شكيب جهشان وصورة الوطن
[align=justify]
يعتبر الشاعر الفلسطيني شكيب جهشان واحداً من جيل الرواد في الشعر الفلسطيني المقاوم. وقد بدأ بنشر قصائده وقصصه في صحف ومجلات الوطن المحتل، منذ كان طالباً في الثانوية أوائل الخمسينات ومع أنه نشر مئات القصائد خلال السنوات الماضية، لكنه لم يجمع شعره أو جزءاً منه في ديوان إلا في وقت متأخر ، حيث صدر في العام 1988 ديوان:"أحبكم لو تعرفون كم..".. وبعده صدرت عدة دواوين هي: "..ثم ماذا".. 1989 و"أذكر" مطولة شعرية 1992... و"رباعيات لم يكتبها عمر الخيام" 1993.
في اعتقادي يأتي صوت الشاعر شكيب جهشان ليكون ذا وقع خاص ومتميز في مجال الشعر الفلسطيني المقاوم ذلك أنه يتعامل مع المفردة والصورة والتركيبة العامة للقصيدة بطريقة تفرد عالمه وملامحه. وربما كانت السخرية المدروسة بعناية، واحدة من معالم شعر شكيب جهشان، كما أنّ صورة علاقته مع الأرض الفلسطينية، بكلّ ما تحمل من دفء وخصوصية في التلاحم، ومن ثبات وإصرار على المقاومة، تعتبر واحدة من هذه المعالم. فمن أين نبدأ؟؟..
بصورة مختصرة وموجزة، يضع الشاعر في قصيدتي "اعتذار" و"مسمار جحا" بصمة في عالم الشعر الذي يقول كلّ شيء، بأقل مفردات ممكنة. في الأولى نقرأ:
فاجأني السارق في منتصف الليل
شلّحني كل ثيابي
ويقرر مختار القرية، باسم القانون،
وباسم الله، وباسم الويل
"أن أحني رأسي معتذراً"
فالسارق مذ فاجأني
يتقلب في النارين
فالعورة تؤذي العين.."..
لنقف في هذه القصيدة التي أوردتها كاملة، على عدة مستويات وأبعاد ومقولات... في الاختصار: إنّ الاحتلال أخذ كل شيء، ويريد من صاحب الحق أن ينحني له معتذراً.. في الحكاية الساخرة: أنّ هذا السارق، وبعد أن سلب صاحب الحق ثيابه، يتقلب في النارين، لأنه شاهد عورة هذا الإنسان الذي سُرق.. وعلى رأي الشاعر " فالعورة تؤذي العين"..
في المستوى المفتوح تتبدى قصة الاحتلال في فصولها وسنواتها، وتتبدى الصورة القبيحة لهؤلاء المتعاملين مع الاحتلال، والذين يخضعون ويطيعون بشكل مثير للاشمئزاز. والسؤال الكبير الذي يثيره الشاعر: كيف لمثل هذه المهزلة أن تأخذ طابع الاستمرارية وأن تتحول إلى واقع؟؟!!
في المهزلة يسود السارق، ويتحول صاحب الحق إلى مذنب.. وفي المهزلة، على صاحب الحق أن يعتذر، وعلى السارق أن يحول الأمور كلها إلى مجرى غريب مصطنع. هنا السارق يشعر بالذنب وتأنيب الضمير، لأنه شاهد عورة صاحب الحق، بعد أن سرق ثيابه كلها.. والصورة: أنّ الاحتلال يريد أن يقلب الأمور على هواه، وأن يغير ويبدل كما يريد..
في مثل ذلك، وعلى هذا المنوال، تسير قصيدة " مسمار جحا" التي تقول في مجموعها:
من أيام
حلّ بداري ضيفْ
قدّمت له حلوى
وارتاح الضيفْ
وثبَّت في صدر الحائط مسماراً
علق فوقه
بعض الأثواب..
مرت أيام
وإذا بالضيف يطوِّب كل البيت
ويغلق في وجهي الأبواب"..
ولا يبتعد الشاعر شكيب جهشان عن مثل هذه السخرية في بائيته الطويلة التي حملت عنوان " يا بلادي" حيث البداية:
صاحب البيت في بلادي غريب والوجوه السمراء شيء مريبُ
والزنود التي أفاضت نماء في عروق الجبال وهم كذوبُ
وعيون رعت تراب بلادي ألف عام تطاول مسبوب
وحكايات جدتي عن صباها غصة مرة وعود كئيب
وخطا جدي الثقال على قارعة التاريخ اعتداء رهيب
وابتسام الحقول ليل مرير والوليد الجديد يوم عصيب
والغريب الغريب من آخر الدنيا حبيب إلى الديار يؤوب
طبيعي أنّ السخرية هنا تأخذ شكل البكاء، و"غصّة" في الحلق تتبدى في كلّ كلمة وحرف. الشاعر يقول بكل ما في الصدر من مرارة: أيمكن لمثل هذا أن يحدث أو أن يكون وعلى أي أساس..؟؟..
