عدوان علي الصالح ورباعيات الحجر
[align=justify]
في كل الأحوال تبقى القصيدة سفير الشعر إلى الناس، من خلالها ومعها نتعرف على هذا الجزء أو ذاك من عالم الشاعر، وقد كانت قصيدة "بابا نويل فلسطيني" المنشورة في جريدة الاتحاد الصادرة في حيفا بتاريخ 31/12/1982 أول قصيدة تواصلت فيها مع الشاعر الفلسطيني ابن يافة الناصرة، عدوان علي الصالح. وقد استوقفني فيها وقع جميل وقريب إلى النفس من جهة، وغريب إلى هذا الحدّ أو ذاك من جهة ثانية. فالشاعر عدوان علي الصالح توقف عند فاصلة حادة في عمر كلّ إنسان حيث نهاية عام وبداية عام آخر والعادة جرت أن يتناسى البشر سقوط ورقة من العمر، ليفرحوا ببداية عام جديد.. فماذا قال الشاعر؟؟..
هنا يحضر الشاعر الموجود في الوطن المحتل ليقول كلمة صارخة تعبر عن معاناته وخصوصية تجربته، حيث: "أنا بابا نويل / غير أنّ هديتي ليست / بحلوى لا.. ولا لعب.. وليست بعض ليرات / ولكني سأهديكم جراحاتي / سأهديكم نضالاً من نضالاتي / وديكاً في ضمائركم يصيح فربما / تصحو للحظات".. لتكون الهدية المرتبطة بالجراح والنضال. وهذا الديك الذي يريد أن يهزّ الضمائر لعلها تصحو، مدخل لفهم هوية الشاعر وآلية إصراره على تأكيد الذات الفلسطينية في مثل هذه المناسبة وسواها. والصرخة التي يطلقها الشاعر تبقى ذات مدلول واضح، فالفلسطيني هو الفلسطيني، ومن الصعب أن يأخذ صفة العمومية في الفرح والسرور وما إلى ذلك، ما دام يعيش حالة الاحتلال، وهي حالة خاصة لا يمكن أن تشابه أي حالة أخرى.
من هنا كان الانفتاح على العام الجديد، دعوة للتذكير وتأكيد البصمات، مما أظهر هذا الحس الدائم بمرارة الجراح وامتداد الألم، فكان الشاعر عدوان علي الصالح شاعراً واعياً لكل تفاصيل الحالة الوجدانية وامتداداتها. والمغزى لا يقول بإصرارية على الفجائعية كما يظن بل بفتح العين على حالة الإنسان الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال الصهيوني. ومناسبة الدخول في عام جديد، مناسبة لاستدعاء الكثير من جوانب الصورة المرسومة للواقع الفلسطيني المعاش. وهذا ما دعا الشاعر إلى القول: لمعلوماتكم جدّي / يعيش الآن في خيمه / لمعلوماتكم لم يفقد الهمه / وحالياً يناجي ربه الأعلى / لأوطاني أعدني بعدها في النار فلأصلى / فمهما تملأ الجنات بالأعناب والأنهار / فالأوطان لن أسلى / وأوطاني بعيني دائماً تبقى هي الأحلى" لنصل، ومع انفتاح الشاعر على العام الجديد إلى صور متعددة تقول:
/ الإنسان الفلسطيني الذي يعيش في الوطن المحتل يشعر بشكل دائم بطعم المرارة جراء وجود الاحتلال البغيض، وجراء ابتعاد بقية الأهل عن الوطن وعنه. وهذا الإنسان يبحث بشكل مستمر عن حياته الطبيعية التي تعني حرية الوطن وبما يفتح الباب عريضاً أمام عودة الأهل اللاجئين إلى ديارهم.
/ الإنسان الفلسطيني الذي يعيش في المنفى يبقى أسير الحزن والألم والمرارة جراء ابتعاده عن أرضه ووطنه وداره وأهله وطبيعي أن تكون أمنيته ذات وجه يتمثل في العودة إلى الوطن، ومثل هذه العودة لا يمكن أن تستبدل بأي شيء آخر، لأن الوطن هو الأغلى والأحلى والأروع.
الصورة في القصيدة السابقة عريضة وواسعة المرامي والأبعاد. فماذا نقرأ عند هذا الشاعر أيضاً.
