مصطفى مراد والطوفان المقبل
[align=justify]
تبقى الأرض في كل قواميس اللغة أقرب ما تكون إلى نبض القلب والشريان، وحين يكتب الشاعر صفحة الأرض في مساحة القصيدة، تأخذ الكلمات في التوهج والارتفاع والامتداد. فهل حقق شاعرنا مصطفى مراد مثل هذه المعادلة في تعامله مع الأرض؟؟... تقول قصيدته "الأرض": تكونين ملء الفضاء.. وملء السماء.. وأكبر من كبريات الأماني / تكونين حين ترابك يفلت منكِ / فتدخل ذراته في عيوني / وأغلى وأغلى / تكونين أيتها الأم – يا جرحنا النازفا - / ضماد الجروح / تكونين كيف تكونين صاخبة ثائره / وهادئة صابره / تكونين بلسم روحي / فما شئت كوني.."..
في مثل هذه المساحة، تبقى الأرض في مسافة حجمها الطبيعي من جهة، وفي مسافة مغايرة من جهة ثانية. فالشاعر يرى فلسطين كما هي في واقع الحال، لتكون بالطبيعة الموافقة والشكل الموافق دون أي زيادة أو نقصان، ثم يراها في غير حجمها الطبيعي حين تنفتح المساحة لتكون الأرض الفلسطينية في كل مساحة ممكنة ومنظورة.. فماذا يعني ذلك؟؟..
تلتقي المسافتان في مسافة واحدة يمكن أن نسميها "حب الشاعر" فالشاعر ينظر إلى فلسطين بعين حبه وعشقه وقلبه، لتكون فلسطين على ما هي عليه من جهة، ومتجاوزة لكل ممكن من جهة ثانية، لأنها الحبيبة التي تشكل حجم الحب وصورته ونبضه، وهو ما جعلها ملء الفضاء والسماء، وأكبر من كبريات الأماني.. وهكذا تحولت الأرض لتكون إطار ومعنى الحلم والتطلع والحياة، ولتكون كل ما يريده الشاعر ويطمح إلى التداخل معه، ولكن هل كان ذلك نهاية الصورة، أم أنّ القصيدة يمكن أن ترسم أبعادها الأخرى في قصيدة ثانية ...؟؟..
يقول مصطفى مراد في قصيدته " وطني" : عصفور يبني عشاً / وفراخ تنتظر المستقبل / وطني / ووعود تنتظر الأجنحة / وحلم بالأمل الأخضر مثقل / وسنابل تنتظر المنجل / وطني / وفراشات / الليلة أرقني الحلم / وداعبني الحلم الجارح / فحزنت / الليلة أيقظني صوتك / فبكيت / وحلمت بطوفان مقبل / وحلمت بحقل أخضر..".. يتابع:
" يا وطني / يا عصفوراً إن هدموا عشّه / يبني عشاً أجمل / يا أغنية الميلاد ويا زنبقة المنفى / يا سما أسقاه فأشفى / أجراس العودة دقت يا وطني / والحبّ الجارح أرقني../ حبك يا وطني / فرأيت الطوفان المقبل / وسمعت سنابلك الخضراء تنادي / ورأيت الفجر الآتي / والحقل الأخضر / فحملتُ المنجل..".. فأين تقف الصورة وإلى أين تنطلق؟؟..
تأخذ قصيدة "وطني" حالتين من حالات التوحد مع الأرض والدخول في كل جزء من جزئياتها حيث ارتسام كل ملامح التلاقي دون أي فاصل.. كيف..؟؟..
في الحالة الأولى: نقف على صورة كبيرة نسميها صورة "الانتظار" فالأشياء تتحول دفعة واحدة إلى هذا الشكل البارز من أشكال الانتظار، كأننا في محطة تتنفس معنى ومفهوم وشكل ما هو قادم. هنا لا يمكن أن تكتمل أي صورة بعيداً عن هذا القادم، لأن الصورة قد لونت بألوان لا تجد وضوحها وجمالها وبهاءها إلا مع هذا اللون الذي سيأتي لاحقاً.. فهل كانت صورة الوطن هكذا؟؟..
في هذه الحالة التي ترسمها القصيدة في الجزء الأول، لا يخرج الوطن إلى حالة الكمال، وإلى حالة التوافق مع كل الألوان، إلاّ في التلاقي مع الحرية والخلاص من الاحتلال. لذلك كان الوطن مرتبطاً بحالة الانتظار التي تنتظر المنجل، وهذه الفراشات التي تنتظر "الزهر"..
لذلك كان هذا الحلم الجارح، وهذا النداء الصارخ، وهذا الانفتاح التأكيدي على الطوفان المرتبط بالحقل الأخضر في النتيجة. ولكن من أين أتى هذا الحلم الجارح، فالحلم الواعد..
