محمود دسوقي وحب الأرض
[align=justify]
ولد الشاعر والقاص الفلسطيني محمود دسوقي في الطيبة / قضاء طولكرم / عام 1943، ونال الإجازة في الصحافة عام 1965، ثم البكالوريوس في علم الاقتصاد عام 1970. ثم دبلوم المحاسبة عام 1981. وقد عمل محاسباً منذ تخرجه وقد صدرت له في الوطن المحتل مجموعة قصصية تحت عنوان "المجزرة الرهيبة" وعدد من الدواوين كانت على التوالي "مع الأحرار" عام 1959.. "موكب الأحرار" عام 1963 "ذكريات ونار" عام 1970.. "صبرا وشاتيلا" 1982.. "جسر العودة" 1987.. "طير أبابيل" 1989.. "صوت الانتفاضة" 1991.. " زغاريد الحجارة" 1993..
.. والشاعر ينشر بعض إبداعاته في صحف ومجلات الوطن المحتل.. فماذا تقول قصيدته..؟؟..
في رأيي يقترب الشاعر محمود دسوقي إلى أبعد حد من القصيدة ذات الصورة البسيطة والمفردة ذات الوقع العادي، وهذا ما جعله بعيداً عن التحليق بشكل لافت في شعره. ولست أدري لماذا لا أجد عند هذا الشاعر / بالرجوع إلى النماذج القليلة التي بين يدي / الألق الاستثنائي الذي يشدّ القارئ ويأخذه إلى عوالم خاصة. وللحقيقة فالشاعر يلتفت كل الالتفات إلى موضوعه مسقطاً الاهتمام بأي شيء آخر، ليكون الفن ضعيفاً خافت الصوت في كثير من الأحيان.. وإذا كنت أميل إلى إعطاء الفكرة والموضوع الكثير من الأهمية عند دراسة الشعر الفلسطيني المقاوم، فإن ذلك لا يعني تناسي أهمية الفن والشاعرية في الشعر، لأن القصيدة كل مترابط لا يمكن أن يتوهج ما لم تتوهج كل جوانبه.
وقبل أن أمضي في دراسة موضوعة الشاعر، أضع هنا نموذجاً من شعر محمود دسوقي يقول: اضرب بعصاك على رأسي / ويداي عصاك تحطمها / واضربها.. امرأتي أختي.. / وانسف دكاني بيتي / أن يصبح ظلمك قرناً / فبعمر التاريخ / لن يمسي..".. ونموذجاً آخر يقول: "أحبك في القدس / وفي أرض يافا / أحبك في سور عكا / وأرض الجليل / أحبك في المهد مهد اليسوع / أحبك في الكهف / كهف الخليل / أحبك في شجر السرو والسنديان..".. لتكون الصورة واضحة أمام القارئ حيث يبدو ظاهراً هذا الغياب الحاد للحس الشاعري المتوهج، فالصورة ملتصقة بالواقع المشاهد بشكل لا يقدم أي جديد، وبما لا يعطي فسحة ممكنة للفن، ورغم قساوة الممارسات الصهيونية الظاهرة على أرض الواقع، وعلى شاشة القصيدة فإنّ الشاعر لا يدفعها إلى حدّ التماثل مع صورتها ذات البعد الواقعي القاسي على أقل تقدير، هو ينقل دون أن يدخل جميع مساماته وأنفاسه في ألوان وخطوط ومعاني الصورة المنقولة.. لماذا؟؟
لا أدعي أن النماذج المتوفرة – وهي جدّ قليلة – بين يديّ تعطي جواباً على ذلك…
في الانتقال إلى صورة الحب، لا نشك لحظة واحدة بأن حب الشاعر لوطنه كبير عميق، لكن لا نستطيع أن نلحظ روعة التوهج في النموذج الذي بين أيدينا. أيضاً الحب يأتي هنا من خلال تكرار مفردة "أحبك" وكأنها تكفي لتقول عشق الشاعر لأرضه. ويبقى أن الشاعرية لا تحلق التحليق المطلوب لتخلق فناً يوازي هذا الحب.. فماذا عن تعامل الشاعر مع موضوعته التي تأتي بشكل طبيعي لتكون معجونة برائحة الأرض ومعاني التحدي والمقاومة والثبات والإصرار على التفاؤل والأمل..
