نجوى حسن والقصة الداخلة في أتون الواقع
[align=justify]
ما هي القصة القصيرة ؟؟.. سؤال يطرح في كل حين للدخول في فضاءات هذه العروس الجميلة التي نسميها القصة القصيرة ، في محاولة لاستجرار توصيف أو تعريف جامع مانع يضعنا أمام وضوح نتعرف فيه على أسرار عالم يكاد يكون سحريا في مبناه ومعناه وامتداده .. وتبقى الإجابات ، إن قصرت أو طالت ، غير قادرة على تقديم ما نريد من معان شافية وافية ، ذلك أن القصة القصيرة تكاد تكون عصية على التعريف النهائي ، لأنها مرهونة بسرها وسر كاتبها معا ، فكل قصة تحمل خصوصيتها ، وكل كاتب يعطيها النفس والأحاسيس والمشاعر والأفكار لتكون أشد التصاقا به .. وإن أخذنا أي تعريف بشكل مجرد ، يبقى تعريفا جامدا لا تكون حياته إلا مع القصة ، والقصة حين تنجز تبتدع عالمها وملامحها بما يخرج عن التعريف .. وهكذا ..
ما قرأته من القصة القصيرة جد كثير ، وما عرفته عنها واسع شاسع ، وكنت وما زلت اعتقد واجزم أن لكل كاتب قدرته على صب ذاته في القصة بهذا الشكل أو ذاك.. ودائما كنت أجد من الواقع والخيال الكثير في هذه القصة أو تلك .. فالكاتب يمتح من الواقع ليضيف من خياله ما يضيف ، وبتوازي الخيال والواقع كانت تنهض القصة لتقول الجديد والمدهش والجميل .. لكن لم أجد من تكون قصته واقعا صرفا ، أو خيالا محضا ، وكأن التوليف بينهما ضرورة من ضرورات هذا الفن الجميل .. لكن قد يختلف هذا كل الاختلاف عند القاصة نجوى حسن حيث لا تكتب القصة إلا إن كانت من الواقع وإليه وفيه .. هذه الكاتبة تقبض على جمرة الحكاية الواقعية لتعطينا قصة ليس فيها أي شيء من خارج الواقع ، وهو أمر يدعو للدراسة والتأمل والتفكير ، كونه مخالفا ومناقضا وبعيدا عن جري العادة في كتابة القصة عند كتابها ومحترفيها .. إذ كان الظن وما زال أن الواقع الذي يصل حد التسجيلية لا يمكن أن يتخلى كل التخلي عن شيء غير قليل من الخيال ، وإن كان من باب الانتقاء والحذف والترتيب وما إلى ذلك .. وحين تكون التسجيلية حادة مغرقة في تصوير الواقع ، نجد ثقلا وجمودا في القص ، إذ يضغط الواقع بواقعيته ليحيل القصة إلى قطعة مجتزأة لا تحمل الكثير من الحياة ، فكيف تعاملت نجوى حسن مع الواقع وهل استطاعت أن تعطينا أدبا يتجاوز عادية الواقع وبطء حركة الصورة فيه ؟؟..
ميزة القاصة نجوى حسن في تعاملها مع الواقع ، أنها تداخل الواقع وتدس ذائقتها القصصية فيه ، لتكون أي قصة مأخوذة من الواقع بكل ما تحمل من حرارة وألم ومشاعر ، قصتها هي .. هنا الاختلاف الكبير بين نجوى حسن وسواها من الكتاب ، فهذه الأديبة تشعر أن كل قصة من قصص الواقع إنما هي قصتها .. ومثل هذا الشعور لا يكون بالنسبة لها مخترعا أو مصطنعا .. هي بشكل تام تشعر أن القصة قصتها مما يحيل الشخصيات والأحداث والوقائع إلى أشياء تجري داخل معملها القصصي الفني ، وهذا يلغي المسافة ويبعد أي نوع من أنواع الشعور بأن القصة منقولة أو مأخوذة عن الواقع .. نجوى حسن أمينة للواقع أمانة مطلقة حيث لا تغيير ولا تحوير ولا تبديل .. الواقع هو هو .. لكنها موجودة في القصة من أولها حتى آخرها ، وهنا السر ..