هل من المنطق في شيء أن يكون الغريب القادم من آخر الدنيا حبيباً إلى الديار يعود إليها، بينما يلاحق صاحب البيت ويُتَّهم، ويصبح كلّ ما صدر أو يصدر عنه مجرد كذب وادعاء وتطاول.. ألا تقول الكلمة بكلّ وضوح: إنّ هذا بعيد عن المنطق والحقيقة؟؟..
لا ننسى هنا أنّ الشاعر يخاطب بلاده، وهو الخطاب الذي ترتكز عليه القصيدة والذي يثير سؤالاً يقول: لماذا يقول الشاعر كلّ هذا لبلاده التي تعرف كل شيء، ولا تنتظر أن يشرح لها الآخرون هذه الصورة..
هنا تتبدى العلاقة الحارة والرائعة بين الشاعر وبلاده. الشاعر يلقي رأسه على صدر الأم، ويأخذ في هذا البكاء الحزين الطويل. تلتغي المسافة، ليفيض الشاعر بكل متاعب وهموم قلبه. وهل هناك أقرب من هذه البلاد / الأم/ إلى نفسه ومشاعره ووجدانه.. فلماذا لا يدخل في هذه الصورة الرائعة من التوحّد مع الأرض والبيوت والشوارع والشجر. لماذا لا يبدأ في تلاوة نشيد عشقه وحزنه.. لماذا لا يأخذ في النبض مع نبض الأرض والبلاد.. لماذا لا يكون الوردة والدمعة والناي وأشعة الشمس..
في مثل هذا التداخل والتوحد، وحين يشتدّ خفق القلب، يحرق الشاعر كلّ أوراق "المهزلة" ويأخذ في حكاية العشق الكبير:
يا بلادي أنا هنا منذ بد الـ بدء أغنية ووعد خصيبُ
جذع زعرورة أنا في شعابي وغمام على الجبال سكوب
والتحام العنقود حضن الدوالي وعذارى تاهت بهن الدروب
أنا قمح وزعتر وخواب وعتابا وموقد مشبوب
ويصرّ الباغون أني عدوّ ويصرّ التراب أني الحبيب
وطبيعي أن يطلق الشاعر في مقطع لاحق، صورة أمله وتفاؤله، وأن تكون الدعوة واضحة إلى السير على درب الخلاص من الاحتلال:
أيها الصبية المغيرون شوقا يشتهي الليل خطوكم والدروب
أيها الصبية المطلّون فجرا تفرش الأرض حضنها فاستجيبوا
عند هذه النقطة، يمكن التوقف عند قصيدة الشاعر شكيب جهشان عن الانتفاضة الباسلة في الوطن المحتل، حيث تتبدى أيضاً معالم كثيرة من معالم شعره.. فماذا يقول؟؟ في قصيدة " يا أجمل الشهداء" ينقل الشاعر صورة الشهيد على شكل لا نراه عند شاعر آخر. شهيد الانتفاضة هنا يترسّخ ليكون صورة كل الشهداء. وفي الخطاب إلى والد هذا الشهيد:
أغمض له جفنيه
آه
أغمض له جفنيه
واطبع…
فوق هامته الأبية قبلتينْ
يا أكرم الآباء
وازرع
في الثرى المخضوب من دمه
لمجد عطائه القدسيِّ
إِزرع بيرقين.."..
فالواقعية تقترب لتكون في صلب الكلمة، من خلال واقعية الصورة وقربها الشديد إلى عين الشاعر.. ومن بعد، يأخذ الشاعر في التحليق شيئاً فشيئاً، ليتوافق مع الرمز والبعد والمعطيات. وعودة إلى الصورة:
أغمض له جفنيه
كانت صورة الوطن الحبيب
وديعة في بؤبؤيه
أغمض له جفنيه كانت شارة النصر المؤزّر
تملأ الدنيا عليه"..
ويمكن أن نلحظ إلى توقد التحليق في متابعة الخطاب:
يا أكرم الآباء
ينتفض الثرى المخضوب من دمه
على فرح السنابل
يا أكرم الآباء
ينتصر الثرى المخضوب من دمه
على أعتى الجحافل"..
وتتردد في النهاية لازمة لا يكاد لا ينتهي صداها " يا أجمل الشهداء حي أنت.. حي أنت.. حيّ..".. وكأن الشاعر وصل إلى قمة التحليق في النظر إلى الشهيد، وطبيعي أن يرى إلى امتداد صورته في كلّ شيء، بعد أن سقى الأرض من دمه هذا النور القادر على الثبات والمقاومة والانتصار.