في قصيدته "الاسم الخالد" يركز الشاعر محمود دسوقي على اسم "فلسطين" وعلى كل حرف في هذا الاسم، ليكون شديد التواصل مع المدّ والمعنى، يقول: "لا أعرف إن كنت تناديني باسمي / أو أطلقت عليّ اسماً آخر / فأنا لا أعرف غير اسمي / فاطلق ما شئت من الأسماء / فاسمي / علم خفّاق / نجم لألاء / يشرق في كل سماء / اسمي محفور فوق جبين الشمس".. ولنا أن نرى إلى إعطاء الاسم هوية المقاومة والصمود والتحدي من خلال إصرار فلسطين على الاحتفاظ باسمها الحقيقي الذي سيبقى "فلسطين" مهما حاول الآخرون تزويره أو تغييره وتبديله. وهذا ما جعل الشاعر محمود دسوقي يتعمق أكثر في دخول مفردة "فلسطين" حيث مال إلى التعامل مع حروفها ليكون كل حرف ذا دلالة خاصة، وبما يؤدي في مجموعه إلى القول بالنهار الفلسطيني القادم، وبالأمل الفلسطيني المشرق، حيث: "الفاء وفاء ومحبه / واللام لأبناء الغربه / والسين سيرجع أبنائي / والطاء لأرضك يا حطين / والياء يكلل هامي الغار / والنون إنا لعائدون.."..
وفي قصيدة "الحب والأرض" نقرأ: "أحبك أرضي الحبيبة / أحبك يا من رويت ثراك الدماء / أحبك يا من رويت ثراك العرق / أحبك.. أحبك / أحبك مهما بعدت / أحبك مهما شقيت / ومهما افترقنا سأبقى أحبك / أحبك مهما يطول الزمان..".. الحب هنا يشكل تردداً يحاول الشاعر أن يعطيه لكل شيء في فلسطين، وهو ما يجعله يصرّ على التعامل مع الحروف مرة أخرى حيث تبرز خصوصية العلاقة مع اسم "فلسطين" بكل معانيها "أحبك بالفاء باللم بالسين / أحبك بالطاء بالياء بالنون / بحبك أقسمت أن لا نهون / وأن لا تدوم خيام الهوان / فمهما افترقنا غدا نلتقي / ومهما ابتعدنا غدا نلتقي / سنرجع للدار للبحر للأرض / سنرجع مهما يطول الزمان"..
في مثل هذه الوتيرة من الحب يقترب الشاعر من مفردات الطبيعة، ليشحنها بالكثير من التداخل معها وبما ينقلها فيما بعد لتكون ذات عمق دال وموحٍ: "أحبك حباً يفوق الخيال / أحبك في مبسط السهل / فوق التلال / احبك في البرتقال الحبيب / وموج المياه وخضر الروابي / وفوق الرمال / رويدك أرضي فلا تحزني / سأروي بدمي سفوح الجبال / سأروي السهول.. سأروي التلال / وركب الضحايا.. كهول / شباب.. نساء.. رجال / لحبك ضحوا / لأجلك ماتوا / لصنع المحال / سنرجع للدار مهما ابتعدنا / ومهما افترقنا سنرجع يوماً / فما من محال / سيرجع ركب الشباب الأباة / يكلل بالغار هام الرجال / سنحيي مع الفجر حفلاً كبيراً / وعرساً يفوق حدود الخيال.."..
في مثل هذا التصاعد تأخذ الطبيعة في الانتقال إلى حالة التأنسن والاقتراب من دفء القلب الإنساني بكل خفقاته ودمه، وهذا ما يجعلنا نلامس ونلمس وتيرة حبها لإنسانها الفلسطيني الذي أعطاه الكثير فأعطته ما أراد على طول الزمان، فكانت هذه العلاقة الخاصة. لذلك دخلت القصيدة لتكون في عمق الخفقة الممزوجة بالعطاء، وفي عمق الوعد المعجون دائماً بأشعة الشمس، وهذا ما جعل الدم عنوان صعود إلى قمة الالتقاء مع الأرض وحبها والإصرار على الدفاع عنها، ليكون الأمل مرتبطاً مع كل خطوة على الدرب. يلحظ هنا تعدد التصاعد والانتقال والامتداد، فالطبيعة تتوهج لتكون في الإنسان، والإنسان يتوهج ليكون في الطبيعة، والطبيعة تنادي الإنسان الفلسطيني، والإنسان الفلسطيني يفتح كل صنابير الدماء ليرويها بغزارة لا تعرف التوقف، والطبيعة ترحل بحركة دائمة في رحم الشمس لتصر على نهارات الأيام القادمة، والإنسان الفلسطيني يتواصل مع الأمل والتفاؤل معلناً أن الغد سيكون كما يريده ويرسمه ويقرر مساره.