في تتبع ومضات من بعض قصائده، يمكن التعرف على أجزاء أخرى من عالم الشاعر، حيث نقرأ في "أغنية فلسطينية" هذا الحنين الدافئ إلى الأهل اللاجئين وتمني عودتهم إلى الديار: "متى يا أيها العصفور تأتيني / ببشرى عودة الشعب الفلسطيني" وفي قصيدة "أحلم" نقرأ هذا التواصل مع المستقبل النابض حيث: "أحلم بسماء لا تغرب عنها الشمس / أحلم بليال تفرح فيها القدس / أحلم ببلاد خضراء / يحيا فيها الحب وتنتحر البغضاء..".. ثم نقرأ في قصيدة "هل تسمعين" هذا التداخل مع الأرض وهذا الشموخ المستمر والإصرار على المقاومة: "تكونين شمساً أكون شعاعْ / تكونين بحراً أكون شراع / فأنت اشتياقي / يوم الفراق / وأنت احتراقي / قرب السواقي / فهل تسمعين / صراخ السنين / وهل تشهدين / بأني أحب جميع الشعوب التي لا تلين"..
في مثل هذه الومضات تأخذ الصورة الشعرية شيئاً من الامتداد في الحاضر والمستقبل إلى جانب الامتداد في كل اتجاهات واشتعالات التفاؤل. الشاعر يأخذ الطبيعة بالشكل الذي يأمل فيه، لتكون طبيعة مبشرة بالمستقبل الواعد. والشاعر يأخذ تداخله مع الوطن ليكون في صورة هذا الوطن القادم أملاً وحرية. وفي كل الأحوال فالمساحة تنفتح على الصباح المشرق باستمرار.
بعد هذه الومضات يمكن أن نقرأ امتدادات الشاعر في حالتي الوطن والإنسان من خلال التركيز على ردّ الفعل الدائم في وجه الاحتلال. هنا تقف الصورة على تعدد في وتيرة المقاومة والتحدي والصمود، مثال على ذلك ما جاء في قصيدة "السجن وأنا الطغيان" حيث نقرأ: "أعرف كل سجونك / وأراها دوماً جوف عيونك / حين تحملق في عينيّ / حين تلامس سيجارتك المشتعلة / بشرة كفي / سجن الرملة أعرفه / وكذلك شطَّه / أعرف ضربات سياط السجانين وأعرف / ضربات هراوات الشرطهْ..".. لنكون في هذا المقطع أمام حالة وصفية تخاطب الاحتلال وتقول إن الشاعر يعرف كل السجون وقد خبر كل أنواع العذاب… وهذا ما يستدعي سؤالاً يقول: لماذا جاءت الكلمات في هذا المقطع على مثل هذه الوتيرة من الوصفية المحايدة..
الصورة وأبعادها تحتاج إلى شيء من التركيز للتعرف على حقيقتها. فالشاعر لجأ إلى تحميل الكلمات كل هذا الحياد والجمود لتؤدي رسالتها كاملة وباختصار شديد يمكن أن نقف على مغزى يقول: وماذا بعد؟؟.. وفي خطاب الاحتلال: ماذا عندك أكثر من ذلك ماذا ستفعل وإلى أي حد ستمضي. تريد أن تعذبني أعرف، ولا يهم فقد عرفت وخبرت كل أنواع العذاب.. تريد أن تضعني في السجن؟؟ أن تنقلني من سجن إلى آخر؟؟ ليكن ولن تصل معي إلى شيء.. كل الاحتمالات باتت واضحة أمامي، ومجهولة تماماً أمامك فأنا أعرف كل خطوة قادمة، وأنت لا تعرف أي شيء… من منا يعذب الآخر.. من منا يضع الآخر في السجن؟؟.. تظن أنك ستقهرني وتكسرني ولكنني أقوى بكثير مما تظن.. هذا المقطع يمهد لمقطع آخر تنفتح فيه الصورة على بقعة الضوء..
