علي الخليلي ولغة الشجر
[align=justify]
ولد الشاعر علي الخليلي في حيّ الياسمينة القصبة مدينة نابلس بتاريخ 3/1/1943، ودرس الابتدائية في الخالدية، ثم الثانوية في الصلاحية بنابلس، وبعدها أنهى دراسته في كلية التجارة في الجامعة ببيروت عام 1966.. عمل رئيساً لتحرير "الفجر الثقافي" ورئيساً لتحرير جريدة "الفجر" المقدسية… وقد صدرت له الأعمال التالية: "تضاريس من الذاكرة" شعر / بيروت 1974.. "جدلية الوطن" شعر / بيروت 1975.. "الضحك من رجوم الدمامة" شعر / الناصرة 1978.. "أغاني الأطفال في فلسطين" دراسة / القدس 1978. "التراث الفلسطيني والطبقات" دراسة / القدس 1978.. "كتابة بالأصابع المقيدة" "حكايات وجدانية" عكا 1979.. "المفاتيح تدور في الأقفال" رواية عكا 1979.. "نابلس تمضي إلى البحر" شعر / بيروت 1979.. "البطل الفلسطيني في الحكاية الشعبية" دراسة / القدس 1979.. "تكوين للوردة" شعر / تونس 1980.. و"عايش تلين له الصخور" حكايات للأطفال / القدس 1980. وله العديد من الأعمال الأخرى.
في دخول عالم الشاعر علي الخليلي، وقراءة قصيدته المقاومة، نتبين الكثير من ملامح التكوين الشعري عنده، إلى جانب الوقوف على صورة الموضوعة وأبعادها ومراميها، ولا بدّ من ملاحظة التطور الحاصل في قصيدته مع مرور الزمن.. كيف..؟؟..
في قصيدته "لن يمروا" المنشورة بتاريخ 8/6/1982 نقرأ صفحة نابضة من تعامل الشاعر مع صورة الغزو الإسرائيلي للبنان، حيث ترتسم صورة المقاومة لهذا الغزو لتكون الصورة الأوضح والأبرز والأكثر حضوراً. فالاحتلال القادم بكل أسلحته الفتاكة، وكل أساليبه المعروفة في القتل والتخريب والتدمير، لا يشكل نابضاً حياً يمكن أن يملأ الصورة بالحياة، فهو غزو همجي يعتمد على آلة دمار معروفة.. ولكن ما هي أبعاد الصورة المواجهة والمتحدية والمتصدية؟؟..
هنا تبرز ملامح "النابض الحي" والاستثنائي، حين يقف الإنسان المقاوم هذه الوقفة الشامخة ليقول كلمته بالحرف العريض الواضح، لنكون أمام صورة تملأ العين بالرائع والجديد، وهو ما جعل القصيدة أميل إلى تتبع ألوانها وإبرازها بكل جلاء، حيث: "ويشرق الصبار والفخار والحصير / وتشرق المخيمات / يا مخيماتنا / يا دمنا / يا لحمنا / ومجدنا ونجمنا الذي ينير.. / فالشتات غير ما بدا الشتات / ها.. والفلسطيني والحياة / يصعد من جراحه / وفي جراحه / وفي قيوده / وفي صموده / يستبسل الوحيد والشريد والشهيد والفقير / يقاتل / ويدفع القوافل / قوافلاً.. قوافلاً.. قوافل / تملأ من منازل الوعد منازل / ومن صباحها جداول / ومن ترابها مشاتل.. / ليصبح الحديد والفولاذ والقصدير / مقبرة الغزاة.."..
مثل هذا التدفق في التعامل مع الإنسان والموجودات لا يقول غير صورة النهوض الرائع في مواجهة كل هذا القبح المسلح بالسواد. وطبيعي أن يأتي الإشراق ليقول الكلمة الفصل رغم الظاهر الذي يطرح اجتياحاً ودماراً وانكساراً في المساحة المنظورة على أرض الواقع. ولا تلاعب في الألفاظ هنا، ولا تراجع عن تسمية الأشياء بأسمائها. فالمقاتل الذي يتعرض لكلّ هذا الدمار ويقف، لا يمكن أن يكون شخصية مهزومة بأي حال، ما دام قادراً على الوقوف والثبات والتحدي رغم كل هذه الضغوطات.
أفلا نقول هنا بشخصية دخلت حيز الاستثنائية بشكل عريض: " والفاكهاني أمة تثور / والقدس والجذور / والبحر والثغور / - لن يمرّوا / تساقط القيود والطغاة / من جرحها / ومن عذابها الذي يفور / والذي بذوره بذور / تنبت في النار فتورق الصدور / والملح في البارود والصخور / والحائط الأخير / لا بأس / لن يسقط / لن ينهار / حتى لو تفجَّر السعير"..
هل وصلت الصورة إلى رسم كل الملامح التي أرادت رسمها، أم أنّ في العين بقية ما زالت تنتظر دورها لتنتقل إلى عالم الكلمة واللون وحركة الخطوط..؟؟..
في قصيدة أخرى حملت عنوان "دلالة أن أفقد رأسي" ونشرت بتاريخ 28/9/1982 نقف على جزء من متابعة الرسم، وإن اختلفت الخطوط والألوان وضربات الريشة. الشاعر هنا أميل إلى نبرة الهدوء والسكون والوجع. أشهر قليلة بين هذه القصيدة وسابقتها، تضعنا أمام فارق حاد في حالة التصوير والشعور والانتباه، وهذا ما يجعلنا نقف أمام صورة الفاجع في كل ما حدث "أحدثكم عن سقوط النيازك، تندفعون إِلي: / عصافير أم شجرات الحديقة تطلع بين / الرصاص وبين فمي ويدي..".. و"الجثث النابضات المحرقة..".. و"آخذ في وجعي بلدي / وأجيء على وجعي بلدي" و"أكتشف الموت سلسلة من حياتي" صوت مفاجئ، وصورة تكاد لا تظهر في مساحتها غير الدمع والدم، وأي سؤال في مثل هذه الحالة يعتبر محملاً بألف سؤال وسؤال، ذلك أن الشاعر مسكون بالفاجع والوجع ورهبة السكون، وعلينا أن نحيط بكل ذلك، لنقول له: لماذا وكيف؟؟..