كما نلحظ، الشاعر شديد الاختصار والإيجاز في العبارة والصورة وما إلى ذلك، كأنه يقول إنّ الوقوف أمام الشهيد يحول الكلمات إلى برق ورعد ومطر. الشهادة تفرض قانونها الخاص على الكلمة، والكلمة تلتزم كل الالتزام بمثل هذا القانون الرائع. هل هي صورة الشهيد في اختصار الكلام، والتحول إلى الفعل.. هل هي صورته في تكثيف المعاني بمعنى العطاء والخصب والامتداد..؟؟... ربما..
قد تبدو مثل هذه الفرضية أكثر وضوحاً في قصيدة "عندما تولدين" التي يتوحد فيها شكيب جهشان مع شهيد الانتفاضة، ليوجه الخطاب إلى الوليدة القادمة، وطبيعي أن يفهم المعنى الحقيقي لهذه "الوليدة" التي تعني الحرية والخلاص من الاحتلال، حيث:
عندما تولدينْ
سلمي لي على
أخوتي العائدين"..
المقطع هنا في غاية الاختصار والإيجاز، وهو ما تسير على نهجه بقية مقاطع القصيدة، حيث المقطع اللاحق:
طالع من حجر / غدنا المرتجى / والأغاني الأخر..".. ومقطع آخر في صورة الشهيد:" كان مثل الجواد / يستبيح المدى / والرزايا الشداد..".. فالشاعر كما أسلفت، يضع الكلمة أمام الشهادة في اختصار الكلام. ومن جهة ثانية، وفي هذه القصيدة خاصة، يلجأ إلى طلب السرعة عن قصد.. فلماذا؟؟..
قد يبدو شكيب جهشان في هذه القصيدة على شكل غريب من الركض والسرعة والقفز. وأحياناً نظن أنه يتجاوز بقية الكلمات. ذلك أنّ الشاعر يريد الحرية ويطلبها ويستعجل حضورها، وهو يرى إلى الانتفاضة الباسلة وهي تسير بخطوات واسعة على طريق الحرية.
هنا يمكن أن نقف عند المقطع الأخير في القصيدة والقائل: أيها العائدون / سلموا لي على / أهلي الصامدين..".. لنرى كيف يختصر الشاعر الوقت والزمن في استحضار هذه الحرية، وهو يتطابق ويتوحد مع هذه الحرية، لتكون واقعاً ملموساً، يمكن أن ترى العين أشعة شمسه بكل وضوح.
تجدر الإشارة إلى أنّ الشاعر دائم التفاؤل والأمل في الحديث عن موضوعات الانتفاضة ككل. وإذا كانت صورة الشهيد، لا تعني إلا التفاؤل والأمل كما مرّ معنا، فإنّ بقية الصور لا تبتعد أبداً عن هذا المعنى.. نسمع في هذا السياق:
أيها الأخوة الصامدون
أيها الزارعون على جبهة الشمس نبض الآباء
يداً بيد..
سوف نبني الوطن
ويداً بيد سوف نلوي ذراع الزمن
أيها الأخوة الصامدون
يداً بيد يستفيق الربيع
وينتفض الكون حراً، فيعتنق الكبرياء
أيها الأخوة الزارعون على جبهة الشمس نبض الآباء
ويداً بيد سندق مع الفجر باب السماء.."..
فالشاعر يبقي الصورة مفتوحة على فضاء واسع من الأمل والتفاؤل، إلى جانب التأكيد والإصرارية على أنّ الحرية قادمة لا ريب. وطبيعي أن تكون الأفعال مليئة بالثقة والامتداد والخصب. فالشاعر لا يقدم صورة مجانية، أو فعلاً بعيداً عن معناه المليء بالامتداد.
أخيراً، أشير إلى أنّ ما تناولته بالدراسة، وما اخترته من مقاطع وقصائد، لا يشكل إلاّ القليل من العالم الشعري الواسع والغزير للشاعر الفلسطيني شكيب جهشان الذي قدّم الكثير من الشعر الفلسطيني المقاوم على مدار السنوات الطويلة الماضية. ولكنني لا أنسى الإشارة أيضاُ، إلى أنّ قراءتي هذه مساهمة لا بدّ منها لتقديم واحد من رواد الشعر الفلسطيني المقاوم، لم تعرفه صورة هذا الشعر في وطننا العربي، رغم أنه علم بارز بين الشعراء في الوطن المحتل، وطبيعي أنه معروف منذ مدة طويلة لدى جمهور القراء هناك.
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|