الحياد الظاهر في المقطع الأول يدخل مباشرة في صلب التحدي والمقاومة والإصرار على نيل الحرية.لذلك كان القول في المقطع الثاني مصراً على تأطير وإبراز التحدي، حيث: ضعني في سجنك يا سجان / يا حامل رايات الظلم ورايات الطغيان / أحرمك أنا في الليل النوم ولو بضع ثوان / أخرجني إلى خارج قضبان السجن / أفضحك أنا عند ضمائر هذا الكون / ضعني حيث تشاء / في الزنزانة أو في أرض رمضاء / تلقاني مرفوع الهامه / ودمي للشعب المظلوم فداء.."..
إنها الصورة المشتعلة بالعنفوان دائماً، وهذا ما نجده في الكثير من قصائد الشاعر.. يقول مثلاً في قصيدته "ريم في الصحراء"... "إنني قنديل زيت / ليس ينضب / وإذا طال طريقي لست أتعب / صار حلمي / مثل عنقود مذهَّبْ / يتلظى في فؤادي / يتمرد / ليس يبغي غير أن يرجع / شعبي لثرى عنه تشرّد".. ويقول في قصيدة "حديث مع بلادي" "اعتبريني في البيدر بذره / أو في حبة ليمون قشره / فسواء عندي أن أحيا / في أرضك بذراً أو قشراً / لكن القصد بأن أحيا / في أرضك حراً..".. ويقول في "سفير الأحزان".. "أحضروا لي قبساً من نار أرضي الطاهره / من ثرى القدس ويافا وتراب الناصره / لأنير الدرب قدّام عيون ثائره / أقسمت ألا تعود / دون تحطيم القيود / دون أن تغدو خطاها ظافرهْ.."..
إن هذا الإصرار على صورة الفجر إنما ينبع من إيمان الشاعر بقدرة شعبه على الصمود والتحدي ونيل النصر. وطبيعي أنّ مثل هذا الإصرار لا يأتي غريباً أو بعيداً عن الشعر الفلسطيني المقاوم، فقد كان هذا لشعر مسكوناً بالتفاؤل والأمل والتطلع إلى المستقبل المرتبط دائماً بالشمس. وعدوان علي الصالح في كل هذا يبني القصيدة المقاومة ويصرّ على ثبات محاورها التي ترسخت على مدار السنين لتكون نبض الشعب.
يمكن هنا أن نقرأ شيئاً من قصيدة "الصبر يا صبرا" حيث مساحة الدم تسجل حضورها في كل كلمة، فالشاعر يقف أمام المذبحة في صبرا وشاتيلا ليحدق طويلاً في مسافة الجرح وكأنه يضغط القلب بأصابع من لهب.. ولكن هل كانت مثل هذه الصورة موشحة بالسواد على مدار الطريق وامتداده؟؟.. تقول الإجابة: لا، فالشاعر يصرّ على التفاؤل رغم كل شيء. فماذا تقول القصيدة.. "لست أدري كيف يا صبرا أناجيك / وأنت اليوم يا صبرا تشوهك المجازر / فالذي فيك جرى يعجز عنه وصف شاعر..".. " كيف أبكي.. / كيف يا صبرا وهل يبكي القتيل / آه كم صبرك يا شعبي طويل.."......"صابر أنت وما زلت تقاوم / وعلى شبر تراب أنت يوماً لن تساوم..".. "ودِّعي كل الضحايا يا فلسطين / بقلب في ثناياه الأمل / ودِّعيهم واحضني الشعب البطل / وازرعي الآمال في السهل وفي رأس الجبل / فالذي صارت خطاه من فداء / يا فلسطين إلى الفجر وصلْ.."..
هكذا تبزغ الشمس من مساحة الدم. وهكذا يطلق الشاعر عصافير الأمل رغم الجرح والوجع والدمع… وطبيعي أن اليأس مرفوض بشكل قطعي في نظر الشاعر. وهو ما جعله مصراً على النهوض والوقوف بثبات بعد أن حاصر الدم كل شيء وكان على القصيدة أن تمتدّ في رحم الزمن لتلتقي الانتفاضة فكانت قصيدة "رباعيات الحجر" وكانت الصور النابضة بالعطاء: "..حجر أخضر / يقذفه طفل / في وجه العسكر / حجر أخضر / لونه يشبه / لون الزعتر"... ويبقى عدوان علي الصالح شاعر الكلمة التي لا تبتعد أبداً عن فلسطين وشعب فلسطين.
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|