سليم مخولي والانتفاضة
[align=justify]
الدخول في مساحة الشعر تتطلب تعرفاً وغوصاً وغير قليل من المعلومات عن حياة هذا الشاعر أو ذاك. ومثل هذا الأمر يبدو صعباً أو بعيد المنال عند محاولة القبض على شيء من مسافة الشعر الفلسطيني المقاوم في الوطن المحتل، عندما يتعلق الأمر بشاعر لم تسلّط عليه الأضواء في الوطن العربي من قبل. بما يعني غياباً كاملاً للمعلومة التي تفيد في تشكيل أرضية معرفية. وللنموذج الشعري الذي يفيد في تشكيل صياغة نقدية بناءة في كثير من الأحيان.
وعند المحاولة التي تعد ضرورة لتقديم الجديد. لا بد من السير بخطوات باحثة مدققة تكتفي بالقليل المتوفر لبناء بداية مقبولة… فهل يأتي الحديث عن الشاعر الفلسطيني سليم مخولي من هذا القبيل؟؟..
ربما كان علينا أن نتعرف على هذا الشاعر منذ مدة طويلة، كما هو الشأن بالنسبة للكثيرين سواه في الوطن المحتل.
ولا داعي للتفصيل هنا في الأسباب التي دعت إلى غياب أسماء ونتاج هؤلاء. فالمهم أن نقدم شيئاً عنهم يمكن أن يفيد.. فماذا عن سليم مخولي...؟؟..
ولد الشاعر سليم مخولي في كفر ياسيف بالجليل عام 1938 ودرس في مدرستها الابتدائية والثانوية التي أنهاها في العام 1957. بعد ذلك درس الطب وتخرج طبيباً عام 1964 ليمارس عمله في مشافي العفولة ونهاريا إلى حين، وبعدها كان الاستقرار في كفر ياسيف للعمل في عيادة صندوق المرضى..
في المجال الأدبي نشر إبداعاته في صحف ومجلات الوطن المحتل. ويعتبر زمنياً من جيل راشد حسين وشكيب جهشان ومحمود دسوقي وطه محمد علي وسواهم. أي من الجيل السابق لجيل محمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران… وقد صدرت له في الشعر الدواوين التالية: "معزوفة القرن العشرين" عكا 1974. "صدى الأيام" عكا 1974.. "ذهب الرمال" 1989.. و"تعاويذ الزمن المفقود" 1989… فماذا عن شعره؟؟..
نميل هنا إلى الحديث عن قصيدة الانتفاضة عند سليم مخولي، ذلك أنها الأحدث في شعره والأقرب إلى ملحمة النضال والمواجهة والكفاح الناهض في الوطن المحتل. ومن خلال مثل هذه القصيدة، يمكن أن نتعرف على سليم مخولي كواحد من شعراء المقاومة الذين أصروا على وضع الكلمة في ساحة الفعل، فكانت سلاحاً كما الحجر والسكين في وجه الاحتلال.
في قصيدته" نعبر الأيام شوقاً" التي نشرت بتاريخ 24/6/1988 يعزف الشاعر منذ البداية لحن الأمل والتفاؤل في نظرته إلى الحاضر والمستقبل، حيث: "نعبر الأيام شوقاً للذي يأتي / وما يأتي انتظارْ / ونغني للصغارْ / فرح الفجر سويه" ويكون له أن يقارن بين حالتي الموت والحياة. بين حالتي صاحب الحق والغاصب: "هل تساوينا حياة أو مماتْ / فوق أشباه الدمار / هل تساوى الشوق فينا / فاتح يعبر الأرض على دبابة / خلف شهيد لم يفارق عمره / بعد ويمضي في المنام / وصبي كغزال الروح يمشي / فرّ من صياده بين الركام / وحفاة وعراةْ / وغزاة خرجت عن جلدها / في الغاب.. والغاب انتحار / ونغني للصغار".. ولنا في كل ذلك أن نفهم شيئاً غير قليل من الفرح في قلب الشاعر وهو ينظر إلى هؤلاء الأطفال وهم يشقون الطريق إلى الفجر. وغير قليل من الحزن في قلبه وهو يرى إلى غياب التوازن في مقتضيات المواجهة بين صاحب الحق والغاصب، أو بين القتيل والقاتل. بين الوردة الناهضة شوقاً وحباً وأملاً في الخلاص، والشوكة المسكونة بالشر. ورغم ذلك، يبقى الغناء للفجر أصيلاً وجميلاً ومرتفعاً عند التلاحم مع هؤلاء الأطفال. وهذا ما يدفعه إلى الاستمرار في عقد المقارنة. و"لتكن أيامكم شكلاً عجيباً لمفاهيم البقاء / وبناء راح يعلو / فوق أنقاض البناء " و"لتكن أيامنا بعض جذور / أو تعاويذ انتماء / فليكن ما كان فينا / لم يزل للحق حق / لم يزل للشوق شوق / لم يزل للبرق صدق / ونغنّي للصغار / فرح الفجر سويهْ"...