بعد سنوات، ومن خلال التداخل مع شمس الانتفاضة الباسلة في الوطن المحتل، تأخذ القصيدة حيز التوهج مع الحدث الصاعد عطاء وروعة وتدفقاً. عندها تصبح الكلمات أقرب إلى "لن يمروا" في مسافة الأمل والتفاؤل والتطلع إلى المستقبل بعين مفتوحة على وسعها، ولكنها في الوقت ذاته تصبح أكثر نضوجاً وتآلفاً وارتفاعاً.. ولنا هنا أن ننظر إلى تطور الشاعر وهو أمر طبيعي، وإلى روعة الحدث القادم بكل هذا الجمال والشموخ، ولا نستطيع أن نسقط أهمية هذا أو ذاك. فماذا تقول قصيدة الشاعر في هذه المرحلة..؟؟..
علينا أن ننتقل مباشرة إلى لغة "الشجر" في قصيدة علي الخليلي "شجر" المنشورة بتاريخ 13/1/1989 حيث هذا الفيضان النابض بكل معطيات الحياة والوجود والوقوف:
باركت قامته تفيض على ملامحنا، وتمسح يومنا
بقميصها القزحيّ
طاعمة وكاسية، وواهبة تراث الأرض قاطبة
تدور وتنتهي في راحتيه
مقامها وطن الخلود
وسعيها أفق بلا حدّ
ورقصتها مزار العاشقين إذا اشتهت أرواحهم قبس
المزار
باركت في يده جراح الانتظار
شجر هنا
شجر كثير ليس يعلوه الغبار..
ينمو وينهض ضدّ آلهة الدمار
يدنو ويخترق الحصار..
في هذه المسافة، أو المساحة المطرزة بلغة الشجر، لا نلقى غير هذا الانبعاث المتلاحق المتتابع دون أي توقف. ويمكن لكل شيء أن يكون حاضراً ما دام آخذاً بنبض الأرض والتوافق مع صورة النهوض الشامل العام.
فلسطين في هذا الكل هي فلسطين، وفلسطين في هذا النهوض هي فلسطين الماضي والحاضر والمستقبل. لذلك أخذت الأشياء تنادي الإنسان في ملحمة الوقوف والثبات والتحدي، ومن هنا وهناك كانت لغة الشجر تأتي لتلفّ العالم والزمن ورائحة الزهر الواعد بالكثير:
شجرٌ هنا
شجر كثير كله حلو الثمار
باركتُ في يده المدائن والقرى ومخيمات
الراسخين على الجذور من
الكبار إلى الصغار
من علّم الشجر الكلام..
وعلم الشجر الكتابة والقراءة والصبابة في
الشوارع والأزقة والقفار
من علم الصخر المعتّق حزنه، وأباح في الحجر
النهار
من علم الأعشاب فتنتها..
هل كان للغة كل هذا الألق للدخول في مسار الحدث وللتداخل معه إلى هذا الحد.. تقول الصورة إنّ المفردات تستطيع أن ترقص مع دفقة الفرح، وأن الحروف تستطيع أن تشتعل مع توهج الحجر. وطبيعي أن الانتفاضة كانت كبيرة وشامخة ورائعة، وأن الكلمة أخذت تحاول التوافق مع نبض الحدث ووقعه. وإن كنا لا نقول بقدرة الحرف على رسم كل ملامح الحدث المشتعل على أرض الواقع، فإننا لا ننكر أيضاً قدرة هذا الحرف على الوصول إلى مستويات عالية من الإبداع في التوافق مع هذا الحدث والالتقاء مع معطياته:
شجر هنا..
شجر يقوم ويفتح الأبواب والأسرار
سيدتي تصلي
ثم تزرع وردة أخرى
وتزرع حنطة أخرى
وتزرع أمة أخرى
وتبعثني لأبعثها جديداً
في بلاد الله ناهدة
وشاهدة
وأسكت، هذه لغة الفخار
لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة
أيها العالي.. ومن ملك اللآلئ والمحار
في أعمق الأعماق من بذر البذار
من أطلق الأشواق من فكَّ الأسار
من نظّم الفقراء زلزلة
و:
شجر هنا
شجر كثير راكض
شجر هنا
شجر هناك
مورّد الوجنات، منتفض، نبيّ، شامخ
شجر يلملم بعضه بعضا
ويرفع بعضه بعضا
ويسند بعضه بعضا
ويسمو، كيف يعلوه الغبار
أخيراً يمكن القول إنّ الشاعر علي الخليلي استطاع أن يتواصل مع الحدث من خلال توهج المفردة ووصولها إلى مستوى متميز من النضوج، وإذا كانت القصيدة قد ارتبطت بحرارة مع المقاومة التي تصدت للغزو الصهيوني للبنان، فقد كانت أكثر توهجاً وتألقاً في التداخل مع حدث الانتفاضة الباسلة في الوطن المحتل، وفي هذا وذاك كان الشاعر قريباً من نبض المقاومة إلى الحد الذي أعطاه القدرة على التعبير بجمالية متميزة.
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|