فتحي القاسم والركب الهادر
[align=justify]
يعتبر الشاعر فتحي القاسم، ابن مدينة الناصرة، والمولود في العام 1943، واحداً من شعراء الوطن المحتل المعروفين في مجال الشعر الفلسطيني المقاوم، وقد صدر له ديوانان على حدّ علمي الأول "شامة على خد الوطن" 1978 والثاني "نشيج الليل والنهار" 1989. عمل في التعليم بعد الدراسة الثانوية. وهو ينشر في صحف ومجلات الوطن المحتل منذ سنوات، وكنت قد اطلعت على عدة قصائد لهذا الشاعر خاصة المنشور منها في صحيفة "الاتحاد" الصادرة في مدينة حيفا، فرأيت أنها تتميز بحس خاص يمكن أن يعطينا مدخلاً مناسباً لفهم هذا الشاعر في قصيدته وصوته وتوجهه فماذا نجد؟؟..
في العام 1982 نشر فتحي القاسم قصيدة حملت عنوان "الانتفاضة" لتكون إلى حدّ ما قريبة من الحدث البطولي الشامخ الذي حمل اسم "الانتفاضة" فيما بعد وامتدّ على مدار السنوات اللاحقة. طبيعي أن تكون القصيدة – وكما هو متوقع – ذات موضوع مقاوم يسعى لنيل الحرية،ويحرّض على تأجيج الفعل، ولكن إذا جاز لنا أن نتناسى تاريخ نشر القصيدة قليلاً، لوجدنا أنفسنا أمام قصيدة مكتوبة في زمن الانتفاضة ومن خلال معايشة حدثها. إذ يقول فتحي القاسم:
ينتفض الركب الهادر كالبركان
ويقتلع الطغيان ويمشي رغم البؤس الغامر
والأحزان..
ويمشي مهما كان
وربما كانت الانتفاضة التي اشتعلت في نهاية العام 1987، جواباً على سؤال حملته قصيدة الشاعر حين قال "من يمسح دمعي، من يبرئ جرحي / من يشفيني من داء الأحزان" وهو ما يمكن أن نلحظه في قصيدة أخرى نشرت للشاعر في العام 1988تحت عنوان "الفعل المضاد" حيث الكلمة التي تسعى إلى معانقة الفرح وتصوير الشموخ وملاحقة الحدث في كل خطوة منه.. كيف؟؟..
في هذه القصيدة "الفعل المضاد" والتي تنقسم إلى قسمين "على أبواب غزة" و"ردّ فعل" نقرأ صورة تأخذ شكل القصيدة العمودية، وأخرى شكل قصيدة التفعيلة، في الأولى "على أبواب غزة" نقرأ:
على أبواب غزة دام خطب وصار الدرب أحجاراً تهبُّ
تشبّ النار تحرق كل دار وفي الأسماع حزن يشرئب
يموت الطفل والشارات تعلو لرسم النصر أفواجاً تصبّ
على قدس الشهادة داس وغد وفي نابلس مأفون يسبّ
غلت شطآننا واهتاج بحر وصار الرمل متراساً يشبّ
على أشلائنا خطروا وعاثوا وليل الظلم أشباح تدبّ
وفي الوديان زمجرة تنادي ألا هبّوا شباب الدار هبّوا
فلسطين استعدي لاح فجري فما كلّت لنا همم وعصب
يلحظ أنّ هذه الأبيات، وقد جاءت تقليدية الشكل، أرادت القول أن كل ما يحدث إنّما يشكل مخاضاً وبداية وخطوة على الطريق. قد يكون الظاهر أقرب إلى إعطاء صورة ترسم مستوى واحداً لا تتبدل خطوطه ولا تتغير، ولكن الحقيقة تقول إنّ هناك حركة متلاحقة في كل لون وخط من ألوان وخطوط هذه الصورة. إن الاقتراب إلى حدّ الملاصقة والمعايشة من الأحداث السابقة على الانتفاضة في الوطن المحتل، كان يعني للقارئ أنّ هناك مخاضاً يبشر بميلاد ثورة عارمة شامخة. ولنا أن نرى في هذا الصدد إلى عدة أفعال في القصيدة مثل "تصبّ" "غلت" "اهتاج" "هبوا" "استعدّي" و"لاح"..
لنجد أن الصورة مفتوحة على حركة الفعل القادم والذي تشكله الانتفاضة، فالأفعال أفعال وعد وانتظار وتحريض، وهو ما يعني أن الانتفاضة قادمة لا ريب..
في مستوى آخر، تعمل الأبيات على تصوير حالة البؤس والعذاب والقهر لتقول إنّ الاحتلال لا يمكن له أن يوجد غير السواد. النار تحرق كل بيت، وفي الأسماع حزن، وهناك أطفال يموتون، وهناك وغد يدوس على قدس الشهادة، وقد خطروا وعاثوا على أشلائنا، وليل الظلم أشباح تدب.. وهكذا.. لتكون الصورة قاتمة مليئة بالحزن والدمع وانفتاح الجرح.. ولكن هل أغلق الشاعر هذه الصورة دون رفدها بصورة أخرى..
كان طبيعياً أن يولّد الحزن انفجاراً، وأن تولد الآلام والجراح بركاناً لا يهدأ. هكذا أرادت الصورة أن تقول، فالاحتلال احتلال، وعلى الفلسطيني أن ينهض إلى انتفاضته ليكتب سطور العطاء على طريق الخلاص.
