فهم آيات الكتاب المسطور وفق آيات الكتاب المنشور
إلى متى سينفق المسلمون - أعني غير أهل الاختصاص- جلّ أوقاتهم وهم يبحرون في كتب الحديث والسيرة للوصول إلى شاطئ الحقيقة، بحثاً عن صحة أو ضعف نص ديني يتناقض مع حقيقة علمية؟ أولا يوجد في منهج التفكير الإسلامي آلية تخوِّل المثقف المسلم العادي – وهو السواد الأعظم من الأمة والمعوّل عليه في بنائها- من البت الفوري بمثل هذه المسائل؟
لاشك أن الجهد الاستثنائي الذي بذله علماء الحديث والمؤرخون والمفسرون الأوائل في القرن الثالث الهجري [1] كان واجباً مقدساً يرقى لمنزلة (فرض العين) بالنسبة إليهم، ناهيك عن كونه خطوة لابدّ منها لتأسيس العلوم الإسلامية ومنهجتها (التأسيس الميثودولوجي) آنذاك، ولذلك عكفوا على غربلة مئات الآلاف من الأحاديث المرويّة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفرز صحاحها عن سقيمها المتغلغل فيها، وسيظل التخصص في هذه العلوم مطلباً علمياً لا مندوحة عنه ما كتبت الحياة لهذه الأمة حفظاً لتراثها، وحراسة لعلومها الشريفة.
فليست دراستي ميثودولوجية إذن بمقدار ما هي إبيستمولوجية تبحث في حقل معرفي (وهو كتاب الله المسطور) وانطباقه على الواقع الوجودي (كتاب الله المنشور) من خلال استثمار العقل الإسلامي لما تمخّض عنه الانفجار المعرفي من اكتشافات لقوانين الله المبثوثة في الأرض وما عليها وما حولها في الكون المنظور لفهم آيات الله المبثوثة في كتابه المسطور.
نقطة انطلاقنا إذن هي القاعدة القرآنية: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 53/ فُصلت. فكما أن لله كتابه المسطور (القرآن الكريم) الذي دللّ بإعجازه على صدق النص الإلهي، فإن لله كتابه المنشور ( آيات الآفاق والأنفس) - حسب تعبير الأستاذ جودت سعيد- الذي يدلـِّل على صدق النص الإلهي (القرآن الكريم) وصحة النص المفسِّر له (الحديث الشريف)، فتعارض النص المفسِّر مع كتاب الله المنشور لا يجوز بحال، ولو وقع تحت أيدينا هكذا تعارض فإنه دليل على أن الحديث مجرد تقوُّلٌ على الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا أساس لصحته يوجب هلاك صاحبه [2].
ولقائل أن يقول إنك لم تأت بجديد، فابن الصلاح [3] قد أشار إلى ذلك بشكل غير مباشر في تعريفه للحديث الصحيح، فاستوجب شرط خلوِّه من العلّة القادحة [4]. والعلة يعرِّفها أهل الحديث بقولهم: "أمر خفيٌّ يؤثر في صحة الحديث مع أن الظاهر السلامة منه، ولا يطلع عليه إلا أهل المعرفة والنقد من جهابذة الحفاظ المتقنين [5]". فأجيب أن مدار بحثي لا يتعلق (بجهابذة الحفـّاظ المتقنين) ولا بمنهجهم في التصحيح والتضعيف، وليس بحثنا بحاجة إلى كثير من إعمال العقل في النص. وللتدليل على ما أرمي إليه أسوق المثال التالي: حين يقع تحت يديّ حديثٌ كحديث الأرض التي تطفو على ظهر حوت أو تتأرجح على قرني ثور فإن مرجعيتي في تحقيق الحديث هي (كتاب الله المنشور) الذي يحسم أمر رتبة الحديث المكذوب. ويبقى أمر التحقق (الأكاديمي) من سند الحديث ورواته موضوع رسالة أو حلقة بحث.