القاصة نجوى حسن تسمع ، تلاحظ ، تترك للتشكيل في داخلها أن يأخذ مداه .. حين تقص نجوى حسن أي قصة من هذه القصص على شكل روي مسموع ، وتحكي لي عن الأحداث والشخصيات والظروف والمشاعر والأحاسيس ، كنت أعايش قصة متفجرة بحيويتها وجمالها ، وكنت ألحظ أن نجوى حسن تجعل التطابق تاما بينها وبين ما ترويه ، حتى لتكاد تثير السؤال لدي : هل عشت جزءا من هذه القصة يا صديقتي ؟؟.. وكانت تضحك وتقول : لا .. لكن هذه القصة أثرت فيّ تأثيرا شديدا بالغا لا حد له .. وأسأل : بالله عليك ألم تضيفي شيئا من عندك ؟؟؟.. تقول لا والله ، كل ما ذكرته وقع وحدث حرفيا ..
إذن أين السر ؟؟. . لماذا تكون القصة التي نسمع قصة نجوى حسن بامتياز ، ولو أن أي شخص عاين الحدث والقصة لما أوصلنا إلى ما أوصلتنا إليه نجوى حسن ؟؟.. إنه الفن بالتأكيد ، الأسلوب ، شخصية الكاتبة ، تعاملها مع اللغة ، أنفاسها، بصماتها ، مشاعرها .. القصة واقعية لكنها خرجت من بين أصابع فنانة ماهرة مجيدة تعرف كيف تنتقي وتصوغ وتعمل .. تعرف كيف تولد السحر ليكون قصة قوامها الجمال والفتنة والروعة ..
لكن لماذا كل هذا الحزن في القصص ؟؟.. لماذا كل هذا النشيج الذي يشكل لبوس معظم الشخصيات ؟؟.. ولماذا نلاحظ أن الفرح وليد ألم حاد كبير ؟؟.. ولماذا نصل أحيانا للقول : أيمكن أن يحدث هذا ؟؟..
الأشياء العادية لا يمكن أن تستوقف الأديبة .. الحياة بسيرها الروتيني لا تشكل قصة.. ما يستوقف نجوى حسن لا بد أن يكون استثنائيا خارقا للمألوف ، واكثر مادة هذا الخارق تكتب بحبر الألم والمأساة والحزن والدموع والحرقة .. عندما تضع نجوى حسن صنارتها الذكية تصطاد الحدث المغاير الغريب .. هذا ما يجعلنا نقول عند قراءة بعض قصصها : هل هذا معقول ؟؟.. أيمكن أن يحدث ما حدث ؟؟.. حتى في الخيال لا يمكن أن يكون ذلك ؟؟.. كيف استطاع الواقع أن يشكل قصة على هذا الشكل من التجاوز للمألوف ؟؟..
وتكون قصة نجوى حسن هي الجواب ، فالواقع حافل بالكثير مما تعجز العين العادية عن التقاطه ونقله لنا بكل هذه الشفافية .. وقد استوقفتني كثير من القصص بين المصدق والمكذب والحائر .. وحين سألت الصديقة نجوى أكدت لي أن كل شيء قدمته كان من صلب الواقع ، وقالت : التغيير الوحيد الذي يمكن أن يحدث يتعلق بالأسماء ، حيث أغير الأسماء أو أرمز لها بحرف ، وقد أورد الاسم الأول ليس إلا وبشكل حقيقي ..
كما أسلفت ، هناك أسلوبية جديدة في التناول ، أسلوبية تبتعد عن التسجيلية ، وتتجاوز الواقعية ، ولا تركن إلى اللقطات الجزئية .. أسلوبية نجوى حسن تتواصل مع الواقع للعمل على نهوض فن قصصي شديد الحساسية والغليان ، ومليء بالصور التي نراها في الحياة ولا نتوقف عندها ، لكنها هنا ومن خلال هذه الأسلوبية النشطة تستوقفنا وتثير تعاطفنا ..
في هذه المجموعة ، تقدم نجوى حسن نغما وقصيدة من الحياة .. هي قصص واقعية بكل ما تحمل المفردة من معنى ، لكن القراءة تشعرك بعوالم سحرية غريبة .. هذه القصص معجونة بروح ومشاعر وأحاسيس نجوى حسن .. قصص تفاعلت تماما داخل عوالم المؤلفة بعد أن خرجت من عوالم الحياة والواقع .. المرور الإجباري كان مرور حياة ، والمرور الفني كان مرورها في عوالم نجوى حسن .. والمحطة الثالثة كانت في تشكلها أو تجوهرها لتخرج كما وصلتنا .. قصة من الواقع ، وقصة من قصص نجوى حسن .. هذان الخطان هما القوام والمرجع والعنوان العريض .. والمتعة كل المتعة أن تقرأ قصة تعود إلى هذين الخطين الساحرين ..
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|