يلحظ أن الشاعر يدخلنا في حالتي حلم يستدعي الأول منهما دخول الثاني،فالانتظار الضاغط بطبيعة الحال، قاد إلى حلم جارح مثقل بالهم، وكأنه انتقال إلى حالة الكابوس جراء معايشة واقع مليء بضغوطات الاحتلال، ثم كان الحلم الآخر القادم من خلال "صوت الوطن" ليكون مرتبطاً بالصحو، حيث الوعد بهذا الطوفان المقبل الحامل للحرية. فماذا تقول الحالة الثانية..؟؟..
في الحالة الثانية: تبرز صورة "أجراس العودة دقت يا وطني" لتكون مفصل المعنى السابق واللاحق، فالوطن "العصفور" الذي هدموا عشه يبني عشاً أجمل ليكون في كل حالاته، وفي كل فصوله وصوره وأشكاله، الوطن الأروع والأجمل والأحلى، فهو أغنية الميلاد، وزنبقة المنفى والألم الذي يشفي.. وهكذا.. وصولاً إلى التوافق مع الصحو الذي ينفي أي التصاق بالحلم، وعلينا أن نرى بوضوح كيف يبعد الشاعر في هذا المقطع "الثاني" مفردة الحلم أو اللجوء إليه، ليكون مع صورة الطوفان في حالة الصحو، كذلك مع صورة السنابل الخضراء التي تنادي، وصورة الفجر القادم، وصورة الحقل الأخضر، وهو ما جعله يحمل المنجل مؤكداً أن الحالة لم تعد حالة حلم بل حالة صحو ومعايشة وواقع.
من هنا التأكيد على التطور الحاصل في الحالة الثانية، حيث الوصول إلى الواقع بعد الحلم. ننتقل إلى حالة أخرى حيث يقول في قصيدة "معذرة": معذرة قال دمي / لم يبق لديَّ سوى حلمي / والورق الأبيض / يا امرأة جاعت.. لكن / لم تأكل من ثدييها / معذرة لم يبق سوى حلمي / فامتشقي حلمي يا حرة..".. حيث الاتكاء على الذات في مواجهة العدو حيث ما عادت العين ترى من يمدّ يد المساعدة، أو من يمتشق السيف في وجه العتمة التي تحاصر الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل. هنا يكون على الشعب أن يشكل ثورته ووقفته ومحاولته في شق الظلمة وإزاحتها.. ولكن ماذا في اليد غير هذا الصمود، وهذا التماسك، وهذا الحلم، وهل يكفي هذا لمجابهة آلات البطش والدمار والفتك.. يبدو أنه لا مفر من التواصل مع ما هو موجود وما هو متوفر للإنسان الفلسطيني، لتكون الانتفاضة الباسلة فيما بعد نتاج هذه الأقانيم الثلاثة، وما كان الشاعر قادراً على رؤية مثل هذا المد الرائع في قصيدته، وإن كان يمهد له ..
مصطفى مراد في هذه القصيدة يقع كثيراً على مساحات السواد، لنسمع في صوته بحة حزن غريبة تكاد تغلف كل شيء " حين يجوع الوعد ولا يبقى منا غير شظايا / تتوزع كالورق اليابس" وكأن الشاعر قد سلم كل المراكب وانتهى الأمر بالنسبة له حين آثر السكينة والهدوء السلبيين، ولكن أيمكن أن تقع القصيدة المقاومة في مثل هذه الظلمة رغم كل الضغوط التي تتعرض لها..
طبيعي أن يكون الجواب إصراراً وتأكيداً على الضوء حيث: "أقسمت بحلمي يا وطني / ببقايانا / بالورق اليابس والأخضر / من أول حبة رمل حتى آخر حبة رمل / من أول مذبحة حتى آخر مذبحة / من أول غدر حتى آخر غدر / من أول طفل يولد بالصدفة عربياً / وفلسطينياً / حتى آخر طفل / أقسمت بحلمي يا وطني / ببقايانا / أن لا أحني الهامهْ" و "أقسمت بحلمي يا وطني / ببقايانا / أن لا أعشق إلا امرأة حرهْ / لا تأكل من ثدييها مهما جاعت / لا تحني هامتها / تفهم معنى الدرب الواحد / تفهم معنى الفرح الواحد / تفهم حقاً معنى الثوره.."..
كما نرى هناك لجوء كامل إلى الحلم لتحقيق الثبات والصمود والتماسك، وطبيعي أن الحلم يؤكد على الحرية والخلاص والسير نحو حالة مغايرة للواقع المعاش من خلال نسف هذه الحالة. ولكن ألا نلحظ نوعاً من المحافظة على وتيرة الحزن "بالورق اليابس.. ببقايانا.. مذبحة.. غدر..".. وكأن الشاعر لا يريد الخروج إلى هذا الضوء الذي أشرنا إليه؟؟!!..