وإن لم يفعل ذلك، لبقي الاحتلال بما يحمل من حريق وحزن وموت وفساد وظلم.. وكيف لإنسان أن يرضى بذلك؟؟..
في "ردّ فعل" تأتي المفردات لتشكل وقوف الشاعر في وجه الجلاد، حيث:
أيامي في صدّك مشهوده
أيامك يا هذا معدوده
لا ترقص فوق الأشلاء المعبوده
فالساعة لن تتوقف
لن تحرق فوق المدن الموصوده
تحترف القتل لقتلي
وتسدّ الأبواب لخنقي
أتعيش لأفنى
يا ويلك من صلبي
فأنا مهما أبذل في صدّك
لن تضعفني
وكأننا أمام صياغة تقول بإصرار الشاعر على الاستمرار في المقاومة مهما كانت العذابات التي يتعرض لها. وطبيعي أنّ الجهد المبذول في الوقوف لا يعني أي نوع من أنواع الضعف أو الميل إلى التراجع. شعب فلسطين يقدّم التضحيات والفداء والدم ليزداد إصراراً على مواصلة مشوار الصمود والمقاومة والتحدي، وهو في هذا يعرف أنّ النصر قريب، وأنّ دم الشهادة شمس تشرق على صباحات الأيام القادمة. والشاعر في رسم هذه الصورة، يتشبث أكثر فأكثر بالفجر والتفاؤل.. فهل قالت القصيدة عند الشاعر فتحي القاسم كل شيء؟؟...
في قصيدة "عكا تنشر للشمس بهاها"المنشورة عام 1989، يلجأ الشاعر إلى عكا الأسطورة والتاريخ والحاضر والمستقبل، ليغني الانتفاضة بكل ما تحمل من شموخ وروعة وامتداد، مع أنه لا يذكر الانتفاضة بمفردة واحدة، حيث 00 "عكا واقفة كالطود / تلوّح للتاريخ بيمناها / لا تبسم في وجه المحتل / ولا تقفل فاها..".. وحيث " يحميها البحر / فتنفض عنها أثواب التيه / وتنشر للشمس بهاها..".. وعكا " تمتدّ شوارع وحكايا / وتلالا تتحدى / وقلاعا تتصدى / وفنارا يتعالى" و"مات الجزار وعكا باقية / في القلب سناها / عكا الأسطورة ترقب خطوي / تشرب دمعي / تحترق بجرحي فيثور لظاها..".. و"عكا تنتظر العودة / رغم الريح الصرصر واقفة / تنشر للشمس بهاها / وتعانقني وتظلّل روحي يسراها.."..
هي عكا إذن، والصورة أوضح من أن تستباح لتلمس جوانب الشراع والتدقيق في خط سيره ووجهته.. عكا هنا تفتح القلب جرحاً وتواصلاً وكثيراً من انتظار. فإلى جانب غناء الانتفاضة، والتغني ببطولاتها، هناك هذا التواصل مع كل ما تحمل من صور المجد والشموخ والتاريخ، وهناك انفتاح الجرح على السؤال: إلام تبقى الطرقات حبيسة هذا القيد الثقيل، وإلام تبقى الخطوة الجارحة على مثل هذه الدروب.. وعكا لا يقولها الشاعر هنا بقدر ما تتلوه، ولا يقولها الشعر هنا بقدر ما تبث فيه من معان وأغنيات. لذلك كانت عكا في مثل هذا التواصل مع الانتفاضة.
أخيراً نقف عند قصيدة "مشاهد أزلية" المنشورة عام 1990 حيث التقديم "في الأمس عاداني الكرى / وقضيت ليلي ساهراً ومفكراً / نجم علا / نجم هوى / والقلب يعصره الجوى / ماذا جرى / حزني مع الكلمات يستبق المعاني والرؤى" والختام: "أم الشهيد تهزني / وتصيح بي / ما زال يمرح بيننا / دمه سراج في الليالي المظلمه / نهر جرى / يمحو الأسى / ويفكّ أسر العاشقين بفيضه / ويروّي أقداس الثرى / نجم علا / نجم سرى / والقانعون بعريهم / وبزيفهم / حصدوا النوى..".. وطبيعي أن الصورة تختلف بين التقديم والختام، ليكون دم الشهيد صرخة تحارب الحزن والبؤس وتسعى إلى تأكيد التفاؤل بالغد، لذلك كان السراج في الليالي المظلمة، وكان النهر الذي يمحو الأسى، ويفكّ أسر العاشقين بفيضه.. ونعود إلى القول إنّ الشاعر لا يذكر الانتفاضة ومفرداتها التي تكررت في قصائد شعراء كثيرين، بل هي عنده ذات وقع مغاير في امتداد صورتها. فالانتفاضة عند فتحي القاسم ممتدة في الحياة وملتصقة بجزئياتها ومتفاعلة كل التفاعل مع ألوانها. والأغلب أنّ الحياة في الوطن المحتل تقول الانتفاضة بكلِّ صيغة وكل لون، وهو أمر واقعي إلى أبعد حد.
لا داعي هنا لفصل الانتفاضة عن الحياة اليومية، لأن الحياة اليومية انتفاضة. وكلّما أوغلنا في رسم تفاصيل هذه الحياة ازددنا قرباً من رسم معالم الانتفاضة.. ويبقى أنّ الشاعر فتحي القاسم صاحب صوت متميز في عالم القصيدة المقاومة، وله بصمته التي تتبدى في هذه القصيدة أو تلك لتقول بشاعريةٍ عرفنا بعض جوانبها من خلال النماذج السابقة.
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|