ومع طلوع نجم الانتفاضة الباسلة في الوطن المحتل، كان طبيعياً أن تأخذ القصيدة المقاومة في معايشة هذا الفعل الثوري الرائع، وأن تتداخل مع كل امتداداته ومعانيه.. فماذا قالت قصيدة محمود دسوقي..؟؟..
في قصيدته المنشورة بتاريخ 1/9/1989 نستمع إلى نداء حار يوجهه الشاعر إلى كل امرأة في فلسطين المحتلة لتكون مع الانتفاضة فعلاً وفاعلية، من خلال التفاته إلى أهمية دور المرأة في المجتمع خاصة في مثل ظروف الانتفاضة التي خلقت وأوجدت مجتمعاً تميز بصورة فريدة قلّ أن تجد لها مثيلاً، فكانت الدعوة إلى مشاركة المجموع في فعاليات الانتفاضة نابعة من كل المعطيات الجديدة المتأججة ثورة عارمة لا تعرف الهدوء:
يا أخت في كل الأماكن ثورة ثوري على المحتل لا تترددي
بل أنت حصن للثقافة شامخ يبني لنا جيل التحرر في الغد
روّي الثرى يا أخت من شهدائنا أمّ الشهيد تصبّري وتجلّدي
مهما استبدّ الظالمون وجيشهم فالفجر آت بعد ليل مرعد
مهما ادلهمّ الخطب فوق شعابنا إنّا مع الفجر المنير بموعد
إن لم نثر من ذا يعيد لنا الحمى ثوري على حكم الطغاة تمرّدي
وفي قصيدته "لن يرهبنا نسف البيت" المنشورة بتاريخ 31/3/1989 نتواصل مباشرة مع هذا الإصرار على الثبات والوقوف في مواجهة الاحتلال مهما كانت الظروف والضغوطات والممارسات التي يقوم بها العدو الصهيوني، يقول "اعمل ما شئت / اهدم بيتي / اقتل أبنائي.. بنتي.. / لا.. لن يرهبنا نسف البيت..".. ليكون الثبات قامة عالية لا تحنيها ولا تكسرها الصعوبات.. والسؤال / ما دام الإنسان الفلسطيني قادراً على تحمل هدم البيت وقتل الأبناء فأي شيء يستطيع أن يثنيه بعد ذلك؟؟ يأتي الجواب ليقول: إن مثل هذه القدرة على التحمل تستطيع بكل بساطة أن تتابع الوقوف والثبات حتى النصر "وطني أفديه بروح أخي / بلدي أفديه دمي عمري" وطبيعي أن يكون النهار في هذه المسافة من الإصرار والتحدي منظوراً قريباً مهما اشتدّت الظلمة وازداد السواد في جنباتها: " فاعمل ما شئت / اهدم بيتي / اقتل.. إخواني.. أبنائي / بنتي / أن يبقى ظلمك قرناً / فشعاع الفجر غداً يأتي.."..
هل نقول إن الشاعر محمود دسوقي لم يكن كسواه من الشعراء الذين كتبنا عنهم من قبل في حديثنا عن الشعر الفلسطيني المقاوم في هذا الكتاب؟؟.
ما أصعب أن تأتي الإجابة مختصرة على هذا الشكل أو ذاك فالشاعر عالم متعدد الجوانب، غني بالألوان والخطوط والمعاني،ولا يمكن أن يضغط كل ذلك ليأتي الحكم عليه في كلمات قليلة. وبالنسبة لمحمود دسوقي، فقد رأينا في النماذج التي توفرت لنا / وهي قليلة / ابتعاده عن التحليق الشعري الخلاق وإلى الحد الذي يدهش ويبهر الأنفاس، فبقي في هذا المجال شاعراً عادياّ له ما له وعليه ما عليه. وقد رأينا في هذه النماذج أنه كان عاشقاً لأرضه إلى الحد الذي جعله يصر على مفردة حبه بشكل كبير ومتلاحق، ليكون عاشق فلسطين الذي لا يرى سواها حبيباً يمكن أن يعطيه القلب والدم والشريان، فكان في هذا المجال شاعراً تنبض قصائده بحب الأرض وتسعى إلى رسم معالمها في كل مفردة من مفرداتها. ولي أمنية أن تتوفر دواوين الشاعر في قادم الأيام بين يدي، لأقدم دراسة وافية عنه..
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|