أظن أن هناك إصراراً متزايداً على الضوء رغم ما يتبدى من حزن، لأنّ الشاعر لا يأخذ هذه الأشياء المليئة بالدمع إلا لينطلق من خلالها نحو الصمود والتماسك والثبات، فهي قسم وعهد وذاكرة دافعة ومحركة للأمام، لذلك كان القول فيما بعد "يا درب الأحرار المشتاقين / طويل أنت / لكن لا بأس / ما زالت عكا في عكا / والقدس في القدس / يا أحباب الدرب الشائك / مرحلةً / خطوة..".. حيث الظلمة الشديدة، والعذابات الضاغطة لا تعني الانكفاء والتوقف، بل تدفع إلى السير ومتابعة طريق العطاء.
لا نبتعد كثيراً عن معاني الصمود والثبات والتماسك حين نقرأ قصيدة "بيروت" التي تتحرك على محور تمجيد البطولة والفداء والتضحية، ورسم معالم الوقوف في وجه الغزو الإسرائيلي للبنان حيث: "بيروت / كل يد قنبله / كل فم أغنيه / كل مقاتل / علم يتحدى الموت الشامل / ويبيد الموت الشامل / بيروت الشجر فدائي / والحجر فدائي / والغضب فدائي يتمركز خلف المتراس / والرمل يقاتل / والموج يقاتل / كل شوارع بيروت فدائيون / الصحف فدائيون / أعمدة النور فدائيون / وجديلة بنت الصف السادس / حبل يقطع عنق المحتلين / وأقلام الحبر بأيدي الطلاب سكاكين / تفقأ عين المحتلين / وجنازات الشهداء الأخوة أعراس.."..
في المسافة التي تسير القصيدة في مداها، لا تختلف الصورة ولا تتغير، وإن تغير المكان من فلسطين المحتلة إلى بيروت. الاحتلال الإسرائيلي هو الاحتلال الإسرائيلي، بكل أساليب تنكيله وبطشه. والمقاتل الفلسطيني هو المقاتل الفلسطيني، وإن تغير الأسلوب حين توفرت للفلسطيني المنفي أسلحة لم تتوفر للفلسطيني الواقع تحت نير الاحتلال في فلسطين المحتلة، وطبيعي أن يرى الشاعر إلى روعة صور البطولة والفداء والتضحية التي يسجلها المقاتل العربي في مواجهة الجيش الغازي، لتتحول كل الأشياء والأزمنة إلى فدائيين، وكأن الطبيعة قد لبست ثياب الحرب ووقفت إلى جانب أهلها وساكنيها تقاتل معهم وتحارب ضد الاحتلال الباغي..
طبيعي أن يكون هناك هذا الاختلاف في نوع الأسلحة وقدرتها ومفعولها، حيث تسلّح الجيش الغازي لبيروت بأسلحة تتفوق مئات المرات على الأسلحة التي توفرت للمقاتلين والفدائيين العرب، ولكن هناك الإصرار والصمود والبطولة "بيروت / الأيدي المقطوعة / أعلام مزروعة..".. "تتحدى دبابته / تتحدى طيارته / تتحدى الموت الفوسفوري / تتحدى الموت العنقودي / والعملاق المتمركز خلف المتراس البيروتي / يتحدى "البطل" الزائف والهمجي / بيروت / أحياناً يتنمَّر قاتل / لكنك تبقين / ويبقى كل مكان / يسكنه المارد ابن العشرة أعوام / للمأجور القاتل تابوت / تابوت.. تابوت.. تابوت / لجميع المحتلين..".. أخيراً لا بد من القول إن الشاعر مصطفى مراد شاعر كلمة تعرف كيف تتواصل مع الأرض وكيف تقرأ في دفتر الوطن قراءة عميقة واعية، وإذا كانت بعض وقفاته تعبر عن الحزن والألم والاحتراق والشعور بالضيق إلى حد كبير، فإنّ إصراره على التمسك بالضوء من جديد يحيل حزنه إلى دافع ومحرك نحو السير إلى الأمام…
يذكر أن الشاعر من مواليد يافة الناصرة 1958.. بعد دراسة الابتدائية والثانوية في الناصرة، التحق بجامعة تل أبيب وتخرّج في العام 1985.. يعمل سكرتيراً لتحرير مجلة "الصنارة" التي تصدر أسبوعياً في الناصرة.. له في الشعر:
" من الوطن مع خالص الحب" الناصرة 1980
"أنت الحقيقة أين الفرح" الناصرة 1985
"قصائد مكسرة" عام 1987
"قال البحر المدهش"
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|