لقد أصبح العقل الإسلامي، وبفضل ما توصلت إليه العلوم والمعارف البشرية- باستثناء العلوم الظنية والنظريات التي لم ترْقَ إلى درجة اليقين- يملك القدرة على حسم كثير من اللغط الذي دار سابقاً حول العديد من القضايا والمسائل المتعلقة بالإنسان والطبيعة والكون والمبثوثة في جسد النصوص الدينية، وأصبح بمقدوره الحكم بضعف كثير من الأحاديث ذات الصلة بقوانين (الكتاب المنشور) والمنسوبة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورفض آراء العديد من مفسري النصوص الدينية – والتي تتعلق بالعلوم البيولوجية، وعلم الجيولوجيا، وعلم التاريخ، والعلوم الكونية- لكونها لا تتطابق مع كتاب الله المنشور، ولا تعبر إلا عن مفاهيم مغلوطة استوردت من بلاد الهند والسند، أو نقلت من أسفار بني إسرائيل المنحولة.
إن باستطاعة الباحث الإسلامي اليوم (فحص) النص الديني بأدوات غير مسبوقة لا علاقة لها بعلم الجرح والتعديل أو خوارزميات ابن الصلاح في مراتب الخبر والأثر. وقد بشر القرآن الكريم قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام بإراءة الله للإنسان هذا الكتاب الإلهي المنشور في الآفاق والأنفس، ويحقق الإنسان إرادة الله بتدوين العلوم (الكتاب المنشور) بفضل { ن* والقلم وما يسطرون}، وبذا يُعرَف اللهُ بآياته فيشعُّ نورُ (فبي عرفوني) [6].
الباحث: عدنان أبوشعر
الهوامش وثبت المراجع
[1] – يحيى بن معين (158- 233 هـ)، وأحمد بن حنبل (164- 241 هـ)، وعلي بن المديني (ت 234 هـ)، ومحمد بن إسماعيل البخاري ( 194-256 هـ)، وعبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي ( ت:235 هـ)، ومسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206- 261هـ)، ، وغيرهم كثير.
[2] – لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن كذبا عليّ ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدافليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري (1229) ، ورواه مسلم في مقدمة صحيحه دونقوله : " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد".
[3]- هو تقي الدين عثمان ابن الصلاح هو أحد علماء الحديث، وهو شافعي المذهب، ولد في بلدة شركان سنة (577 هجري - 1181 م -643 للهجرة - 1245 م)، ولما بنى الملك أشرف بن الملك العادل دار الأشرفية للحديث تولى ابن الصلاح أمورها والتدريس بها، وعهد اليه إلى جانب ذلك التدريس في أحد أشهر مدارس دمشق أيامها وهي مدرسة ست الشام وهي المدرسة التي أنشأتها ( خاتون بنت أيوب ) زوجة ناصر الدين بن أسد شيركوه التي عنيت بالعلوم والعلم وكانت من سيدات دمشق الفاضلات، وقد اشتهر ابن الصلاح بين فقهاء وعلماء دمشق وعرف عنه عمق معرفته له العديد من المؤلفات من أشهرها كتابه علوم الحديث .
[4]- أما الحديث الصحيح: فهو الحديث المسند، الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عنالعدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً، ولا معللاً.
[5]- مصطفى الخن، وبديع السيد اللحام، الإيضاح في علوم الحديث والاصطلاح، ص57، ط1، دار الكلم الطيب، 1999.
[6]- جزء من حديث موضوع ومشهور ذكره العجلوني في كشف الخفاء برقم 2016 بلفظ " كنت كنزاً لا أعرف، فأحببتأن أعرف فخلقت خلقاً فعرفتهم بي فعرفوني " وفي لفظ فتعرفت إليهم فبي عرفوني. وجرى على الألسنة هكذا: كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن اعرف فخلقت خلقاً فبيعرفوني. وهو واقع كثيراً في كلام الصوفية. وهذا حديث موضوع مكذوب على النبي صلىالله عليه وسلم قال العجلوني : قال ابن تيمية : ليس من كلام النبي صلى الله عليهوسلم، ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، وتبعه الزركشي، والحافظ ابن حجر في اللآليء والسيوطي وغيرهم، وأوردته لمعناه.