مديرة وصاحبة مدرسة أطفال / أمينة سر الموسوعة الفلسطينية (رئيسة مجلس الحكماء ) رئيسة القسم الفلسطيني
|
رسالة من الدكتور أنيس صايغ إلى غسان كنفاني في ذكرى وفاته
رسالة من الدكتور أنيس صايغ إلى غسان كنفاني
في ذكرى وفاته الخامسة والعشرين :
من فوق التراب إلى تحت التراب . والموت واحد وإن اختلف الموقع . والمدفن واحد وإن اتسع ما فوق التراب ليشمل العالم كله حيث انتشر الفلسطينيون وضاق ما تحت التراب فانغلق على جثمان وحيد. فشل القتلة وان نجحوا في تغييبك. ونجحوا في تغييب غيرك وإن فشلوا في قتلهم . ولو كان القتلة يعلمون أنهم بقتلك يطلقونك من عالم مجنون ومتخاذل ومستسلم باع شرفه وأرضه وحقه ومبادئه بثمن زهيد أو حتى بدون ثمن , لكانوا ترددوا قبل وضع الأصابع المتفجرة في سيارتك في صباح ذلك السبت المشؤوم قبل عشرين سنة . وإن انفجار الفولسفاكن حررك من هذا العالم وأبعدك عن المأساة التي نعيش , وأخفى عن عينيك عيوب الحاضر وجرائمه وانهزاماته. فأغمضت عينيك على صورة جميلة من صور النضال والإيمان والثورة والقيم . وفي عشرين سنة خبت هذه الصور وبهتت وأخذت مكانها صور قاتمة وتعيسة ... كم توهمت , بعد استشهادك بعشرة أيام , بأن وحشية العدو التي نالت منك لم تنل مني تماما , فبقيت أتنفس وأتحرك وأرمش. وإن خف السمع والبصر إلى ما يقارب الزوال . ولكني , وبعد عشرين سنة من اقتراف هاتين الجريمتين , أغبطك , وأغبط مصيرك , ولا أغبط مصيري . ماذا كنت تسمع يا غسان , وماذا كنت ستشاهد لو كنت تشاركنا الجلسات هذه الأيام؟ لقد هددوك , وحذرك العارفون قبل أيام من الجريمة واستخففت فنالوا منك . وهددوني , وحذرني بعض العارفين قبل أيام من الجريمة فسخرت ولم أتعظ مثلك , ونالوا مني . وهكذا كان الحال مع الكثيرين غيرنا. رحم الله الموتى وشفى الجرحى والمصابين وغفر للمتخاذلين وهداهم . إن وحش الموت , كما يقول المثل الدانمركي , يلتهم الأدسم بين ضحاياه , ترى هل كانت لدينا رغبة خفية في التنافس والتدافع أمام الوحش ليختارنا نحن من بين آلاف المقاتلين بالبندقية أو بالقلم ؟ لقد أراحك الموت من سؤال سخيف كان المحقق سيطرحه عليك مثلما طرحه علي وأنا أستلقي على سرير في المستشفى بين الموت والحياة : من تعتقد انه وراء الجريمة ؟ هل هناك خصومة بينك وبين جار أو زميل أو منافس ؟ ولو كانت لدي قدرة على الكلام لكنت أجبت: نعم , هناك خصومة بيني وبين العقل والمنطق. عقل هذا الزمان ومنطقه اللاعقلاني واللامنطقي , يبدو أنهم هم العقلاء والمنطقيون , ونحن كنا المغفلين . المغفل فقط يرث الرضى الذاتي وراحة الضمير وشرف النضال وهم يرثون كل شيء آخر رنان , من لقب على ذهب .
أخي العزيز غسان : لقد مت مرة , ونموت نحن كل يوم ألف مرة , أكاد أسمعك تسأل: أليس من أخبار غير هذه التعاسات ؟ نعم فايز وليلى يرفعان اسم فلسطين واسم والدهما عاليا, بكفاءتهما ونشاطاتهما ونجاحهما . وآني وفية لك وفي وفائها لقضية زوجها التي أصبحت قضيتها , مثابرة تنجز ما يعجز عنه العشرات ورفاقك على الرغم من إيمانهم وسلاحهم وأصالتهم . وجبهتك صامدة بالرغم من الإغراءات التي تستميل الضعاف وتشد الأقوياء .
الحكيم القائد يزداد مرضه قسوة وتزداد عزيمته قوة . وكتبك ورواياتك وقصصك تجتذب القراء المعجبين طبعة بعد أخرى . ومجلة الهدف تتحدى وتواصل الصدور .
والواحات النادرة في صحارينا الواسعة لا تزال خضراء . وينابيعها لم تجف, وإن أعرض الكثيرون عنها ولم يعد ماؤها الزلال يروي لأن عطشهم هو إلى نوع آخر من المشروبات ... وبكلام آخر : لم تغب الشمس بالمرة وإن كانت العتمة تلف حياتنا .. فلا بد للشمس أن تشرق ثانية .
