الأدب وقانون البقاء
[align=justify]
طويلاً تحدثت مع الشاعر الكبير سميح القاسم حول الأدب وأدب المقاومة ومعنى بقاء الأدب وخلوده.. وكنت أشرت في الحوار، وسواه، إلى هؤلاء الذين كتبوا كلمات قد تتصف أكثر ماتتصف بعدم الفهم حول كون الأدب المقاوم لايدوم منه شيء حين يحل السلام!! ورأى الشاعر سميح القاسم أن مثل هذا الكلام يأتي عن عدم وعي وإدراك لعمق الأدب المقاوم.. وربما كانت إشارته الأعمق ذات دلالة كبيرة حين قال إن مصطلح أدب المقاومة أتى من خارجنا، لكنه كان شرفاً لنا، ونحن كشعب لم نطلب الاحتلال والكوارث والمذابح، كي نكون شعراء مقاومة.. وحين احتل وطننا كان علينا أن نكتب بضمائرنا وأرواحنا وأعمارنا أدباً يقف في وجه الاحتلال ويتحدى ويصمد.. ورأى أن هؤلاء الذين ينتقصون من أدب المقاومة عندهم عقدة نقص، لأنهم نظروا لأدب لم يستطع الوقوف على قدميه، وكان بالمقابل أدب المقاومة أدب الشعب العربي من المحيط إلى الخليج.. الأدب الذي أحبه الناس والتفوا حوله، وطبيعي أن يثير مثل هذا الحب، ومثل هذا الالتفاف، كل هذا التشنج من بعض النقاد أو الأدباء الذين ابتعدوا أساساً عن الصمود في مثل هذا الأدب..
أذكر أننا كتبنا حول هذا الموضوع في حينه، أي عندما أثيرت زوبعة في فنجان حول أدب المقاومة، وتنطح البعض من مرضى الأدب للقول بزوال أدب المقاومة، أو كل الأدب الذي وقف في وجه الظلم والاستعمار والاحتلال، لأنه أدب فترة أو مناسبة.. وتناسى هؤلاء القلة، أن مقاييس الأدب بقاء واستمراراً لاتكون هكذا ولايمكن أن تكون.. إذ من غير المعقول أن نحذف ونلغي الكثير من الأدب الخالد، لمجرد أنه كان أدب مرحلة اقتضت تسجيل مقاومة الشعب للاستعمار أو الاحتلال.. إذ الأجدى والأولى أن يكون هكذا أدب أكثر بقاء، كونه أشد التصاقاً بنبض الناس في مرحلة ثورتهم على الظلم والاحتلال.. ومن يظن أن هكذا أدب يخلو من الحس الإنساني، فهو دون شك، يفهم الإنسانية بشكل مقلوب وغير منطقي.. لأن مقاومة الظلم والاحتلال تعني الإنسانية في كل زمان ومكان.. وإذا كان كل أدب يقاوم ويتحدى ويجابه، متصلاً بالزوال، فما أشد ظلمنا للأدب، وماأشد بعدنا عن فهم مقاييس البقاء والاستمرار للأدب والإبداع بشكل عام..
يقال إن الخطابية والمباشرة وماإلى ذلك تدخلان أدب المقاومة وتجعلانه أدباً ضعيفاً لايقوى على الصمود أمام الزمن.. ولنا أن نتفق مع هذا لكن بشكل عام، إذ من غير المجدي لأي أدب، عن أي شيء كتب، أن يتصف بالخطابية والمباشرة، لأنه لابد أن يزول.. وكثير من أدب المقاومة يبتعد عن ذلك، وبعضه دون شك يقترب من ذلك.. ونحن هنا نناقش فنية الأدب لامضمونه، وعند مناقشة الفن، والحس الفني، والأدوات الفنية، نتجاوز أن يكون هذا الأدب أدب مقاومة، أو أدباً اجتماعياً، أو أدب غزل، وماإلى ذلك.. فالفن هنا يخضع لمقاييس وذوق وحس وشكل وبناء.. وكم من أدب يزول لضعفه مهما كان موضوعه، وكم من أدب يبقى لقوته الفنية، مهما كان محموله..
قد يعاد القول في هذا وذاك، وقد نناقش بعد حين فنية هذه القصيدة أو تلك، لنرى أن الأدب ليس مجرد موضوع، وليس مجرد صورة وشكل وماإلى ذلك، إنه كل متكامل متشابك متداخل، وكل صورة تؤدي إلى النظر في المضمون، وكل نقطة من المضمون تؤدي إلى النظر في الصورة والشكل وماشابه.. لذلك كان قانون بقاء الأدب مرتبطاً دون شك بميزان دقيق يقيس الكل لا الجزء.. وإذا كان الفن عالياً، فإن المحمول المقاوم يزيده ويعطيه القوة والقدرة على الاستمرار والبقاء في الذاكرة والزمن والتاريخ.. فالمحمول هنا محمول عالي القيمة وقادر على التحرك بشكل عريض واسع، وحين يدعمه الفن الراقي ويسيجه يكون أدباً خالداً شاء من شاء، وأبى من أبى..!!..
ربما ماتزال في البال والذاكرة ونبضات العمر كلمات الأديب والمبدع الكبير الراحل الدكتور بديع حقي، كم حدثته عن مجموعته «التراب الحزين» وكم حدثني عنها.. تلك المجموعة التي قرأناها طلاباً على مقاعد الدراسة، وماكان لحرف منها أن ينسى، كلها أدب مقاوم، وكلها أدب إنساني رفيع، وكلها فن عالي الوتيرة والعطاء.. قصائد كثيرة سقطت من الذاكرة، لكن بقيت دقات «المقعد الخالي» لبديع حقي محفورة في الصدر كلمة كلمة.. مااستطاعت السنوات الطويلة التي لونت كثيراً من شعر رأسي بالبياض، أن تجعل كلمة واحدة تذوي أو ترحل.. ألا يدل ذلك على أن الأدب الرفيع يبقى مهما مضت السنوات.. رحمك الله أيها الصديق الحبيب بديع حقي، فهاهي كلماتك وقصصك تبقى بصمات لاتعرف الزوال، لأن الأدب الخالد لايموت..
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|