَّز بنظرهم كلهم، وأدركت يومها، بفطرتي لا بعقلي، أني أقرب ما أكون إلى نبتة حلوة شاركوا كلهم في غرسها وسقايتها وحمايتها ورعايتها، وأنهم ينتظرون منها الخير الكثير بعد ما تكبر.. يعني شعرت وكأني أمل الكلّ، لا أمل أبي وأمي وحدهما.. وكلما كبرت كلما كبرَ هذا الإحساس معي، وكلما زاد عزمي على بذل كل ما أستطيع حتى ما خيِّب أملهم بي..
وقبل ما أختم هذه الحلقة من مذكراتي، وحتى ما يسيء أحد فَهْمَ أبي وقسوته وطريقة تربيته لي، بناءً على ما فعله معي بالمرات الثلاث التي عاقبني فيها، فكَّرت أنه من حقّه عليّ أن أحكي لكم كم كلمة عن شخصيته، لأنه لا يستحق أن يظن أحد أنه كان يقسو عليّ لأنه ما كان يحبني، فالحق يُقال، ما رأيت مثله بين الآباء أحد، لا بمحبته ولا بعطفه ولا بكرمه ولا بِحُسن معاملته لي.. [/align]
أبي
[align=justify]إذا أردتم الحقّ لا ابن عمه، كان لمحبة أهل القرية لأبي واحترامهم لأعماله الحميدة وتقديرهم لمعاملته الحسنة مع كبيرهم وصغيرهم، دور كبير في اهتمامهم بي وبمستقبلي.. فصحيح أنه رجل غير مشهور مثل الذين تتحدث عنهم كتب التاريخ، لكنه كان مثل كلّ الذين يصفهم الناس بالجنود المجهولين.. يعني كان من الذين وهبوا حياتهم بصمت وحب لبلادهم وأهلها، مع أنه كتب التاريخ ما كتبت عنهم ولا ذكرتهم بكلمة واحدة.. وإذا كانت كتب التاريخ ما حكَت عن أبي وأمثاله كلمة واحدة، فليس لأنه حجمها صغير، فما في أكبر من كتب التاريخ ببلادنا، لكن على كبر حجمها، ما ترك فيها الحكَّام والظُّلَّام وأولاد الحرام الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد أي مكان للأشراف وأولاد الحلال مثل أبي.. يعني صادروا تاريخها وزوَّروه بالحكي عن بطولاتهم الكاذبة وأعمالهم الحسنة التي ما كان لها أي أثر في الواقع، بأي يوم من الأيام...، وما تركوا لأبي وأمثاله ولو صفحة واحدة، ولا حتى إشارة اللهم إلا كلمتين اختصروا بهما كل أمجاد الأبطال الحقيقيين وهما (الجندي المجهول)!!
نعم.. كان أبي - رحمه الله - من الذين تنطبق عليهم هذه الإشارة، وكان راضياً بها، مثل كل المخلصين من أمثاله الذين كان كل همهم في الحياة أن يدافعوا عن بلادهم وأهلهم ويحموهم وينصفوا المظلوم منهم، بأي طريقة، حتى لو كان الثمن حياتهم.. ولأنه – رحمه الله – أراد أن أكون مثله وأحسن، بذل كل جهده حتى يربيني أحسن تربية، ونجح؛ وسأؤكد لكم كلامي هذا في الحلقة القادمة، إن شاء الله، فإلى اللقاء..
[/align]