إن دماء الشهداء , الأموات منهم والأحياء , ستظل تشع نورا يضيء لأجيال قادمة وحده هو الأمل يمنعنا من الاستسلام / الانتحار .
لماذا نكتب عن غسان في مثل هذا الأسبوع من كل عام . وكأن الكتابة أصبحت طقساً , تبرئة ذمة وإراحة ضمير . ماذا يحمل الكاتب من أفكار بعد أن مضى عليه خمسة وعشرون عاما يشيد بالشهيد الغالي , إنسانا ومناضلا وأديبا وكفاءة نادرة وشخصية فذة . وهل لدى رفاقه وأهله وأصدقائه كلمات يقولونها له في ذكراه أكثر من أننا نتذكرك يا غسان . ونفتقدك ونقدرك ونستمتع بقراءتك وبرصد أعمالك وسيرتك ؟
لنقلب , إذن , صفحة أخرى في الذكرى . كان غسان مسؤولا بارزا في أحد فصائل الثورة الفلسطينية وكان كاتبا مرموقا , أدبا وسياسة وفكرا وقد مارس مهمتيه بإيمان وأمانة وبنشاط وكفاية وكان وفيا لرسالتيه . وقد عرفناه مناضلا متطورا ومفكرا مجددا , يتابع مسيرة العطاء باستيعاب مرن لحركتي الحياة عموما والعطاء خصوصا اللتين لولاهما لتجمد العقل وتحجر الفكر وخرج الإنسان من دائرة الفعل والتفاعل وتاه في هامش الضياع والفشل والإفلاس والتقوقع والعقم والنسيان .
هذه المعرفة لشخص غسان وطبيعته وأسلوبه وتعاطيه مع الحياة . تستطيع أن تدلنا على ملامح لتصرف غسان وموقفه من أحداث وتقلبات نسأل أنفسنا عما كان غسان يفعل إزاءها لو كان لا يزال اليوم بيننا , حيا بالجسد والروح والإيمان والعطاء . وسوف نختار اثنين من إفرازات الأحداث المتبدلة نعتقد أن فقيدنا كان سيوليهما عناية خاصة ويطرح لهما حلولا مميزة .
نشأ غسان كنفاني ونما مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ مولد نواتها الأولى كحركة القوميين العرب في مطالع الخمسينات , إلى أن تحولت إلى فصيل ثوري واتخذت لنفسها , تدريجيا , الصيغة الحالية لها كجبهة شعبية للتحرير منذ حوالي ثلاثين سنة . ويعطيها ما وهبه الله من قدرات وطاقات وكفاءات نادرة وهائلة مستعينا بثقافته وقوة شخصيته وسرعة خاطره وتوقد ذهنه وموهبته الفنية وكان , بالتالي, من القلائل جدا الذين كان كل منهم ابنا وأبا للحركة ثم الجبهة في آن معا, فجمع بين وفاء الابن وإخلاصه وتفانيه وبين حرص الأب وحنانه وتضحيته .
تبدلت أمور كثيرة في الساحة الفلسطينية / العربية في التنظير وفي التطبيق وتباين الاحتمالات وذلك في ربع القرن الذي مضى على استشهاد غسان , وخاصة في السنوات العشر الأخيرة .
هل كان غسان كنفاني , ابن الجبهة , يقبل أن يتأرجح رفاقه بين العمل الحزبي السياسي وبين النضال المسلح فيكاد يتيه ويفقد توازنه ويفقد بالتالي دوره الريادي ويتنكر لتراثه ؟ وهل كان غسان الكاتب الملتزم يرضى أن تكون لكل الشرائح والتخصصات في شعبه نقاباتها واتحاداتها ولا يكون لرواد المجتمع وطليعته , أهل القلم , هيئة واحدة موحِدة وموحَدة (بكسر الحاء وفتحها مرة أخرى ) , تطفو فوق سواقي العصبيات والنزاعات التنظيمية أو الحزبية الضيقة لتشكل رافدا قويا (ربما يكون الأقوى بحكم نوعيته ونخبويته)لجبهة الصمود أمام الهجمة الصهيونية الشرسة ؟
من عرف غسان كنفاني يعرف أنه لو كان لا يزال بيننا اليوم لكان أول الرافضين لحال التفكك والتأرجح والتناثر والتنافر .
أعطانا غسان قبل خمس وعشرين سنة دمه وحياته فهل نستمد اليوم من سيرته وتراثه , من فكره وسلوكه قدوة نسترشد بها في معاركنا الحاضرة والمقبلة مع العدو الصهيوني وعملائه , فنعبر بذلك الاسترشاد عن تجاوبنا مع تضحيته الكبرى ؟
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|