في القصيدة هذا الميل إلى المقارنة المؤدية بطبيعة الحال إلى الإصرار على انتصار الانتفاضة ووصولها إلى الفجر. ومثل هذا الميل يجعل القصيدة أمام صورة الواقع أقرب إلى نقل الحقيقة كما هي. فالشاعر لا يستدرج طرفاً دون طرف للدخول في نسيج قصيدته، بل يعمل على فتح التعبير وأشرعته للإبحار في كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة. عنده أن الطفولة تحارب بحجرها دبابة ورصاصاً، لتصر على الانتصار رغم افتقاد التماثل في السلاح والذخيرة. وعنده أن الغاصب يحارب صاحب الحق ويطغى، رغم افتقاد التماثل وانتفائه في الانتماء إلى الأرض والطبيعة الفلسطينية، من هنا هذا الإصرار الماثل أن الفلسطيني لا بد منتصر.
في هذه القصيدة لا بد من التوقف عند جزء من صورة الطفولة الفلسطينية المتحدية للوقوف على جانب من جوانب هذه الإصرارية على النصر، يقول: "هوذا الطفل تجلى كمسيح / في سحاب الرمل والرمل انتشار / لخلايا الروح في الصدر الفسيح / يرقد الطفل جريحاً / أو ذبيحاً وينام / في ظلال المهد أو عطر الخزام / أمنا الأرض احضنيه / واتركيه / حالماً من أجلنا الحلم حرام"..
في قصيدة أخرى حملت عنوان "إيقاع للرصاص ووقع الحجر" ونشرت بتاريخ 8/1/1989 يبدأ الشاعر بالقول:
"اكتبْ لذاكرة الزمان، على الدروب على الشجرْ / اكتب فصول رواية محكية في الأرض كانت عبرة لمن اعتبرْ" والعبرة لا تتأخر عن المطلع حيث: "إن الشعوب مصيرها في كفها… أفتى الحجرْ".. لنرى إلى هذا الانتقال الكبير في صورة الحجر وأبعاده، إذ أن الحجر يفتي بمثل هذه الفتوى التي تنتقل لتكون قانوناً في كل زمان ومكان، والتي تستند إلى واقع يعيشه هذا الحجر المقاتل في فلسطين المحتلة وبما لا يبتعد عن مغزى الفتوى، فها هو شعب فلسطين يقرر مصيره بيده، مصراً على نيل الحرية. لذلك كان انفتاح النشيد:
واهتف لقامة ناهض فوق الركام وللصبايا
زغردتْ للموت في ساح الضحايا
للشباب وللطفولة..
للنساء وللشيوخ.. وكلّ من يهوى حجرْ
واحفر لذاكرة الزمان على الشجرْ
طوبى لكل مدافع
للكفّ تلطم مخرزا
للصدر يغمد حربة
ولقبضة للروح في الرمق الأخيرْ
تكوّرتْ ترمي حجرْ..
