حكاية سفر
وما علاج الحنين والرغبة بامتطاء السحاب والرحيل إلى وطني، مغامرة بتلقي صفعة، أو لكمة، أو رصاصة، أو قذيفة!
ما علاج مجافاة الأحلام في رحاب الوطن، وطعم السكر المرّ في فمي؟
ما علاج الموت البطيء كلّ يوم، والرقص فوق جمر الروح؟
فنجان القهوة أدلقه صباحا في جوفي وأمضي نحو مراكبي التي ما تزال تتراقص بين أمواج البحر الهائجة؟
قبل أسبوعين تأخرت عن الطائرة التي كانت ستقلني إلى صوفيا، وأنا المجنون المتلهف لبقايا حياتي، امتطيت طائرة أخرى هبطت في بوخارست، أقرب عاصمة لصوفيا، وانطلقت بالحافلة عبر الدانوب الأزرق إلى أقرب مدينة حدودية داخل بلغاريا. كنت قبل ذلك بأيام قد حلمت بالدانوب تحديداً. تمكنت من إخفاء بعض الدمع في عيني حين عبرت بالحافلة فوق الدانوب، وبعد ساعة وجدت نفسي في مدينة أشباح ولم تكن الساعة قد تجاوزت الثامنة مساءً. كنا مجموعة من المسافرين لا يتجاوز عددهم 7 أشخاص. وكنا سنقل قطاراً يكفي لنقل آلاف المسافرين. بقايا النهج الاشتراكي الخاطئ، كان بإمكانهم تخفيض عدد العربات التي يجرها القطار المحرك. وكان علي انتظار أربع ساعات كاملة حتى منتصف الليل لينطلق القطار إلى العاصمة صوفيا، والتي كان من المقرر أن أصلها عند ساعات الصباح الباكر. رحلة كان من المفروض أن تستغرق ساعتين ونصف الساعة بالطائرة التي هربت دوني. لأقوم برحلة استمرت 24 ساعة كاملة. أثناء انتظاري في محطة القطارات والتي كما قلت لكم كانت تشبه محطة أشباح شرق أوروبية. حضر رجل مسن، يبدو بأن السفر بالنسبة له طقس فريد من نوعه. فقح حقيبته القديمة المربوطة بحبل وبدأ يخرج عالمه بأكمله يا أصدقائي. أخرج أوراق صحف قديمة وبالية، رتبها بعناية فائقة ووضعها إلى جانبه، ثم أخرج زجاجة بلاستيكية تحوي على مشروب حنطة مع طحينة، له طعم مميز ولا يحتوي على الكحول، فحص القنينة وتيقن من أنها محكمة الإغلاق. ثم أخرج قنينة أخرى، وكانت قد فقدت جزءً من محتواها، ماذا فعل الرجل بحسبكم؟ دلع لسانه ولعق كامل السائل ولم يضع قطرة واحدة، أخرج صحيفة أخرى وكانت مبتلة بالسائل نفسه، أغمضت عيني متقززا حين لعق الصحيفة بلسانه حتى جففها. أخرج قرنا من الموز ووضعه فوق الحقيبة المتواضعة، ثم أخرج كسرات من الخبز، وبدأ يأكل، تمكن من التقاط كسرة الخبز الضالة قبل أن تصل الأرض، وضعها إلى جانب قرن الموز. أخرج زجاجة صغيرة من الروم، تيقن من أنها مغلقة تماماً، ثم أخرج كأساً من البلاستيك، وصب بعض الروم وشربه مرة واحدة، ثم أتبعه بكأس ثانية وثالثة. حين أغلق الزجاجة، تيقن بلسانه من أنها مغلقة تماماً. وجاء الدور على فتات الخبز الذي كاد أن يسقط، أكله وتناول قرن الموز، ومضى نحو سلة القمامة ليلقي بالقشر. رماها في السلة بطريقة بهلوانية، بحركة سريعة من وراء ظهره، نظر إلى سلة القمامة، وكان يريد أن يتيقن بأن القشر سقط في منتصف السلة. عاد إلى حقيبته وبدأ بتربيب ما أخرج بدقة جراح. أخرج علبة صغيرة ورقيقة من البلاستيك (فارغة)، كنت أظنه سيلقي بها في سلة القمامة أيضاً. لا .. لم يتخلَ عنها، بل أضافها إلى محتوياته وثروته. وعندما انتهى من كلّ هذا، أدار ظهره للحقيبة منتشياً، وضع يديه خلف ظهره، ونظر مطولاً إلى الساعة في الطابق العلوي. المسافات كانت كبيرة، والبناء قريب للعمارة الكنسية الكاردينالية، الأبواب مرتفعة وتقاس بالأمتار، وهناك في الطابق الثاني شبه المظلم، كان يقف شرطي سمين وفي فمه سيجارة، لم تكن تقاسيم وجهه واضحة، وكان يحدق في اللا شيء عبرنا. كلّ هذا حدث أمام عيني خلال تلك الساعات القليلة التي قضيتها في محطة القطارات في مدينة ((روسي)) الحدودية ما بين رومانيا وبلغاريا. نسيت أن أقول لكم بأن هناك أيضاً رجلاً متسكعاً، ألقى بجسده القذر والذي لم يعرف طعم الماء منذ سنة أو يزيد، همهم وشتمني عندما لم أتمكن من إغلاق البوابة العملاقة، وكان صريرها مزعج للغاية، وبالطبع كان إلى جانبه كلب يحلم ببعض العظام والفتات، الكلّ كان يبحث عن الدفء المجاني في تلك الأيام الباردة. عندما طلبت شراء التذكرة من المرأة القابعة خلف شباك التذاكر، كانت غارقة في تلك اللحظة في حديث هاتفي مطوّل، لم تسمعن في المرة الأولى، وحين صرخت بصوت عالٍ لأوقظها من عالمها الخاص، ارتبكت وسقطت الملفات والأوراق من فوق الطاولة أمامها. على أية حال، كانت المعاناة الكبرى حين صعدت إلى القطار. كانت درجة الحرارة في الحافلة التي سأقضي فيها ستّ ساعات على الأرجح تتجاوز السبعون درجة مئوية، وبدأ العرق يتصبب من كافة أنحاء جسدي، طلبت من أحد رجال الشرطة المارين بجوار القطار التدخل لإيقاف هذه المصيبة، لكنه أجابني بأن المسؤول سيمرّ في أقرب وقت ممكن. وحين حضر اللعين قال بأن هناك عطل فني بسيط، ويجب فصل التدفئة عن الحافلة ولا يوجد حل آخر. وافقت أنا والمرأة التي كانت قد صعدت إلى القمرة، وكانت مريضة وتتناول الدواء. في الساعة الأولى من السفر في القطار هبطت درجة الحرارة إلى 50 درجة، ثم 30 وعشرين. وفي آخر ساعة من سفري شارفت على الصفر. ارتديت جميع الملابس الممكنة، ووصلت إلى البيت تحت زخات من المطر، وقد أصابني إرهاق وإرباك في معدتي.
أترون لماذا اشتقت للوطن إلى هذا الحدّ؟ الرجل العجوز أظهر لي عالمه الصغير وكان يعتز به، لأنه ملكه الخاص، وجذوره وطيدة بالوطن، هذه طقوسه وهذا سقف أحلامه، وأنا أحسده على ذلك. قرأتم مشروع مسرحيتي القادمة، والتي لم أكتب حرفاً واحداً منها بعد. عالمي الخاص، ذكرياتي في فلسطين، وقريتي الصغيرة دير شرف،
سامحوني فقد أطلت عليكم،
وأنتم أحبتي.