كل صورة ترسم إطارها الذاهب في هذه الإصرارية، لتكون الصور في مجموعها تأكيداً على مدّ الخطوة إلى النهار. فابتداء من الهتاف لقامة الناهض، ومن الزغرودة التي انطلقت رغم الموت والدم، وامتداداً في الهتاف للشباب وللطفولة، للنساء وللشيوخ، ولكل من يحب هذا الحجر المقاتل، تكون الصور. وعليه يأتي هذا الحفر الترسيخي لذاكرة الزمان، وهذا الحفر الترسيخي في ذاكرة الزمان، أن الملحمة صنعت الفجر، وأن الملحمة أنضجت الثمر، فطوبى لكل من وقف في وجه الظلمة مؤكداً على النصر.
يمكن أن نقف هنا على الصورة التي رسمها الشاعر للاحتلال في قصائد تكاد تكون خاصة بذلك، وبما يختلف عن الصياغة السابقة التي لاحظناها من قبل. تأتي على سبيل المثال قصيدته "وجعلنا لكم القافية سواد" المنشورة بتاريخ 29/4/1988 حيث:
" زمن أسود / عصر أسود"... "..من غرف التاريخ المظلمة / انفلت التاريخ الأسود" فالأسود هو المسيطر على كل المساحة، وهو المسيطر على كل المسافة، وهو الطاغي. فالشاعر لا يرى في أي شيء يرتبط بالاحتلال غير السواد: " قلب أسود / ينظر في مرآة الذات / فيبصر وجهاً أسودْ / لص أسود / يدخل من شرفة أحلام الليل / فيسرق قمحاً وحليباً / بسمة طفل أو غفوة كهل / يكسر محبرة قلم رصاص / يخطف لوح الصف الأسود.."..هكذا هي صورة الاحتلال، ولا نجد أي لون آخر في مثل هذه الصورة..
وفي حيز هذا اللون، وفي الصورة المرسومة للاحتلال، نقف أخيراً عند قصيدة سليم مخولي "أحلام طاغية" المنشورة بتاريخ 5/2/1988 حيث الانتقال المباشر إلى ذات الاحتلال وهي تروي الحلم الواقعي، أو الواقع الذي يكاد يكون حلماً:" لست أدري أي حلم كان هذا / أي شؤم لست أفهمْ / كل شيء كان مبهمْ / لست أدري ما اعتراني / أي كابوس أتاني / فكبا تحتي حصاني / ورماني / في قفار من متاهات جهنم".. و"هل أنا في يقظة / أم في حضيض النوم أحلم"..
الطاغية لا يريد أن يصدق ما يحدث. لا يريد أن يفتح عينيه ليرى هذه الحقيقة الساطعة الواضحة كنهار "..وصخور الأرض طارت / كشظايا في الفضاء / وخيال يحجب الشمس ملثم / لغلام أسود العينين أقدم / يحمل الأرض بكف / وبأخرى خرقة، شكل علم / أنت ماذا / صحت في خوف جنوني.. فتبسم / وتقدم.. كان طفلاً / غير أني لست أفهم / ما الذي يبغيه مني. أي أمر يجعل الطفل معمم"... ويبقى الإصرار على إغماض العين ومحاولة حجب الشمس بغربال.. وعندما يفتح الطاغية عينيه يكون السؤال المباشر: "غير أني لست أدري لستُ أفهم ْ / كيف لا يخشون بطشي وحديدي / كيف لا يخشون ناري ورصاصي… قد ضربناهم قتلنا وذبحنا / شيخهم والطفل في الرحم / ونبشنا قبر أجدادٍ لهم / ونسفنا كل سقف وجدار"..
" كيف قاموا من رقاد العيش حجراً وشراره.. / أشعلوها وتحدونا.. رمونا بالحجاره.."..
وتكون النهاية في القصيدة: "غير أني لست أدري.. لست أفهم / رغم علمي وفنوني / وجنودي وجنوني / رغم سيفي ودروعي / وانتصاراتي وبطشي ومفاهيمي القويه / لست أفهم / أي سر يجعل الطفل معمم / وتبسم / حين أقدم..".. لنرى إلى هذا الإغراق في الإصرار من قبل الاحتلال على عدم الفهم، أو إدعاء عدم الفهم. لتقول القصيدة في مجملها أن الاحتلال هو الاحتلال ولا يمكن أن يغير من أساليبه الفاشية أو يتغير.
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|